مقدمة

يزخر تاريخ الأردن بنماذج نسائية مشرفة. ولا عجب أن تكون عليا الضمور وبندر ومشخص المجالي وغيرهن من نساء الثورة ضد المحتل العثماني سليلات تاريخ أردني طويل من الكفاح ضد الاحتلال والظلم.

إننا بصدد واحدة من هذه النماذج الفريدة التي تجعلنا ندرك بشكل أعمق كيف أن المرأة الأردنية لم ترض ولا بأي مرحلة تاريخية بغير الاستقلال والحرية. الملكة ماوية ملكة أردنية بدوية حكمت القبائل الأردنية في البادية الأردنية الشرقية. سنستعرض في هذا البحث حياة هذه الملكة المحاربة.

تصوير كنسي للملكة الأردنية المحاربة ماوية

توليها الحكم والمشهد العام

تولت الملكة ماوية الحكم بعد وفاة زوجها عام 375 ميلادي ( والذي تذكر بعض المصادر أنه كان أميرا غسانيا) وشكلت تحالفا قويا كونته من جميع القبائل الأردنية البدوية في البادية الشرقية.  كانت علاقة الإمبراطورية الرومانية مع القبائل الأردنية في البادية الشرقية الأردنية علاقة متوترة دوما. لم يعرف عن الأردنيين يوما أنهم خضعوا لولاية بالقوة، فهم دوما يُجمعون إجماعا على من يرأسهم بالعدل ولهذا لم يرضَوا بالولاية التي كانت تحاول الإمبراطورية الرومانية فرضها.

 زادت حساسية المنطقة التي سكنتها القبائل الأردنية وعقدة الجغرافيا الأردنية من توتر الموقف بينها وبين الرومان. فالبادية الشرقية الأردنية منطقة استراتيجية تمر بها كل القوافل التي تقصد الشرق الأقصى واليمن ومصر. وكانت الإمبراطورية الرومانية متخوفة دوما على تجارتها التي لا بد لها أن تمر من مضارب القبائل الأردنية هناك.

بحسب المصادر اليونانية والسريانية  لم تحكم الملكة ماوية Mavia, Mauia  القبائل البدوية الأردنية في البادية الشرقية فحسب إنّما حكمت ما أطلق عليه اليونان “عرب السارسين” والسارسين كلمة مشتقة من الكلمة اليونانية (ساراكينوس)[1] وهم سكان إقليم البترا وما حوله قاصدين بهذا اللفظ الأردنيين الأنباط الذين كانوا بدوا رحلا لفترة طويلة من الزمن قبل تأسيس المملكة الأردنية النبطية وبعد انهيار النظام الملكي النبطي والعودة للنظام القبلي من جديد. انتقلت التسمية إلى القبائل الأردنية وربما عُممت على جميع السكان لكونهم شهدوا اختلاطا وتجانسا سكانيا كبيرا بعدما ضعفت مكانة البترا كعاصمة تجارية عقب الحصار الاقتصادي الذي فرضه الإمبراطور الروماني تراجان لعقود طويلة.

الحرب من أجل الحرية

قادت الملكة ماوية جيوشها الجبارة في الثورة الأولى عام 378 أي بعد ثلاثة سنوات من توليها الحكم. يقارن التاريخيون هذه الثورة بقوة ثورة الملكة زنوبيا ضد الرومان قبلها بقرن من الزمن.

وقد تقدمت نحو الحاميات الرومانية غرب الأردن وفي فلسطين ولبنان وصولا إلى مصر واستمالت سكان وأهالي تلك المناطق بعدالة قضيتها.

يذكر الباحث جواد علي في كتابه  “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام” أن الملكة الأردنية ماوية ألحقت دمارا شديدا بالرومان فيقول ”  وقد حاربت الروم مرارا وانتصرت غير مرة، ثم تصالحت معهم. وكان من جملة ما اشترطت عليهم أن يُسقّف على عربها راهب يدعى موسى كان يتعبد في -البادية- وكان معارضا لمذهب أريوس (علي: 2001، ص356)

صورة للقس البرادعي الذي عينته الملكة ماوية وكان مسؤولا عن المذهب المونوفيزي في الشرق

ولأن ثورتها تعد إحدى أهم نقاط التحول في مسيحية المشرق، اهتم مؤرخو الكنيسة بتسجيل تفاصيلها فكتبوا أن ثورة الملكة ماوية كانت كاسحة مدمرة. كتب المؤرخ  الكنسي روفينوس أنها قادت “حربا شعواء أنهكت جيوش الروم في معارك عدة فسحقتهم في العديد منها وهرب منهم ما تبقى“، ويذكر مؤرخ آخر يدعى سوزومين أنها كانت “ملكة خطيرة ” قادت قواتها بنفسها وحاربت بشراسة حتى أن القائد الحربي الروماني تم إنقاذه بصعوبة.

واتفق المؤرخون على حقيقة أن هذه الملكة الأردنية البدوية قد أرضخت الرومان وجعلتهم يوقّعون معها صلحا بشروطها الخاصة في سبيل نضالها وشعبها نحو الاستقلال والحكم الذاتي، حتى أنهم بعثوا لها لاحقا يرجون المساعدة ضد هجمات القوط (قبائل جرمانية) وقبلت مساعدتهم.

يُحسب للملكة ماوية أنها أذلّت الرومان وجعلتهم يبعثون لها بأقوى قائد حربي لديهم. كانت لديها مقدرة رهيبة على التخطيط الحربي كما كانت فَطِنة لجميع حِيَل الرومان العسكرية مما جعل جيشها يتفوق على الجيش الروماني بشكل سريع ومذهل.

تصوير قديم للملكة البدوية ماوية التي قادت جيوشا وأجبرت الرومان على الصلح معها وفقا لشروطها الخاصة

الملكة المحاربة والأردنيون الغساسنة

ترددت أصداء الحروب الشجاعة التي قادتها الملكة الأردنية ماوية في الأردن وأبعد، وكان الأردنيون الغساسنة معجبين بهذه الملكة المخلصة لوطنها وشعبها وعقيدتها. اعتنق الغساسنة ذات المذهب (المونوفيزي- مذهب ديني مسيحي يؤمن بأن للمسيح طبيعة واحدة تشكلت عن اتحاد الطبيعة البشرية والإلهية معا) المذهب الذي كانت لتقضي عليه الإمبراطورية الرومانية لولا شجاعة الملكة ماوية. ظلت الملكة ماوية ملهمة للغسانيات خصوصا الأميرات منهن لا في مجال السلم والحرب فحسب إنما في الاعتقاد الديني كذلك.

 كما بقيت الملكة ماوية  حية في وجدان الأردنيين الغساسنة واعتبروها نموذجا للمرأة المخلصة للدين والشعب والوطن كما ستظل حاضرة في نفوس أبناء وبنات الأردن اليوم.

المراجع:

  • علي. ج. (2001) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، (ط4)، لبنان: بيروت، دار الساقي
  • E (1996) Bazantinum and Arab in the sixth century, Vol2, Part 2 Dumbarton Oaks, Harvard University.
  • أبحاث إرث الأردن، المرأة الغسانية.
  • أبحاث إرث الأردن، الغساسنة مدخل عام.
  • الملكة ماوية، ويكيبيديا https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D9%83%D8%A9_%D9%85%D8%A7%D9%88%D9%8A%D8%A9

[1] للمزيد انظر : https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D9%83%D9%8A%D9%86%D9%88%D8%B3

الملكة الأردنية ماوية، الملكة التي قادت جيوشها بنفسها

مقدمة

يُعدُّ وضع المرأة في أي مجتمع دلالة على رقي أو انحطاط هذا المجتمع. فالأمم التي تحترم المرأة وتشركها في مناحي الحياة تتقدم حضاريا على غيرها في سباق التطور. عند تتبع الحضارة التي خلفها الأردنيون الغساسنة عبر الكتب والمصادر نخلص لنتيجة مهمة وهي أن المرأة كانت تتمتع بقوة وحرية كبيرة في المجتمع الغساني، لقد كانت المرأة الأردنية الغسانية نموذجا يريد العالم لنسائه أن يحتذين به وقد جعل هذا النموذج  المشرف الإمبراطور جستنيان يسمي  ابنة أخيه “أرابيا” أي العربية قاصدا بها النموذج الذي رآه في المرأة الأردنية الغسانية.

الإمبراطور الروماني جستنيان الذي أعجب بقوة المرأة الغسانية فسمى ابنة أخيه أرابيا

سنستعرض في هذا البحث أهم محاور مشاركة المرأة الغسانية وكيف أسست هذه المشاركة ومهدت الطريق أمام الأردنيات فيما لحق لأن يكنّ خير سلف للمرأة الأردنية الغسانية في المشاركة الفعالة في السياق الحضاري للأردن.

لكي نفهم أكثر طبيعة اختلاف المجتمع الغساني عن شكل المجتمع الحديث اليوم لا بد لنا أن نتطرق إلى شكلين أو نمطين من أنماط المجتمع وهم الذكوري والأمومي. في الذكوري يتم نسب العائلة وامتدادها للرجل، أما المجتمع الأمومي فهو مجتمع تنسب فيه العائلة لجهة الأم لا لجهة الأب. وقد كان المجتمع الغساني مجتمعا أموميا كما يظهر من أسماء الملوك كعمرو بن هند، أو ابن مارية أو ابن سلمى.

شخصيات نسائية ألهمت المرأة الغسانية

ألهمت العديد من الشخصيات النسائية البدوية المرأة الغسانية فتغنوا بذكر الملكة البدوية ماوية Mavia التي قادت جيوشا من القبائل البدوية في البادية الأردنية الشرقية وهاجمت المصالح الرومانية في المنطقة ودمرتها تدميرا شديدا حتى اضطر الرومان لعقد صفقة صلح معها.

تصوير قديم للملكة البدوية ماوية التي قادت جيوشا وأجبرت الرومان على الصلح معها وفقا لشروطها الخاصة

كانت الملكة ماوية ملهمة للغسانيات خصوصا الأميرات منهن لا في مجال السلم والحرب فحسب إنما في الاعتقاد الديني كذلك. إذ كانت تدين بالمسيحية المونوفيزية (مذهب ديني مسيحي يؤمن بأن للمسيح طبيعة واحدة تشكلت عن اتحاد الطبيعة البشرية والإلهية معا)، وقد فرضت الملكة ماوية شروطها على الرومان وجعلتهم يعترفون بهذا المذهب ويعترفون بالقس المسؤول عن مسيحي الشرق من البدو والحضر وكان اسمه آنذاك يعقوب البرادعي. دان الأردنيون الغساسنة بهذا المذهب وتمسكوا فيه وظلت الملكة ماوية حاضرة في أذهانهم جميعا كصورة للملكة الشجاعة والراعية.

صورة للقس البرادعي الذي عينته الملكة ماوية وكان مسؤولا عن المذهب المونوفيزي في الشرق

لم يقتصر تأثُّر المرأة الأردنية الغسانية بالملكة ماوية ولكنه تغذى بصورة المرأة المحاربة والقوية المستلهمة من شخصيات القرون السابقة كزنوبيا (الزباء) ملكة تدمر التي حاربت الرومان طويلا ودافعت عن مملكتها (شهيد: 2009) وهناك مارتيا أوتا سيلا سيفيرا وهي ملكة رومانية، زوجة الإمبراطور الروماني فيليب العربي، إذ ساهمت مارتيا برفقة زوجها بتأسيس حالة سلم ديني وقد عاش مسيحيو الشرق في عهدهما حالة سلم مبتعدين عن الاضطهاد الديني.

المرأة الغسّانية الملكة

تذكر المصادر أسماء 13 ملكة وأميرة من الغساسنة (مارية، حليمة، واثنتان باسم هند، سلمى، أمامة، فاختة[1]، ميسون، الرعلاء، النادرة، ليلى، الدلفى، الرملة) وكما ذكرنا آنفا بأن المجتمع الغساني هو مجتمع أمومي الطابع، النسب فيه للأم لذلك نسب الملوك لأسماء أمهاتهم الملكات كما ذكرنا.

رسم تخيلي لنساء غسانيات

انشغل الملوك الغساسنة بالحروب وأخذت المرأة الغسانية بقيادة الملكات الأردنيات الغسانيات على عاتقها الاهتمام بنواحي الحياة الاجتماعية والدينية والاقتصادية. فمثلا كن يُنشئن الأديرة ويُقمن موائد الاحتفالات الدينية والأعياد. ولا يمكن أن نغفل عن “المروءة والكرم” التي ألزمت المرأة الغسانية نفسها بها كما كانت تُلزم الرجال. إذ كانت الغسانية تستقبل الضيف وتكرمه أشد الإكرام وتُجير الملهوف وتمنح حق الأمان لمن يلجأ إليها كما حدث مع الهند بنت النعمان التي سنأتي على ذكر قصتها بشيء من التفصيل، ما يجعلنا في هذا السياق نستذكر قصة حفيدتهن الشيخة عليا يونس العقول الضمور الغساسنة وإجاراتها لقاسم الأحمد الثائر على جيش ابراهيم بن محمد علي باشا .

1. الملكة مارية

ملكة غسانية ينسب لها أعظم ملوك الغساسنة الحارث بن جبلة والذي كان يعرف بـ “الحارث بن مارية”  (529-569 م). يقول الشاعر حسان بن ثابت في رثاء الملك الحارث بن مارية:

أولاد جفنة حول قبر أبيهم

قبر ابن مارية الكريم، المفضلِ

منمنة (صورة تخيلية) تصور الملك الغساني الحارث وهو في خيمته

كانت الملكة مارية إحدى أميرات مملكة كندة شمال الجزيرة العربية تزوجها الأمير الغساني جبلة وقادا سويًّا حملة ضارية ضد الرومان في فلسطين عام 500 ميلادي قبل أن يدرك الرومان الخطر المحدق بهم إن استمر الغساسنة بحشد القبائل الأردنية ضدهم.

2. الأميرة حليمة

أشهر الأميرات الغسانيات على الإطلاق وباسمها تسمت موقعة حربية كاملة هي (يوم حليمة). عام 544 ميلادي، تجدد الصراع بين المناذرة والغساسنة، الصراع الذي كان يخمد قليلا ويعود للثوران كبركان غاضب. كان النزاع هذه المرة على منطقة مهمة تدعى ستراتا تقع إلى الجنوب من تدمر، وهي منطقة استراتيجية مهمة للطرفين حيث تمر بها القوافل التجارية وترعى بها القبائل البدوية مواشيها. بدأ المنذر، ملك المناذرة، الهجوم فتوغل في المناطق الغسانية وتصدى له الحارث بن جبلة. انتصر الحارث في النهاية وصرع عدوه المنذر بالقرب من قنسرين وتنامى بعدها الخلاف بين الفرس والروم وتراشقت الإمبراطوريتان بالتهم.

وقد تناولت الأدبيات الجاهلية هذه الموقعة، فحسان بن ثابت تغنى “بزمن حليمة” كثيرا في أشعاره فقال:

 وَتَحسُبُهُم ماتوا زُمَينَ حَليمَةٍ

وَإِن تَأتِهِم تَحمَد نِدامَهُمُ غَدا

وقد قالوا في يوم حليمة أيضا:

يوم وادي حليمة وازدلفنا      بالعناجيج والرماح الظماء

كما نجد أن الموروث الشعبي للأمثال احتفى بهذا اليوم فيقال “ما يوم حليمة بسِر” أي أنه مشهور جدا للدرجة التي لا يجهله فيها أحد.

قادت الأميرة حليمة الجيوش للنصر، وكانت مسؤولة عن المؤونة والعتاد والملابس وتمريض الجرحى وذكرت كثيرا في المصادر الحربية هي وأميرة غسانية أخرى تدعى هند شاركت أيضا في ذلك النصر.

لا عجب أن تقود الأميرة حليمة جيش وطنها للنصر فقد كانت جدتها لأبيها الملكة مارية التي قادت وجدها جبلة الحرب على الحامية الرومانية في فلسطين من قبل.

سمي باسم الأميرة حليمة واد ومرج (وادي حليمة ومرج حليمة)، وخُلّدت في الذاكرة والأدب ضاربة المثل في حب الوطن.

3. الملكة الرعلاء

كانت ملكة غسانية نسب إليها ابنها عَدي بن الرعلاء. شاركت في معركة عين أباغ الشهيرة وهي معكرة دارت بين المناذرة والغساسنة أنشد فيها عدي بن الرعلاء شعرا قال فيه مطلعه:

كم تركنا بالعين عين أباغ           من ملوك وسوقة أكفاء

أمطرتهم سحائب الموت تترى        إن في الموت راحة الأشقياء

ليس من مات فاستراح بميت          إنما الميت ميت الأحياء

4. ملكات أخريات

بالاعتماد على المصادر الشعرية كديوان النابغة وديوان حسان بن ثابت يمكننا استخلاص أسماء ملكات كثيرات كالملكة سلمى والملكة فاختة والدلفى وليلى وهند (ملكتان تحملان اسم هند ينسب لواحدة منهما الملك الغساني النعمان بن هند) ولكننا نواجه شُحا في المصادر الأخرى، فلا معلومات عن الحروب التي شاركن بها أو الإنجازات التي قمن بها، ولكن يمكننا أن نشير بثقة إلى أن السياق العام للمرأة الغسانية كان سياقا يشجعها على الإنجاز والعطاء ويلزم الملكة بممارسة واجباتها تجاه شعبها.

المرأة الغسانيّة الفنانة

لا شك بأن المرأة التي شاركت في الحرب والسلم وكانت حجر أساس في المجتمع الأردني الغساني، أن تكون أيضا ذات بصمة في الفنون. ورغم نقص المصادر التي يمكن أن يعتمد عليها بشكل كبير، إلا أن شعر حسان بن ثابت يعتبر مصدرا مهما وهو الذي يعده الباحثون الوثيقة الاجتماعية الأهم لحياة الغساسنة . ومنها أن حسان بن ثابت يذكر في شعره وصفا دقيقا لمجلس الغناء.

صورة للآلات الموسيقية التي كانت الفنانات الغسانيات يستعملنها

إذ يورد ذكر “المُسمِعة” أي المغنية، ويصف لباس المغنيات وهو لا يختلف كثيرا عن لباس النسوة في المجتمع عدا عن أنهن يرتدين الحلي الغالية جدا مما يحصلن عليه جراء غنائهن. ويذكر أسماء المغنيات اللواتي كن يرتَدن ديوانه أيضا فهنالك ليلى وزينب وشذى والنادرة وأم عمر والعامرة ولميس. وللمغنيات تحديدا العديد من الألقاب الوظيفية عدا عن المُسمعة، فقد سماهم الغساسنة “مدجِنة، داجنة، صادحة، رومية ” (شهيد: 2009) وبإمكاننا أن نعتبر أن تعدد مسميات الأمر عندهم هو دلالة على أهميته ولا نغفل بالطبع عن الثورة الشعرية التي أحدثتها القيان في أوزان البحور الشعرية فقد كان وجودهن محفزا للشعراء على الإبداع والتجديد (الأسد: 1969)

المرأة الغسّانية الشاعرة

برعت الأردنيات الغسانيات بالشعر كثيرا وكان صيتهن يجوب المنطقة بأكملها. ارتبطت ممارسة الشعر عندهن بمناسبات اجتماعية ومواقف معينة. فمثلا استخدمن الشعر في طلب الإجارة أو إعطائها وفي الرثاء والغزل وفي الرجز (بحر شعر مرتبط بالحرب وتشجيع الجنود والمحاربين). لم يصلنا الكثير من أشعار الغسانيات للأسف إنما استدللنا عليها من ذكرها في المصادر التاريخية ومن شعر حسان بن ثابت.

المرأة الغسّانية والدين

آمن الغساسنة بالمسيحية وكانوا مخلصين لمذهبهم، فكما ناقشنا في بداية البحث، اعتنقوا المذهب المونوفيزي بتأثير من الملكة البدوية ماوية التي فعلت الكثير لتثبيت هذا المذهب في المشرق. كانت صورة السيدة مريم العذراء تَمثل دوما أمام كل امرأة غسانية. فالسيدة مريم مثلت بالنسبة إليهن الصورة الكاملة للمرأة الأم التي تكافح وترعى الجميع.

امتد تأثير السيدة مريم ومن بعدها الملكة ماوية إلى الملكات الغسانيات تحديدا فبنين العديد من الأديرة. كما تسمين باسمها ونسبن أولادهن لهن فنرى أن اسم والدة أحد ملوك الغساسنة الحارث بن جبلة تسمى “مارية” وهو أحد أسماء السيدة مريم. (شهيد: 2009)

الشهيدات الغسانيات

عظمت الملكات الغسانيات سيرة الشهيدات اللواتي قضين نحبهن وهن متمسكات بدينهن أمام الاضطهاد الديني. عام  520 ميلادي قتلت حوال 100 امرأة من نجران التي كانت تابعة آنذاك لحكم مملكة كندة ومن ثم لحكم الغساسنة، فآوت الملكات الغسانيات النساء المهاجرات من نجران وكانت من أهمهن امرأة تدعى “رُحُم” ذكرت كثيرا كقائدة روحية وملهمة لشعراء الغساسنة (شهيد: 2009)

تصوير كنسي لثاؤذتي وعائلتها، الذين خلدوا في الذاكرة لتمسكهم وإخلاصهم لدينهم في مواجهة الاضطهاد الديني الروماني

تعد قصة الشهيدة ثاؤذتي وبناتها انسيموس وابرابيوس ولانديوس إضافة لابنيها الطبيبين قزمان ودميان من القصص المؤثرة للغاية. كانت ثاؤذتي امرأة طيبة القلب ربت أبناءها على أن يكونوا مخلصين للمسيحية. دفعت بابنيها قزمان ودميان لتعلم الطب وعلاج المرضى المحتاجين والمساكين بالمجان أما بناتها الثلاث فسلكن طريقة الرهبنة ووهبن حياتهن للكنيسة. عندما ارتد الإمبراطور دقلديانوس عن المسيحية بدأ بتعذيب الأهالي المسيحيين بطريقة وحشية وكانت ثاؤذتي وعائلتها من الذين خضعوا طويلا للاضطهاد الديني.

تصوير كنسي لثاؤذتي وعائلتها

وقفت ثاؤذتي بشجاعة أمام الإمبراطور نفسه ونهرته عن أفعاله فقطع الإمبراطور رأس ثاؤذتي ولم يجرؤ أحدهم على الاقتراب حتى صرخ ابنها القديس قزمان وقال:”  يا أهل المدينة أليس فيكم أحد ذو رحمة ليستر جسد هذه العجوز الأرملة؟” فقاموا ودفنوها. وغضب الإمبراطور من ذلك فأعدم باقي عائلتها. وبحسب الروايات المسيحية نالت هي وأبناؤها إكليل الحياة وصورت وهي ترتديه في الكنائس والأيقونات كما بنيت أكبر وأقدم كنيسة تمجد ذكرى ابنيها القديسين قزمان ودميان في مدينة جرش.

المرأة والحج

كان المجتمع الأردني الغساني بأكمله يمتلئ حماسا عند موسم الحج المسيحي خصوصا. شاركت المرأة بطقوس الحج الدينية بشكل أكبر حتى من الذكور. يذكر الأصفهاني اسم أميرة غسانية تُدعى ليلى كانت ترعى الحجاج وتساعدهم وتؤمن لهم المأوى والطعام. ويمكننا القول بثقة أن المرأة الغسانية بناء على رحلات الحج تمتعت بحرية تنقُّل كبيرة وذمة مالية مستقلة ساعدتها على الإنفاق على رحلتها أو على مساعدة الحجيج الآخرين.

اكتسبت المرأة الأردنية الغسانية صفة “الحاجّة” وكانت من تمتلك هذا اللقب تحظى باحترام كبير. اقترن هذا اللقب بداية بصفية بنت ثعلبة وهي امرأة غسانية أعطت “حق الجوار” أي الأمان  للأميرة هند بنت النعمان آخر أميرة من سلالة المناذرة وكانت تدين هي الأخرى بالمسيحية. وصفت صفية بنت ثعلبة بالحاجّة أو الحجيجة (صيغة تحبب وتصغير) وكانت شاعرة مُجيدة، حتى أن الأبيات الشعرية التي أنشدتها في حادثة إعطاء الأمان للأميرة هند لا زالت موجودة تشهد لها على حسن الخلق:

أحيوا الجوار فقد أماتته معا

كل الأعارب يا بني شيبان

ما العذر قد لفت ثيابي حرة

مغروسة في الدر والمرجان

بنت الملوك ذوي الممالك والعُلى

ذات الحجال وصفوة النعمان

كان الغساسنة مؤمنين مخلصين يهتمون للغاية بتقويم الأعياد المسيحية. ارتبطت المرأة الأردنية الغسانية روحيا بأعياد السيدة مريم العذراء[2]. في سجلات الكنيسة  يكاد يغيب ذكر الذكور في أغلب ما يتعلق بهذه الأيام وتنفرد النساء الغسانيات بالتجهيز لتلك الأيام المقدسة.

لم تقتصر حياة الرهبنة على الرهبان، إنما كانت النساء الغسانيات أكثر ميلا لهذه الحياة. “التأسي بالمسيح” كان أسلوب حياة تتخذه الراهبات فينقطعن عن الملذات ويهبن حياتهن لأعمال الخير والعبادة.

وقد تغنى الشاعر امرؤ القيس الذي يُنسب إلى الغساسنة عن طريق والدته[3] “بالرواهب – الراهبات”، كما ذُكرن أيضا في شعر حسان بن ثابت. وكان التنظيم الذي تتبعه رهبنة النساء الغسانيات يقسم للراهبات العاديات وللراهبة الأم التي تسمى “حَيجمانة أو هَيجمانة”.

المرأة الغسانية في السلم وفي الحرب 

خاض الأردنيون الغساسنة الكثير من الحروب وكانت النساء ترافق المحاربين لأغراض علاج الجرحى وتطبيبهم. ولمرافقة الغسانيات لأزواجهن في الحرب أبعاد اجتماعية أخرى كالتشجيع والحماسة فأغلب الأردنيات الغسانيات شاعرات يتقن بحر “الرجز” وهو بحر شعري كان مقتصرا على إنشاد الشعر في الحرب، والجدير بالذكر أن الرجز في المنطقة كان محصورا في الرجال ولكن النساء الغسانيات دخلن هذا المجال الفني وأبدعن فيه.

انصرفت المرأة الأردنية الغسانية في أوقات السلم للأعمال الخيرية الاجتماعية والدينية. فكما قلنا كانت النساء مخلصات للمسيحية فاهتممن بالحجاج وأقمن الموائد الخيرية.

المرأة الغسّانية والحياة الأسرية

تقدس المرأة الغسانية الزواج باعتباره رابطا مقدسا يربط روحين معا للأبد. فبعد احتفال “المِلاك” يصبح الزوجان كيانا واحدا. ولما كانت كل الجيوش تسير لحماية حدود الإمارة وخوض الغزوات، كانت المرأة الغسانية تعتني بالمنزل عند عدم مرافقتها للجيش، إضافة إلى ممارسة التجارة والزراعة وبذلك تبقى عجلة الحياة الاجتماعية مدارة دون توقف أو تعطل.

ويمكن القول بثقة أنّ المرأة الغسانية كانت شديدة التمسك بزواجها ويظهر ذلك من الأشعار الكثيرة التي خطتها الغسانيات حزنا على أزواجهن الشهداء في الحروب والغارات. احتذت الشاعرات في شبه الجزيرة العربية فيما بعد بالنموذج الشعري الملهم الذي رسمته الأردنية الغسانية الشاعرة الرقيقة فبرزت أسماء كالخنساء التي كتبت الكثير من القصائد الرثائية (يموت: 1934)

الخاتمة

تمتعت المرأة الأردنية الغسانية بكثير من الحرية والاستقلال الذاتي وشاركت بقوة في شتى محالات الحياة. خاضت حروبا ومارست الفنون والغناء وكانت مخلصة لدينها متمسكة فيه. لم يثنها عن ممارسة واجبها الوطني أي شيء. وساهمت بحضور مؤثر في السياق الحضاري للمجتمع الأردني الغساني ونهضة المملكة الأردنية الغسانية وهو ما انتقل بالفطرة لحفيداتها الرائدات الأردنيات عبر العصور.

المراجع:

  • E (1996) Bazantinum and Arab in the sixth century, Vol2, Part 2 Dumbarton Oaks, Harvard University.
  • الأسد، ناصر الدين . (1969)، القيان والغناء في العصر الجاهلي (ط2)، دار المعارف: مصر
  • أبحاث إرث الأردن، الحياة الاجتماعية عند الغساسنة الأردنيون
  • أبحاث إرث الأردن المنشورة، كنيسة القديسين قزمان ودميان في جرش
  • أبحاث إرث الأردن، المجتمع الغساني، الترف الحضاري والحرية
  • أبحاث إرث الأردن، الغساسنة: العلاقات السياسية الخارجية
  • تمجيد وقصة القديسين قزمان ودميان، موقع نبض الكنيسة
  • يموت، ب. (1934)، شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام (ط1)، الدار الأهلية: بيروت
  • المرزباني، ع. (2005) معجم الشعراء (ط1)، دار صادر، بيروت

[1] الفاختة: الحمامة ذات اللون الأبيض

[2] للمزيد انظر: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D8%AF_%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%85_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B0%D8%B1%D8%A7%D8%A1

[3] كان النسب قديما إلى الأم في نظام اجتماعي يسمى بالنظام الأمومي.

المرأة الأردنية الغسانية، ملكة ومحاربة وأكثر

عملت إرث الأردن وما زالت تعمل على إطلاق وتنفيذ العديد من المشاريع والفعاليات تاليا اطلالة على عدد منها:

  1. إطلاق موقع إرث الأردن ونشر ما يزيد عن 600 بحث ومقالة

أطلقت إرث الأردن موقعها الالكتروني منذ تأسيسها كمنصة معرفية علمية تسعى لتوثيق الإرث الأردني وتسويقه ، ويهدف الموقع لخلق علاقة بين الفرد ومجتمعه، ولتعريف المواطن بمساهمات الأردن عبر التاريخ من خلال أبحاث منشوراتحول الأحداث التي صنعت الأردن المشرف، وصور وثقت هذا البلد الجميل بكل جوانبه؛ والتناغم المجتمعي الذي كان ثيمته الأساسية.ويشتمل الموقع على عدد من الزوايا التي تعرض مشاريع المؤسسة وأبحاثها ووثائقياتها وأنشطتها ومقالات متخصصة بالإرث الوطني ، وتغطي أبحاث إرث الأردن جميع حقول الإرث السبعة، ( إرث النشاطات، الإرث البيئي، إرث المناظر الطبيعية، إرث المواقع، إرث المعالم، إرث المقتنيات، إرث الأفراد والمؤسسات )

  1. إقامة أول وأكبر معرض للصور التاريخية الخاصة بالأردن للفترة ( 1862 – 1946 )

في شهر حزيران 2016 تم عرض 1355 صورة من أصل 8500 صورة ومخطوطة بحوزة إرث الأردن في معرض صور جهز وفق المعايير العالمية لذلك في الطابق الثالث من مكتبة الجامعة الأردنية واستمر لستة شهور متواصلة. وتم فتح المعرض للطلاب بشكل خاص وللعامة بشكل عام ضمن ثلاثة مراحل: الأولى حيث قادت فيها إرث الأردن العمليات اليومية للمعرض، الثانية بعد أن تم تدريب طلاب وكوادر من الجامعة على إدارة المعرض مع الابقاء على بعض كوادر إرث الأردن للمساندة، والثالثة تم فيها تسليم المعرض ليستمر بإدارة طلاب وكوادر الجامعة بشكل مستقل.

وقد زاد عدد الزوار خلال الثلاثة أشهر الأولى من عمر المعرض عن عشرة آلاف زائر اشتملت على أعضاء الهيئات الطلابية والتدريسية والإدارية في الجامعة الأردنية والجامعات الأردنية عموما ومن مدارس المملكة والمؤسسات المهتمة إضافة إلى رجال الدولة وسياسيين ومثقفين ومن عامة الشعب.

وقد هدف المعرض إلى :

  • اظهار انفتاح وتنوع المجتمع ثقافياً مما يرسخ أصالة هذه القيم وامتدادها من التاريخ
  • تسليط الضوء على دور المرأة تاريخياً وتحررها النسبي في بعض الحالات كالتجارة المباشرة
  • اظهار علامات الانفتاح على الجمال العالمي تصميماً ومواداً في حقب مختلفة من تاريخ الأردن خاصة بالتصميم الحضري وتلاقحه الاقليمي والعالمي
  • ترسيخ الشعور الجمعي بالماضي والطموح المشترك
  • تنمية الشعور الايجابي بالمسيرة الوطنية والتحفيز للبناء عليها
  • تقدير مبدأ الدليل الملموس المقدم من المحتوى الصوري وتمتين منهجية البحث العلمي
  • تدريب طلاب الجامعة الأردنية على ادارة معرض صور واكسابهم الخبرة العملية في ذلك
  • تنمية مفاهيم الحفاظ على المواقع التاريخية كمورد سياحي ودراسي
  1. إقامة معرض الصور التاريخية المتنقل 

    وبعد انتهاء أول مرحلة تم انتقاء مجموعة من الصور الممثلة لأهم الحقب والمفاهيم التي تنقلها وتبرزها الصور التاريخية وتم عرضها بشكل مؤقت في جميع محافظات المملكة بالتنسيق مع مؤسسات محلية فيها وبدعم مباشر من صندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية ، حيث تم امتدت جولة المعرض المتنقل في جميع أنحاء المملكة واستهدفت أبناء المجتمع المحلي وطلبة المدارس فيه ولمدة ثلاثة أشهر أخرى .

  1. إقامة أول وأكبر معرض للصور التاريخية الخاصة بالثورة العربية الكبرى على الأرض الأردنية

أقامت إرث الأردن بالتعاون مع متحف الأردن أول وأكبر معرض معرض للصور التاريخية الخاصة بالثورة العربية الكبرى على الأرض الأردنية بمناسبة مئوية الثورة العربية الكبرى ، واشتمل المعرض على صور فوتوغرافية تعود للفترة من 1872 ولغاية 1948 وتمثل مواقع طبيعية في مختلف مناطق الأردن وتعكس البيئة الثقافية والاجتماعية والعمرانية علاوة على المواقع الأثرية والتاريخية والسياحية ، إضافة إلى جناح خاص بصور العمليات العسكرية للثورة العربية الكبرى ومقتنيات رجالات الثورة العربية الكبرى من أسلحة وعتاد ، غضافة إلى جناح خاص بالواقع الافتراضي تم فيه عرض قلعة الأزرق كواحدة من أبرز مراكز قيادة الثورة العربية الكبرى على الأرض الأردنية

 

  1. توثيق وتسويق الإرث الشجري في مختلف مناطق الأردن كبديل عن أشجار الرصيف التي تخلخل النظام البيئي

قامت إرث الأردن بتوثيق وتسويق الإرث الشجري والنباتي الأردني قما قامت بإعداد جدول للأشجار الملائمة والمديمة للنظام البيئي حسب كل منطقة جغرافية ، كما عملت على تسويق الجدول لقطاع الاسكانات وللبلديات ولأكبر قدر من المواطنين

  1. توثيق وتسويق أطباق الإرث الغذائي الأردني

تبذل إرث الأردن جهودا مهمة للتعريف بأطباق الإرث الغذائي الأردني المهدّدة بالانقراض أو التي تراجع تقديمها لأسباب كثيرة من خلال توثيق هذه الأطباق وتصويرها ومن ثم اطلاق سلسلة الإرث الغذائي الأردني على اليوتيوب التي قدمت تعريفاً شاملاً بالأكلات الأردنية من المحافظات والمناطق المختلفة.

واستكمالاً لهذه الجهود تعمل إرث الأردن على افتتاح “مطعم إرث الأردن” كي يكون أول مطعم من نوعه في الأردن يعيد إحياء أطباق الإرث الغذائي الأردني من خلال تقديمها بصورة مميزة للزوار.

  1. إطلاق مهرجان وثائقيات أبطال الاستقلال

بالتزامن مع احتفالات المملكة الأردنية الهاشمية بمرور 100 عام على انطلاق الثورة العربية الكبرى، أطلقت إرث الأردن مهرجان وثائقيات أبطال الاستقلال بالتعاون مع متحف المشير حابس المجالي، وعمل المهرجان على حفظ ذاكرة الأبطال وتوثيقها وعرضها على جميع المنصات المتاحة وأهمها المهرجان عبر سلسلة من الوثائقيات التي عمل عليها فريق المؤسسة بالامكانيات المتاحة، تجاوز عددها ال 10 وثائقيات ضمن مجموعة من الوثائقيات تحت الانتاج والتصوير تصل في مجموعها إلى 38 وثائقيا يستعرض سيرة أبطال الثورة العربية الكبرى من وجهاء العشائر وشيوخها وعقداء الخيل ونشميات العشائر الأردنية.

 

  1. تنفيذ حملة للصيانة الاستباقية للإرث العمراني في كل من الفحيص والسلط والحصن والطفيلة

 نفّذت إرث الأردن بالتعاون مع عدد من أهالي قرية المعطن في محافظة الطفيلة حملة للصيانة الاستباقية للإرث العمراني في القرية ، وذلك عبر تقديم محاضرة متخصصة في آلية الحفاظ على المباني القديمة في القرية وترميم سقوق عدد من المنازل بالقرية كما يجري التخطيط والتحضير الآن  لتكرار التجربة في مدينتي الفحيص والسلط والحصن عبر اجراء دورة تدريبية لعدد من المتطوعين في كل منطقة متبوعة بجولة ميدانية يجري بها أعمال الصيانة والترميم الاستباقيين للبيوت القديمة من الإرث العمراني.

  1. تسخير الجيل الثاني من تكنولوجيا الواقع الافتراضي لخدمة الارث الأثري والبيئي الأردني

قسم الواقع الافتراضي مولود آخر للمؤسسة، ليكون الأردن من أوائل البلاد التي استخدمت تكنولوجيا الجيل الثاني من الواقع الافتراضي ثلاثية الأبعاد للحفاظ على المواقع الأثرية وتوثيقها وعرضها. وقد تم توظيف هذه التقنية ليحتضن الأردن أول متحف أثري على الواقع الافتراضي، لـ12 موقعا بمختلف المحافظات، يجري التحضير لافتتاحه في مدينة العقبة، كما كان جناح إرث الأردن للواقع الافتراضي للمواقع الأثرية الأردنية حاضرا في فعاليات القمة العربية التي احتضنتها الأردن العام الماضي، والمنتدى الاقتصادي العالمي في البحر الميت، ومؤخرا في مدينة الريادة والإبداع بمجمع الملك الحسين للأعمال؛ إضافة إلى المشاركة في فعاليات أيام العقبة التراثية ضمن كرنفال العقبة للسياحة والتسوق 2018 ليتيح الفرصة للأردنيين والأجانب لمشاهدة تلك المواقع.

  1. تسخير تكنولوجيا الواقع الافتراضي للمواقع الأثرية في خدمة المجتمع

استهدف هذا المشروع فئة ذوي الإعاقة ودور المسنين، ومرضى السرطان، وممن هم غير قادرين على زيارة المواقع التاريخية، ليتم تطويع التكنولوجيا لخدمتهم، وذلك عبر جولة نظمتها إرث الأردن لجناح الواقع الافتراضي شملت مجموعة واسعة من مراكز ذوي الإعاقة والمسنين ومرضى السرطان في مختلف محافظات المملكة .

  1. إطلاق زاوية إرث الأردن في ملحق حياتنا ( صحيفة الغد )

أطلقت إرث الأردن بالتعاون مع صحيفة الغد زاوية أسبوعية في ملحق “حياتنا” تحمل اسم “إرث الأردن”، لتعريف القراء بالإرث الاجتماعي والثقافي الزاخر والإسهام الانساني للأردن والأردنيين الأوائل والأجداد عبر عقود مضت من خلال صور متنوعة، أقدمها صورة التقطت العام 1862 وصولا للعام 1946، تلك الصور النادرة التي توثق الزمان والمكان والواقع المعيشي للأردن بكل جوانبه، تأتي لتكون أداة حماية لإرثنا من الاندثار أو دخوله طي النسيان.

وتتناول الصور جوانب تاريخية مهمة تشكلت عبر التاريخ بهذه المنطقة، لجذب اهتمام الوعي العالمي بالإرث القيمي والمكون الثقافي، والحقبات الزمنية التاريخية، وهذه هي المسؤولية التي حملها شباب أردنيون على عاتقهم.

  1. إطلاق برنامج إرث الأردن على إذاعة جيش اف ام – مجموعة الراية الإعلامية

         أطلقت إرث الأردن في تموز 2016 برنامجها الإذاعي الأسبوعي ( إرث الأردن ) على إذاعة جيش اف أم 107.9 والتابعة لمجموعة الراية الإعلامية – إذاعة وتلفزيون القوات المسلحة الأردنية ، البرنامج الذي يبث بمعدل حلقة أسبوعيا على أثير الإذاعة يحتفي عبر حلقاته بكل ما يحمل قيمة جمالية أو تاريخية أو اجتماعية ثقافية بالماضي الأردني ويغطي في حلقاته الأسبوعية جميع حقول الإرث السبعة، ( إرث النشاطات، الإرث البيئي، إرث المناظر الطبيعية، إرث المواقع، إرث المعالم، إرث المقتنيات، إرث الأفراد والمؤسسات).

  1. إطلاق برنامج الزمالة التدريبية في إرث الأردن

أطلقت إرث الأردن في أيلول 2017 برنامج الزمالة التدريبية في قسم الأبحاث وقسم الانتاج الإبداعي في المؤسسة ، وذلك لتدريب طلبة الجامعات من المهتمين على أساسيات البحث العلمي التاريخي في الإرث الوطني وحقوله المختلفة وتدريب طلبة المدارس على أساسيات إنتاج الوثائقيات وتصميم المواد الفلمية والصورية الخاصة بالإرث الأردني، وقد تقدّم للانتساب للدورة أكثر من 400 شاب وفتاة من طلبة الجامعات والمدارس تم اختيار 25 فردا منهم لالتحاق بالبرنامج التدريبي والذي استمر لثلاثة أشهر وانتهى بتوظيف عدد من المتدربين ضمن كوادر المؤسسة.

  1. رصد وتوثيق وتسويق وعقد دورات تدريبية عامة في الإرث الموسيقي الأردني

 بالتعاون مع جوقة البلقاء وسينما ومسرح السلط التابعة لمؤسسة رواق الأردن للثقافة والفنون قامت إرث الأردن بإجراء وتنفيذ عدد من الدورات التدريبية الخاصة بالإرث الموسيقي الأردني وإعادة إنتاج وتقديم عدد واسع من الأغاني والأهازيج الأردنية من إرثنا الموسيقي والفلكلوري الأردني عبر عدد من الفعاليات من خلال جوقة وأوركسترا البلقاء .

  1. عقد عدد من الندوات الأكاديمية الخاصة بإرث اللهجات الأردنية

عقدت إرث الأردن عددا واسعا من الندوات الأكاديمية للتعريف والتثقيف بإرث اللهجات الأردنية في كل من الجامعة الأردنية وعدد من مؤسسات المجتمع المدني في محافظة البلقاء ، سلطت فيها الضوء على أبحاث أستاذة اللغويات في جامعة اسكس الدكتورة انعام الور.

  1. تقديم عدد واسع من الاستشارات التاريخية والمتعلقة بالإرث الوطني الأردني

منذ عام 2015 قدّمت إرث الأردن عددا واسعا من الاستشارات التاريخية البحثية المرتبطة بالإرث الأردني وعلى مختلف الصعد والمجالات؛ وذلك لجهات رسمية من القطاع العام والخاص، كان أبرز نتاجاتها إعداد وتنفيذ وإخراج المحتوى المعرفي الخاص بالمسارات السياحية لمدينة السلط بالتعاون مع مؤسسة إعمار السلط، ومتحف الشريف الحسين بن علي في مدينة العقبة بالتعاون مع دائرة التراث الملكي في الديوان الملكي الهاشمي العامر.

 

المشاريع المستقبلية:

  • افتتاح مقر مؤسسة إرث الأردن في  مدينة السلط : تعمل إرث الأردن على انهاء التحضيرات لافتتاح مقرها في مدينة السلط، ويشتمل المقر الجديد على مكاتب إدارة أقسام المؤسسة، وقاعات تدريبية ، ومكتبة إرث الأردن ، ومطعم إرث الأردن ، ومعرض صور إرث الأردن ، ومعرض الواقع الافتراضي للمواقع الأثرية الأردنية .

  • افتتاح أول متحف للواقع الافتراضي في مدينة العقبة : تعمل إرث الأردن على انهاء التحضيرات لافتتاح أول متحف للواقع الافتراضي في العالم ، وذلك في مدينة العقبة ، ويشتمل المتحف على عرض لعدد واسع من المواقع الأثرية والبيئية الأردنية واتاحتها لجمهور الزوار والسيّاح .

  • افتتاح مطعم إرث الأردن في مدينة عمّان : تعمل إرث الأردن على انهاء التحضيرات لافتتاح مطعم إرث الأردن في مدينة عمان،ليكون أول مطعم من نوعه في الأردن يعيد إحياء أطباق الإرث الغذائي الأردني من خلال تقديمها بصورة مميزة للزوار.

  • اطلاق النسخة الثانية من مهرجان وثائقيات إرث الأردن : تعمل إرث الأردن على انهاء التحضيرات لإطلاق النسخة الثانية من مهرجان وثائقيات إرث الاردن في شهر أيلول القادم 2018 ، وذلك بالتعاون مع أمانة عمان الكبرى – متحف المشير حابس المجالي، وتشمل النسخة القادمة على مجموعة جديدة من وثائقيات إرث الأردن التي تنتجها المؤسسة .

  • سجل الإرث: إنشاء وتكوين سجل للإرث العمراني ومواقع الإرث وإرث المناظر الطبيعية في الأردن:

    وعند تقييم موقع ما على أنه من الإرث يتم وضع كافة معلوماته الموثقة على الموقع الالكتروني وعلى مواقع التواصل الاجتماعي بعد اضافته لمسار سياحة إرث للمنطقة يمكن تنزيل خارطتها على الهاتف المحمول عبر تطبيق يجري تطويره.

  • المسارات السياحية: يجري التحضير لرحلات تثقيفية ترفيهية في المسارات السياحية للمدن الأردنية للتعرف على الوطن الأردني وإرثه، بعد أن تم تقديم عدد واسع من الاستشارات التاريخية للجهات المعنية حول بناء وتخطيط المسارات في عدد من المدن الأردنية 

  • مكتبة إرث الأردن: يجري التحضير لجمع كل ما كتب عن الأردن بالعلوم الاجتماعية والاثروبولوجيا والتاريخ ووضعها في مكتبة متخصصة بمقرنا في مدينة السلط.

مشاريعنا

شعار المؤسسة ، المدن الأردنية كما تنير من السماء

نبذة تعريفية:

إرث الأردن، شركة غير ربحية، تحتفي بكل ما هو ذو قيمة ومعنى بالماضي الأردني ولذلك تهدف للبحث بالإرث الأردني وتوثيقه ومن ثم تسويقه بطرق تفاعلية تصل لأكبر مجموعة ممكنة عبر مواقع التواصل الاجتماعي خصوصاً والانترنت بشكل عام عبر موقع المؤسسة الالكتروني والذي خط طريقه باتجاه أن يصبح المرجع الالكتروني الأشمل لكل ما هو قيِم بالتاريخ الأردني. إرث الأردن تغطي جميع حقول الإرث السبعة: الإرث البيئي، إرث المناظر الطبيعية، إرث المعالم، إرث المواقع، إرث المقتنيات، إرث النشاطات، وإرث الأفراد والمؤسسات.

أٌنشِئت إرث الأردن في تموز 2014 من قبل مجموعة شباب مختصين، عن دراسة وشغف بالإرث الأردني وكبرت تدريجياً لتضم لأسرتها أردنيين يحملون نفس الشغف ليحملوا مشاريع تنتظر من يفعلها ويديرها. وصلت إرث الأردن الآن لمئات المتطوعين والأصدقاء والعديد من المساهمين وآلاف المتابعين عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

رسالتنا:

البحث عن المعنى والقيم التاريخية والاجتماعية الثقافية والجمالية في الماضي الأردني وتوصيله لأكبر قدر ممكن من الأردنيين بحيث يرتبطون به وبالتالي يحافظون عليه وبأولوية للإرث المهدد بالزوال والغير معروف عنه والذي يحمل أعلى قيم ومعاني.

رؤيتنا:

الوصول الى عملية مستدامة يكون بها الإرث مصدراً وواسطةً للمعرفة والجمعية والتنمية العمرانية والاقتصادية والترفيه والاستدامة الثقافية.

من نحن؟

 

لم يغب عن الإنسان الأردني في العصر الحجري أن يخلّد حياته وطبيعته عبر الفن. يظل الفن الوسيلة الإنسانية الأكثر رقيا وتعبيرا عن روح الإنسان. في النقوش الكثيرة التي وجدت في الصحراء السوداء (صحراء البادية الشرقية الاردنية) سنرى  الإنسان الأردني وهو يعكس لنا شغفه بالطبيعة، وطقوسه السحرية في الصيد وفخاخ صيد الغزلان. حيوانات بقرون عظيمة وصيادون يرمون السهام: فن حجري مدهش من رحم الصحراء الأردنية السوداء.

تقدم لكم إرث الأردن ترجمة عن آخر مكتشفات “مشروع البادية الأردنية الأركيولوجي” الذي وثّق أكثر من 400 نقش وتصوير على حجارة الصحراء السوداء الأردنية.

صورة جوية لوادي قطافي في الصحراء الأردنية السوداء

” يظل السؤال ملغزا: لِمَ لا توجد أي  غزلان في الرسوم والتصاوير المنقوشة على الصخور (البيتروغليفيات)” يقول باحث أمريكي  قضى سنوات وهو يدرس الصحراء السوداء في البادية الشرقية الاردنية.  ” هل يمكن أن تكون حيوانات – بقرون مثيرة كقرون حيوانات المها والوعل والكودو؟ هل كانت تلك الحيوانات مثار اهتمام القدماء الذين زاروا تلك الواحات؟” يتابع الباحث تساؤلاته.

يورك روان، عالم آثار وأنثروبولوجيا يعمل في معهد الدراسات الشرقية في جامعة شيكاجو، يتابع قوله: ” ربما يكون الوعل والكودو والمها حيوانات نادرة او معروفة في مناطق أخرى وقد صورها الصيادون لحنينهم ورغبتهم فيها.. أو ربما يحتاج الأمر قوى سحرية عظيمة ليصطاد المرء هذه الحيوانات، ويتابع مشيرا إلى أن الأمر يحتاج قدرا كبيرا من البحث في أعماق الصحراء السوداء، إذ لم يتم البحث سوى قليلا جدا في هذه الصحراء”.

الفن على الأحجار في الصحراء الأردنية، تصوير لشخصين غير واضحين

وفي وادي وساد، وثّق مشروع البادية الشرقية الأركيولوجي أكثر من 400 نقش صخري (بيتروغليفي) وتصميمات هندسية وحيوانات وأفخاخ للحيوانات. ووفقا لما يقول العالم روان فإن الباحثين يسجلون منطقة اكتشاف كل نقش وتصوير بالتفصيل. وحالما تكتمل هذه الخطوة سيقارنون النتائج مع النقوش الأخرى المكتشفة في الأردن إضافة لتلك التي اكتشفت في السعودية.

صورة جوية لوادي وساد

“بشكل غريب، من النادر تصوير البشر في النقوش المكتشفة في وادي وساد” بالطبع، بعض النقوش غير واضحة ومن المستحيل فهم ما كان يجول بخاطر الفنانين القدماء ولا يمكننا بطيعة الحال أن نكون متأكدين أي نوع من الحيوانات يتم تصويره” يوضح روان: “غياب الغزلان من الرسوم المنقوشة مثير للفضول فأثناء التنقيبات في وادي وساد ووادي قطافي اكتشفنا عظام غزلان في المساكن التي تعود للعصر الحجري الحديث وهذا ما جعلنا نتأكد أن الغزلان كانت مكونا مهما في النظام الغذائي لسكان المنطقة من ذلك العصر”.

مشكلة أخرى تختص بعدم مقدرة الباحثين على تأريخ الفن المصور على الأحجار ولهذا فهم لا يستطيعون معرفة ما إذا كانت الرسوم قد نقشت أثناء العصر الحجري الحديث أم بعد انقضاءه.” إننا نعلم، على سبيل المثال، أن الجمل لم يكن حيوانا معروفا في تلك المنطقة إلا في مرحلة متأخرة جدا، ربما في أوائل الألفية الأولى قبل الميلاد. ومن غير المعتاد رؤية فخاخ الحيوانات التي عادة ما تسمى “كايتس” سوى في تصاوير هذه المنطقة”.

“فخاخ الكايتس هي ميزة ميزات البادية الشرقية الاردنية وما حولها. تستعمل هذه الفخاخ خطوطا طويلة من الصخور لدفن قطعان الغزلان عبر إحاطته ورمي السهام عليه. غالبا ما تكون هذه الفخاخ قد تطورت في أوائل العصر الحجري الحديث واستمرت لآلاف السنين وامتدت السلاسل الحجرية من الشمال إلى الجنوب عبر الصحراء ” ويضيف روان:” إن الصيادين يعبرون عن أهمية هذه السلاسل عبر الفن الحجري في وادي وساد”.

المصدر

http://www.jordantimes.com/news/local/black-desert-petroglyphs-uncover-neolithic-animal-life

فن النقوش الحجرية: الصحراء السوداء الأردنية تكشف الحياة الحيوانية في العصر الحجري الحديث

 

تتوالى الاكتشافات العلمية في إذهالنا والتأكيد على حقيقة قِدَم وعُمْق السياق الحضاري والإنساني للأردن والأردنيين . وبالطبع توجد العديد من المواقع الأثرية التي تؤرخ للعصر الحجري الحديث في الأردن والتي بالتالي تؤرخ لبداية تأسيس المجتمعات الإنسانية في العالم. من صيد الحيوانات والترحال إلى الزراعة والاستقرار ومن عدم دفن الموتى إلى دفنهم في المساكن ومن ثم في مقابر منفصلة.

تقدم لكم إرث الأردن ترجمة لأحدث ما اكتشفه الباحثون في ممارسات الدفن في وادي فينان حيث انطلقت أولى المجتمعات الإنسانية في رحلتها نحو الاستقرار والتطور.

في وادي فينان وعلى مسافة 140 كلم جنوب العاصمة عمان تم اكتشاف مقبرة في الموقع الأثري WF16 – العصر الحجري الحديث وعمرها ما يقارب الأحد عشرة ألف ومئتين سنة، وأضاف الباحث أن هذا الاكتشاف يدل على معدل وفيات عال عند تلك المجتمعات المحلية.

يقول الباحث ميثن : “إن هذه المدافن التي تتضمن حديثي ولادة وأطفالا تؤشر إلى ارتفاع معدل الوفيات في هذه المجتمعات الماقبل تاريخية.”

مدافن وادي فينان

لقد دفنت الجثث في قبور محفورة داخل أرضيات المنازل ومن ثم سقفت بالطين والجص، يوضح ميثن مضيفا:” لقد وضعت الجثث في وضعيات النوم، على الجنب ضامة الركبتين إلى الجسد واليدين تحت الرأس”

صورة لجثة من إحدى المقابر وهي تتخذ وضعية النوم

وتم ملاحظة أن بعض القبور كانت تستخدم لدفن أكثر من جثة، وفي بعض الأحيان كانت تزال عظام الجثة الأولى.”فتحت بعض القبور لإجراء عملية دفن ثانية، وفي بعض الحالات كانت عظام الجثة الأولى تُزال”

وتشير الأدلة إلى أن الجماجم كانت تعرض في المنازل، فوفقا للباحث، في بعض الحالات جلبت الجثث إلى الموقع حيث اكتشف العلماء مجموعات من العظام كانت قد لفت بالجص والنسيج المصنوع من الألياف النباتية.

دفنت كل الجثث في موقع السكن نفسه، فمكان السكن كان مقبرة ومكانا للعيش في آن واحد ويتابع الباحث قوله:”أما في مرحلة متأخرة فقد اتخذت المدافن في وادي فنيان مكانا مختلفا”.

وخلال العصري البرونزي والحديدي،  ظهرت المقابر منفصلة عن المساكن، باختلاف أعداد القبور، أحيانا تحت ركام من الحجارة (رجوم)، وأكد الباحث على أن أكبر عدد للمقابر في وادي فينان يعود للعهد الأردني النبطي والروماني والبيزنطي.

ويوضح:” وجدت تلك المقابر بمئات القبور متمركزة حول خربة فينان التي كانت مركزا لتعدين النحاس في فينان، كما حوت القبور جثث الذين عملوا بالتعدين بشكل رئيسي إضافة لعدد من المهن المساعدة  كالحدادة والزراعة والتجارة.  “وبعد القرن الرابع قبل الميلاد توافرت بعض القبور التي تنتمي لمسيحيين حيث غطت قبورهم بألواح وصليب”؛ ويضيف ميثن أنه تبعا لكونهم من العمال فقد كانت حياتهم صعبة، إذ عانوا كثيرا من الجروح والإصابات والإعاقات”.

ويؤكد الباحث على الجثث كانت قد دفنت دون مرفقات جنائزية ورغم ذلك تعرضت القبور لعمليات السلب والنهب والتخريب مما محا الكثير من المعلومات التي كانت من الممكن أن تكتشف بالتنقيب.

بقايا الجماجم

يؤرخ الموقع Wf16 في العصر الحجري إلى 11,500 -10,200 ألف سنة. وقد بني بشكل رئيس لجامعي الطرائد (البشر الصيادون) “غالبا خيّم الصيادون في الموقع عدة أسابيع كل سنة” يقول الباحث ميثن مضيفا أنهم دفنوا موتاهم في الموقع إشارة إلى ملكيته.

وبشكل تدريجي، عبر السنين، بدأ الصيادون بقضاء وقت أطول في الموقع ويعكس هذا مقدرتهم على صيد الوعل البري وجمع العديد من الثمار والنباتات كالتين والفستق والشعير.

 “لقد بدأوا ببناء مباني أخرى من الطيب والجص وبأرضيات تنخفض عن مستوى الأرض، وعندما يموت المواليد والأطفال يتم دفنهم في أرضية المسكن بعدما تترك جثثهم لتجف من سوائلها، وفي بعض الحالات تنقل عظام أكثر من فرد إلى قبر واحد، فعلى سبيل المثال وجدت أجزاء من جماجم سبعة أفراد مختلفين مدفونة أعلى جمجمة فرد آخر”.

“وبالمحصلة، إننا نعتقد بأن تفريقهم بين الحياة والموت كان أقل مما نقبله اليوم، فالمدفن والمسكن واحد يشيران لذلك، إذ اكتشف الباحثون 30 مدفنا تحوي رفات أكثر من 40 فردا”.

من موقع وادي فينان الأثري

ويقول الباحث بأن وضع المرفقات الثمينة مع القبر لم يكن أمرا شائعا في العصر الحجري الحديث :” في بعض الحالات، وضعت حجارة صوانية مفلطحة على صدر الجثة وفي حالات أخرى وضعت بعض الخرزات تبين أنها بقايا عقد أو إسوارة كانت الجثة ترتديها”.

المصدر:

http://www.jordantimes.com/news/local/british-scholar-unveils-burial-practices-faynan-communities-neolithic-age

ممارسات الدفن عند مجتمعات وادي فينان في العصر الحجري الحديث

تابوت من مملكة مؤاب في متحف عمان، Bernard Gagnon

مقدمة

أثار اكتشاف مسلّة ميشع ضجة واسعة في الأوساط العلمية، حيث أنه فنّد الكثير من الروايات التاريخية المكذوبة، وفي الآونة الأخيرة تم التطرق للملك الأردني المؤابي ميشع وعصره بصورة مكثفة، إلا أن جُلّ الكاتبين في هذا الموضوع ركزوا على جانب واحد من انجازاته، وهي انتصاراته العسكرية، مهملين ما قام به من عملية بناء شاملة، نحاول في هذا البحث من سلسلة الأردنيين عبر التاريخ تسليط الضوء على جميع انجازاته بشكل متساو، فيما نستعرض الظروف السياسية التي مهدّت لهذه الأحداث.

نقش ميشع 842 ق.م

Henri Sivonen from Helsinki, Finland – Mesha Stele
aka. the Moabite Stone (2007-05-19T14-10-19.jpg)

يعد النقش المكتوب على مسلّة ميشع والذي وجد في ذيبان، أهم النصوص التي تؤرخ لتلك الحقبة الزمنية، حيث أنه النص الأطول في عصر الممالك الأردنية القديمة الثلاث، والذي يحمل الكثير من المعلومات حول فترة حكم الملك الأردني المؤابي ميشع.

يتكون نقش ميشع من 34 سطرا، كتبت على حجر بازلتي أسود على شكل قوس (مسلة)، يبلغ ارتفاع المسلة 124 سم، وعرضها 71 سم، حيث خلّد الملك الأردني المؤابي ميشع انتصاراته وانجازاته في إعادة بناء الدولة، وتعمير المدن، وإنشاء المعابد، وعملية الإصلاح الزراعي التي قادها عقب انتصاره على العبرانيين وطردهم من مملكته، ومطاردتهم والاستيلاء على جزء من أراضيهم، وقد استفاد الباحثون من هذه المسلّة في عدة حقول، منها دراسة الحالة السياسية والاجتماعية في المنطقة في تلك الفترة، ودراسة اللغة الأردنية المؤابية وتراكيبها بالإضافة للخط الأردني المؤابي.

وتاليا نص نقش مسلة ميشع مترجما من المؤابية إلى العربية 

  1. أنا ميشع بن كموشيت ملك مؤاب الديباني.
  2. أبي ملك على مؤاب ثلاثين سنة. وأنا ملكت.
  3. بعد أبي. وأنشأت معبدا (أهراما) لكموش، بقرحي، ولقد بني ذلك.
  4. بسرور لأن كموش أعانني على قهر كل الملوك، ولأنه أشمتني بكل أعدائي المبغضين. أما عمري.
  5. ملك اسرائيل، فقد اضطهرد مؤاب طويلا، ذلك لأن كموش أضحى مكروها.
  6. بأرضه. وخلف عمري ابنه فقال هو الآخر: (سأضطهد مؤاب!) أجل، لقد قال شيئا كهذا الكلام.
  7. ولكن كموش جعلني أراه مهزوما من أمامي، هو والهه. وبادت اسرائيل، بادت الى الأبد. ولكن عمري قد ورث أرض.
  8. مادبا. فأقام بها مدة حكمه. كما أقام بها الاسرائيليون من بعده. مدة تبلغ نصف حكم أبناء عمري. فجميع ما أقاموه بلغ أربعين سنة.
  9. وأرجع كموش مادبا في أيام حكمي ولقد بنيت خربة معين وحفرت فيها تلك البركة. ولقد بنيت.
  10. خربة القريات. أما شعب جاد فقد كان يسكن خربة عطاروس من زمن قديم. وكان ملك اسرائيل قد بنى لشعب جاد.
  11. خربة عطاروس. والتحمت بالمدينة مقاتلا، وافتتحتها. وذبحت كل سكان.
  12. القرية لأجل كموش ومؤاب. ورددت من هنالك موقد ايل اله ملك اسرائيل المحبوب.
  13. وسحبته إلى بين يدي كموش بالقرية. وأسكنت بالقرية شران وشعب.
  14. محرت. وقال لي كموش: (اذهب! خذ بنو اسرائيل).
  15. فذهبت في نفس تلك الليلة، واشتبكت بالمدينة من وقت تبين الخيط الأبيض من الأسود حتى الظهر.
  16. وافتتحتها، وذبحت كل سكانها، وعددهم سبعة آلاف، رجالا وصبيانا ونساء وبناتا.
  17. واماء. ذلك لأنني ضحيتها لعشتر كموش. كما انني اخذت من هنالك موقد.
  18. يهوه وسحبتها جميعا حتى وضعتها بين يدي كموش. وكان كملك اسرائيل قد بنى.
  19. عليان وقت محاربته اياي. ولكن كموش طرده من امامي.
  20. واخذت من مؤاب مئتي رجل وهم قوام فرقتها العسكرية. ثم قدتهم ضد عليان. وافتتحها.
  21. مضيفا اياها الى مملكة ذيبان. وانا الذي بتى قرحي، وهي حمى اليعرن (؟) وبنيت كذلك سور.
  22. الاكروبولوس في قرحي. وانا الذي بنى ابواب قرحي واسوارها.
  23. وبنيت موقع بيت ملك. وانا الذي حفر كلا البركتين للماء بداخل.
  24. المدينة. لك لأن المدينة كانت خالية من اي بشر. فقد قلت يومها للشعب: (ليحفر
  25. كل رجل منكم بئرا بداخل بيته). وانا الذي قطع الأخشاب بأيدي الأسرى الاسرائيليين لقرحي.
  26. وقد بنيت عراعر. وعبدت الطريق في وادي الموجب.
  27. وانا الذي بنى بيت بموت لأنها كانت مهدومة هدما. وانا الذي بنى ام العمد لأنها كانت (هكذا وردت في النص ) وقد اصيبت بسوء.
  28. كبار القوم في ذيبان (ديبون) كانوا خمسين بالعدد. فذيبان كانت كلها خاضعة لي. وأنا ملكت.
  29. ….. على مئتي مدينة قد أضفتها إلى المملكة. وبنيت
  30. مادبا وخربة دليلة الشرقية وخربة معين. وهنالك أطلقت النقد (وهو نوع من الغنم صغير الأرجل)
  31. …… وضأن المملكة لكي ترعى الكلأ. وأما خربة الذباب فقد سكنها….
  32. … وقال لي كموش: (انزل والتحم بخربة الذباب!) فنزلت والتحمت…
  33. وأعادها كموش بأيامي. وكان بقربها من الطرف البعيد عشر ..
  34. سنة أربع وأربعين. وأنا…

مقدمات ثورة الملك الأردني المؤابي ميشع

البحر الميت 1922 قوارب النقل في عرض البحر الميت

كانت الأرض الأردنية على مر الزمن مطمعاً للعديد من الغزاة، لما لها من أهمية جيوسياسية، ولمرور أهم الطرق التجارية فيها، كما أنها عقدة الشرق القديم، فليس من الممكن أن تحظى بنفوذ دون أن تسيطر على هذه الأرض، أو أن تعقد العلاقات مع أهلها.

وكباقي الممالك الأردنية القديمة مرّت مملكة مؤاب الأردنية بمراحل من الضعف والقوة، وخاضت النزاعات مع جيرانها من امبراطوريات وممالك طامعة بأرضها، خضعت أحيانا، وسيطرت على أجزاء من أراضي أعدائها أحيانا أخرى.

قبيل حكم الملك المؤابي الأردني ميشع، مرّت مملكة مؤاب الأردنية بأحد مراحل ضعفها، وكانت خاضعة لمملكة اسرائيل بطريقة غير مباشرة، حيث احتلت مملكة اسرائيل أجزاءً من أرض مؤاب الأردنية، كما فرضت عليها نوعا من الجزية، وقد ذكر الملك الأردني المؤابي ميشع في مسلته أن ملك اسرائيل قد اضطهد مؤاب ” لأن كموش أعانني على قهر كل الملوك، ولأنه أشمتني بكل أعدائي المبغضين. أما عمري ملك اسرائيل، فقد اضطهد مؤاب طويلا، ذلك لأن كموش أضحى مكروها”، ومن الواضح من نقش الملك العظيم ميشع، أن الاسرائيليين تعمدوا تخريب وتدمير المدن والحواضر الأردنية المؤابية أيضا، كما قاموا بتخريب آبار المياه لضرب النشاط الزراعي في المملكة الأردنية المؤابية.

مع بدايات حكم الملك الأردني المؤابي ميشع، كان الاسرائيليون يخوضون حربا مع الممالك الآرامية شمالاً، في هذه الأثناء كان الحس الوطني لدى الأردنيين المؤابيين يشتعل، وكان الرفض لسيطرة الاسرائيليين على المنطقة يملأُ أفئدتهم، حيث شعر الأردنيون المؤابيون بأن كرامتهم تنتهك عبر هذا الخضوع، وعندما مات عمري ملك اسرائيل بدأت نار الثورة تسري في أرض مؤاب الأردنية، مستثمرين مرحلة انتقال الحكم بعد موت ملك اسرائيل عمري، والحروب التي تخوضها مملكة اسرائيل مع الممالك الآرامية.

ثورة شعب يتقدمها ملك

وخلف عمري ابنه فقال هو الآخر: (سأضطهد مؤاب!) أجل، لقد قال شيئا كهذا الكلام. ولكن كموش جعلني أراه مهزوما من أمامي”، بعدما مات عمري وخلَفه ابنه، ظل يطالب الاسرائيليون بالجزية من مؤاب الأردنية، الا أن أجدادنا الأردنيين المؤابيين رفضوا دفع الجزية، وبادروا بشن الهجمات على المواقع الاسرائيلية، والجدير بالذكر هنا أن الملك ميشع قاد حربا على مملكتي اسرائيل ويهوذا معا.

قاد الملك الأردني المؤابي ميشع عمليات الثورة بنفسه، وتقدّم الصفوف، حيث زحف على المواقع الاسرائيلية من الجنوب باتجاه الشمال، فبدأ بتطهير (مهدبة) أحد أهم مراكز القيادة الاسرائيلية في أرض مؤاب، ثم تابع التقدم شمالا حتى وصل (نبه) أحد أهم المراكز الدينية المؤابية، والتي تحتوي على معبد للإله الأردني المؤابي كموش، واستقر ميشع في (نبه) مدة من الزمن حتى وصلته التعزيزات، وتابع الزحف حتى وصل إلى الحصن الاسرائيلي (ياهص) فاحتله بكل سهولة، وتوجه إلى جبل نيبو مرورا بذيبان ومادبا، حيث قاتَل الاسرائيليين في نيبو من الصباح حتى المساء، مقدماً أعداءه ضحايا للإلهة عشتر- كموش.

بعدما انتصر الأردنيون المؤابيون في معركة نيبو ، وهزموا جيوش مملكة اسرائيل، وتم لهم تحرير بلادهم من الاحتلال، شرع الملك ميشع بتحصين حدوده الشمالية، حتى لا تقع مرة أخرى بيد الأعداء، وحتى يستطيع التفرغ لمهاجمة مملكة يهوذا، ليضمن حماية حدود مملكته الجنوبية دون الخوف من خسارة أجزاء من القسم الشمالي من المملكة.

وادي الموجب 1900 نهاية القرن التاسع عشر شمال الكرك وعرف بنهر ارنون وتم ذكره في مسلة ميشع الملك المؤابي الأردني قبل الميلاد

عندما تم لميشع تحصين حدوده الشمالية بشكل جيد، شرع بتجهيز حملة للهجوم على مملكة يهوذا بالجنوب، المملكة التي استطاعت أن تتحالف مع ممالك مجاورة في محاولة لكسر شوكة الملك الأردني الذي قاد شعبه للنصر، وانتقاماً لأبناء عمومتهم في مملكة اسرائيل، وفي (حصن محي) المؤابي التقت الجيوش المتحالفة ضد المملكة الأردنية المؤابية، مع قوة بسيطة تحمي الحصن من مملكة مؤاب، واستطات القوات المعادية شق طريقها داخل الأراضي الأردنية المؤابية، حتى وصلت حدود الكرك (قير حارسة)، فحاصرتها القوات المعادية، وسط استبسال الأردنيين المؤابيين في حماية عاصمتهم -حتى ذلك الوقت قبل أن يحول ميشع العاصمة إلى ذيبان بعد أن هزم جميع أعداءه-.

إبن الملك ميشع- فادي الكرك وشهيدها

اطلالة على مدينة الكرك – 1874

عندما اشتد الحصار على الكرك من قبل التحالف المعادي، وبعد مدة طويلة من القتال الدامي، بذل فيه الأردنيون المؤابيون دماءهم قرابين لحماية وطنهم، وصد الغزو عن عاصمتهم، شعر الملك الأردني المؤابي ميشع بمعنويات شعبه تنهار، وبأن أعداءه أصبحوا أكثر قرباً من دخول الكرك، الأمر الذي لم يكن من الممكن أن يقبل به هذا الملك عالي الهمة والطموح، ولم يجد أمامه حلاً سوى أن يقدم ابنه البكر أضحية وقرباناً للآلهة، حتى يشحذ همم شعبه ويرفع من معنوياتهم مرة أخرى، وليقول لهم أنا الملك أول من يضحي وبأغلى ما لدي، فداءً لوطني وشعبي، الأمر الذي قبله ابنه دون تردد، فكان مثالاً للتضحية والفداء، ومن أوائل المؤمنين بالأوطان عبر التاريخ.

بعد هذا التصرف البطولي الذي قام به الملك ميشع وابنه البكر، ارتفعت معنويات شعب مؤاب الأردني، فقاتلوا قتالا شديداً، فيما دب الذعر في قلوب الأعداء فكيف لهم أن يهزموا شعبا قدم ملكه ابنه البكر أضحية على درب النصر والبناء، لينكسر الحصار، وتتقدم القوات الأردنية المؤابية مطاردةً فلول الأعداء إلى ما خلف حدودهم، فينتهي بذلك مسلسل الحرب والانتصارات العسكرية لتبدأ رحلة البناء والتعمير.

معركة البناء

لا شك أن الانتصارات العسكرية، وثورات التحرر تعتبر انجازات مهمة، إلا أن المرحلة التي تتبعها هي التي تميز الأمم عن بعضها، فمن يستكين لنشوة النصر، لن يبنِ المستقبل، ولن يبنِ المستقبل سوى من لديه ملَكة التخطيط الاستراتيجي بالإضافة إلى الطموح، وهذا ما ميّز الملك الأردني المؤابي ميشع، التفكير الاستراتيجي والطموح، الطموح اللازم ليحجز لأمته درجةً على سلم الحضارة الإنسانية.

باشر الملك المؤابي الأردني ميشع عملية البناء، خلال خوضه للمعارك، إلا أن عملية البناء هذه كانت تقتصر على التحصينات اللازمة لحماية المواقع التي سيطر عليها، حيث أجّل عملية البناء الحقيقية حتى تم له الانتصار على أعدائه، وتأكد من زوال الخطر الخارجي، وفي تلك اللحظة بدأت عملية البناء الحقيقية.

انقسم مشروع البناء والتعمير لدى ميشع إلى عدة أقسام، منها شق الطرقات وتعبيدها، إعادة بناء المدن والقرى المهدمة، ثم إنشاء مدن جديدة، كما اهتم ببناء المعابد، التي تعبر عن حالة من الترف والراحة المادية، وسرعة التعافي من آثارالاحتلال وحرب التحرير.

أبرز مظاهر البناء في عهد الملك ميشع

صورة لتل ذيبان الأثري عاصمة مملكة مؤاب الأردنية- جريدة الغد – محمد أبو غوش

شرع الملك الأردني المؤابي ميشع ببناء حصون إضافية تضمن حماية مملكته من أي اعتداء خارجي جديد مثل (حصن بعل يمون، حصن كرجتان، حصن بيت بموت، حصن برز، حصن مادبا، وحصن بيت دبلتان)، ثم أعاد بناء جميع المدن والقرى التي هدمتها الحرب، ومن أهم هذه المدن مدينة ذيبان التي اتخذها عاصمة له، وبنى بها ضاحية جديدة سماها قرحي، ضمت قصره الجديد، بالإضافة لمعبد ضخم للإله كموش، عدا عن المؤسسات الادارية، وبيوت الوزراء والقادة.

الثورة الزراعية

إن من  أبرز ما قام به الملك الأردني المؤابي ميشع، هو الثورة الزراعية الضخمة التي قادها بنفسه، حيث بدى اهتمامه واضحا في الإنتاج الزراعي وسبل تحسينه وتضخيمه، بعد أن قام أعداؤه بتدمير هذا القطاع الإنتاجي المهم، حيث كان أهم ما قام به الملك ميشع، حفر البرك والآبار الضخمة، ومما يدلل على اهتمامه منقطع النظير بعملية الزراعة أن طلب من أهل قرحي أن يحفر كل بيت من بيوتها بئرا ”  لأن المدينة كانت خالية من أي بشر. فقد قلت يومها للشعب: (ليحفر كل رجل منكم بئرا بداخل بيته).”

الخاتمة

لم يرضخ الإنسان الأردني على مر العصور، لأي غازٍ خارجي، وإن كان قادرا على تقبل الثقافات والحضارات الأخرى ومزجها بسلاسة مع منظومته الحضارية والثقافية، لذلك وقف الملك الأردني ميشع في وجه العدوان والهيمنة الخارجية، وقاد شعبه محققاً النصر تلو النصر، ولم يكتفِ بذلك، فلم يكن الأردني يوماً رهيناً للظروف التي تفرض عليه، ولم يقبل أن يتوقف دوره على رد الفعل اتجاه الأحداث التاريخية، لذا قام ميشع بعد أن انتصر على أعدائه بقيادة شعبه في معركة أخرى، أكثر أهمية وصعوبة، وهي معركة البناء، التي تَفاخر بها أكثر مما تَفاخر بانتصاراته العسكرية، فبنى بذلك دولةً منيعة، دولة يشعر شعبها بأن لهم وطناً بذلوا في سبيله دماءاً مستحقة.

 

المراجع

  1. كفافي ، د. زيدان عبد الكافي) 2006 (، تاريخ الأردن و اثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية و الحديدية ) ، دار ورد ، عمان .
  2.  A.H.Van Zyl، تعريب وإعداد، ياسين د. خير نمر، (1990)، المؤابيون، الجامعة الأردنية عمان

الملك الأردني المؤابي ميشع

تمهيد

ناقشنا في البحث الأول من سلسلة الأردنيون الغساسنة المشهد العام للمنطقة إضافة للتركيبة المجتمعية العرفية التي ساهمت في تأسيس الإمارة الغسانية الأردنية ومن ثم المملكة الأردنية الغسانية التي قادها الملك الأردني الغساني الحارث بن جبلة، أول حاكم غساني يحمل لقب ملك عام 530 ميلادي. وبحثنا في طبيعة السلطة التي منحت للغساسنة من قبل العشائر الأردنية في البادية والريف والمدن وحواضر الأردنيين الأدوميين والأنباط وغيرهم. وقد أجمع الباحثون على أن الأردنيين الغساسنة قد لعبوا دور حلقة الوصل بين مدن الديكابوليس وبين القوى الرومانية بشكل يحفظ للمدن الأردنية خصيصا استقلالها وحكمها الذاتي وازدهارها التجاري.

نستكمل في سلسلة الأردنيين الغساسنة توضيح ملامح العلاقات السياسية بين الغساسنة والدول المجاورة مع التركيز على العلاقات الغسانية البيزنطية بوصفها أهم العوامل التي مهدت لحكم غساني امتد لأكثر من أربعة قرون من سهول حوران الأردنية إلى أذرح جنوب الأردن ومن الساحل الفلسطيني غربا إلى تخوم البادية الأردنية الشرقية.

وخلال فترة توليهم الحكم، استطاع الأردنيون الغساسنة الإبقاء على علاقة جيدة ومستقرة مع حلفائهم البيزنطيين وذلك لما عرف عنهم من الحنكة السياسية.

مناطق نفوذ الأردنيين الغساسنة

يعد فقر المصادر واختلاط المعلومات الواردة عن الغساسنة في المراجع أحد أهم الصعوبات التي تواجه الباحث في تاريخ الغساسنة. لقد طال هذا الاختلاط عدد ملوكهم وسنوات حكمهم وحتى المناطق التي كانت تحت ولايتهم العامة. (الجميلي: 2016) وربما يكون السبب في ذلك اختلاف وتبدّل المناطق التابعة لنفوذهم وسيطرتهم باختلاف الظروف الاقتصادية والعسكرية، ولا يجب أن نتناسى حقيقة أن الغساسنة كانوا في صراع مستمر مع من حولهم من المناذرة والفرس.

خريطة توضح الممالك القديمة وموقع المملكة الغسانية منها

وبحسب المصادر التاريخية الكنسية القديمة[1] فقد امتدت حدود الأراضي الغسانية منطلقة من البلقاء الأردنية كمركز وصولا للجنوب في نجران وغربا للنقب وسيناء وفلسطين وشرقا في البادية الأردنية بأكملها وصولا لحدود بادية الفرات وشمالا حتى مدينتي صور وصيدا. وقد اشتملت هذه الحدود على مدن الديكابوليس (الثماني والتي زادت مع الوقت إلى عشرة) إضافة للعديد من المدن الأردنية المزدهرة كمدينة الربة في الكرك على طريق  البترا.

سكن الأردنيون الغساسنة في البداية سهول حوران  الأردنية ومن ثم انتقلوا إلى البلقاء وبلغت مملكتهم أوج اتساعها في عهد الملك الحارث بن جبلة المذكور في المصادر اليونانية باسم “جبلس”.

كان شعراء الجاهلية وصدر الإسلام يفتخرون بالغساسنة للغاية. وبسبب ذلك، يعد الشعر العربي مصدرا مهما للاستدلال على الرقعة التي امتدت عليها ولاية الأردنيين الغساسنة، فيقول حسان بن ثابت:

لمن الدار أوحشت بمعانِ             بين أعلى اليرموك فالجمّان

فقفا جاسم فأودية الصفر             مغنى قبائل وهجان

تلك دار العزيز بعد أنيس            وحول عظيمة الأركان[2]

ويقول أيضا:

أسألت دسم الدار أم لم تسأل         بين الجوابي فالبضيع فحومل

فالمرج مرج الصفرين وجاسم     فديار سلمى در لم تحلل

دمن تعاقبها الرياح دوراس       والمدجنات من السماك الأعزل

لله در عصابة نادمتهم            يوما يحلق في الزمان الأول

وقد تناول الشاعر النابغة الذبياني، وهو شاعر جاهلي، الغساسنة فمدحهم كثيرا وأثنى عليهم ومن قصائده التي يمكن لنا أن نستشف فيها حدود الإمارة الغسانية:

بكى حارث الجولان من فقد ربه     وحوران منه موحش متضائل

قعودا له غسان يوحون آوبه        وترك وهط الأعجمين وكابل[3]

ونستطيع تميز العديد من الأماكن من هذه الأشعار فهناك معان وحوران والجولان واليرموك وغيرها. وقد يساعدنا هذا على تصور اتساع الدولة الغسانية بشكل أو بآخر. إن تخيل دولة ناشئة ذات نفوذ قوي بهذه الصورة سيوضح السبب الذي دفع بالإمبراطورية البيزنطية لاختراع الحجة تلو الحجة لأمراء الغساسنة وملوكهم لينتهي الأمر أخيرا بنفيهم.

وما يهمنا من معرفة حدود الإمارة والمملكة لاحقا كذلك هو معرفة أهم العواصم التي شكلت المشهد السياسي العسكري. فبصرى، بحسب المؤرخين كان العاصمة الدينية. أما الجابية وجلق والبلقاء فقد كانت العواصم السياسية التي تجهز منها الجيوش وتنطلق الحملات العسكرية ويصدر منها القرارات السياسية والإدارية (الجميلي: 2016) كما تساعدنا معرفة الحدود على إرساء فهم كامل لطبيعة العلاقات الدولية السياسية بين الأردنيين الغساسنة والبيزنطيين والفرس والمناذرة.

الأردنيين الغساسنة والإمبراطورية البيزنطية

أولا: الدين والعلاقة السياسية الغسانية البيزنطية 

كان الدين عاملا رئيسا في العلاقات الغسانية البيزنطية، فقد استغلت الإمبراطورية اعتناق الغساسنة وسائر القبائل الأردنية للمسيحية لكسبهم حلفاء إلى صفها. ولفهم طبيعة العلاقة المعقدة التي جعلت الدين سلاحا مهما في العلاقات الدولية ينبغي لنا أن نطلع باختصار على تاريخ المسيحية .

كانت الإمبراطورية الرومانية إمبراطورية وثنية حتى جاء قسطنطين العظيم الذي حكم روما 306–337 ميلادي  وحوّل ديانة الإمبراطورية إلى المسيحية وأرسى قواعد الأرثوذكسية وكان قد نقل العاصمة من نيقوميديا إلى بيزنطة الواقعة على البسفور عام 329 ميلادي وسميت بعدها “الإمبراطورية البيزنطية الشرقية”.

ومن هنا توقف الاضطهاد الوثني للمسيحيين بشكل عام. أما مسيحيو الشرق فهم القبائل الأردنية البدوية التي اعتنقت المسيحية بفعل تأثير الملكة الأردنية ماوية التي سنأتي على ذكرها لاحقا، وبفعل تأثير المضطهدين المسيحيين الذين لجؤوا للمشرق هربا من التعذيب في الإمبراطورية الرومانية آنذاك.

رمز الأرثوذكس البلغار للإمبراطور قسطنطين وأمه القديسة هيلانة – المصدر وكيبيديا

في ذلك الوقت، كان هنالك مذهبان مسيحيان رئيسان يسيطران على المشهد. المذهب الأول هو المذهب الميافيزي والذي يؤمن بأن للمسيح طبيعتين إلهية وبشرية وقد اتحدتا لتصبحا طبيعة واحدة. وهنالك المذهب المونوفيزي والذي يؤمن بأن للمسيح طبيعة وحيدة وهي الطبيعة الإلهية وقد تلاشت الطبيعة البشرية فيه. تنامى النزاع بين المذهبين وبدآ يكيلان التهم لبعضهما.

كان الأردنيون الغساسنة يدينون بالمونوفيزية (مذهب الطبيعة الإلهية الوحيدة) وكانوا والقبائل البدوية الأردنية وسائر السكان متعصبين لهذا المذهب ومتمسكين فيه، لم تستطع الإمبراطورية البيزنطية تحويلهم عن مذهبهم فعقدت معهم أحلافا سياسية تضمن حرية العقيدة وفضلت أن ترجح لصالحها كفة القوى على أن تدخل في حرب دينية أخرى مع أناس سبق لهم أن هُزموا أمامهم وأمام ملكة محاربة من ملكاتهم وهي الملكة ماوية.

ورغم اعتبار الإمبراطورية البيزنطية لمذهب الغساسنة الديني بأنه مذهب منشق ومعارض إلا أن الإمبراطورة ثيودورا وافقت على طلب الملك الغساني الحارث في تعيين المطران يعقوب البرادعي ورفيقه ثيودورس أسقفين لمسيحي المشرق عام 542 -543 ميلادي. (علي: 2001) وقد أثبت هذا الحدث نقش سرياني عثر عليه في منطقة النبك كتب فيه ( في عهد الأسقفين المحترمين القديسين يعقوب وثيودور، عندما كان أبو كرب ملكا) وأبو كرب هو حاكم ولاية فلسطين البيزنطية وأخو الملك الأردني الغساني الحارث (خربوطلي ومحمد: 2017)

حتى أن الإمبراطورية البيزنطية منحت ألقابا كنسية دينية للأمراء الغساسنة، فمثلا منح الإمبراطور جستنيان للحارث الغساني لقب ملك واعترف به ملكا على أراضي الإمارة الغسانية، ومن وقتها انتقلت من إمارة إلى مملكة كما منحت الإمبراطورية لقب “بطريق” و” فيلارخ” – بمعنى عامل أو شيخ قبيلة – لعدد من الملوك والأمراء الآخرين. (الجميلي: 2016) مما زاد من الثقة بين الدولتين وأسبغ على علاقتهما السياسية شيئا من الاستقرار.

المطران يعقوب البرادعي

ثانيا: لماذا اهتم البيزنطيون بعلاقتهم مع الغساسنة؟

مهّد إسقاط الرومان للدولة التدمرية عام 237 ميلادي لعودة السيادة الرومانية الكاملة، ولكنهم فوجئوا برفض القبائل الأردنية البدوية ورفض السكان لأي مظهر من مظاهر فرض القوة ولذلك طوّروا حلف الديكابوليس يوناني الأصل كحل وسط يضمن استقلالا ذاتيا وازدهارا تجاريا.

وبسبب طبيعة التوسع الإمبراطوري والتنافس بين أكبر قوتين آنذاك: الروم والفرس؛ لم يشأ البيزنطيون أن يستميل الفرس الغساسنة إلى جانبهم فقد كانت الإمبراطورية الفارسية قد استمالت المناذرة بالفعل.

أجمع أهالي المدن والقبائل الأردنية على الغساسنة كي يكونوا حلقة وصل كما أسلفنا بين المدن والحواضر الأردنية وبين البيزنطيين. وقد أدرك البيزنطيون ذلك وأسسوا علاقات سياسية جيدة وقوية مع الغساسنة انعكست على أمن المنطقة وازدهارها تجاريا.

يمكن القول بأن أول تأسيس فعلي للإمارة الأردنية الغسانية كان في القرن السادس رغم أنهم كانوا مكونا سكانيا مؤثرا في الأردن منذ القرن الأول الميلادي. وقبل ذلك بمدة جيدة كانت الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية في حالة هدنة وسلم نسبي.

صورة كنسية للملكة البدوية ماوية التي شنت غارات عنيفة على الإمبراطورية البيزنطية

 في ذلك الوقت كانت القبائل الأردنية في البادية الأردنية الشرقية تشن غزوات وحملات عسكرية ضد البيزنطيين دفاعا عن عقيدتهم.  أشار المؤرخون اليونان لملكة بدوية تدعى ماوية Mavia حكمت القبائل في البادية الأردنية الشرقية وشنّت غارات مدمرة وعنيفة ألحقت الدمار بالقرى والمدن على مناطق النفوذ الروماني وانتصرت الملكة ماوية في عدة معارك وقد انتهى الأمر بالبيزنطيين أن يعقدوا هدنة معها وفق الشروط التي وضعتها وقد كانت شروطها أن يولّى قس يدعى موسى على مسيحي المنطقة حتى وإن خالف مذهبه مذهب الإمبراطورية (علي: 2001) ولكنهم ظلوا متوجسين خائفين من غزوات البدو الشرسة على مصالحهم ومناطق نفوذهم.

أدرك البيزنطيون أن السير مع شروط القبائل البدوية وأهالي المنطقة هو الخيار الأسلم لهم، فعندما أجمعوا على الغساسنة كولاة وجدوا الأمر فرصة ذهبية وجب عليهم إحسان استغلالها.

ثالثا: العلاقات البيزنطية الغسانية في القرن السادس الميلادي

كان الأمراء الغسانيون على قدر عال من الذكاء والحنكة، استطاعوا تثبيت وجودهم عبر استغلال الظروف السياسية المضطربة التي سادت المنطقة. وعرفوا مدى تخوف البيزنطيين من غزوات القبائل البدوية ومن هجوم فارسي أو مناذري محتمل وأدركوا بأن القرن السادس الميلادي سيكون مفتاحا لقوة وسلطة أكبر إن هم أحسنوا استغلال سقوط مملكة كندة شمال الجزيرة العربية. وكان لهم ما طمحوا به.

في الربع الأول من القرن السادس الميلادي قُتل الفيلارخ الحارث الكندي أمير كندة والذي كان عاملا للروم في المنطقة وسادت بعدها الاضطرابات وخشي البيزنطيون أكثر على مصالحهم. وبالطبع استغل الغساسنة بذكاء الفجوة التي أحدثها موت الكندي فشنوا حراكا عسكريا قويا عام 500 كما يذكر المؤرخ ثيوفانس. ولما أدرك البيزنطيون أنهم بمواجهة عدو جديد محتمل علموا بأن الجنوح إلى السلم هو الخيارالأفضل.

كانت فكرة البيزنطيين تقوم على توحيد القبائل الأردنية والأهالي والحواضر فيما يشبه الحكومة المركزية (حلف الديكابوليس) ولهذا أطلق الإمبراطور جوستنيان لقب ملك على الحارث الغساني حوالي العام 529-530 ميلادي وعينه على عدد من الولاة ( الأصغر منه ترتيبا) مع احتفاظ كل وال بسلطته المحلية وسيادته الذاتية (الجميلي: 2016) وفي الفترة نفسها عيّن الإمبراطور أخ الحارث الأمير الملقّب بأبو كرب على ولاية فلسطين وبذلك أصبح الأردنيون الغساسنة مسؤولين عن حماية الحدود البيزنطية من تدمر شمالا إلى وادي الحسا جنوبا. (خربوطلي ومحمد: 2017)

ومع الوقت ازدادت أهمية الحارث وأخيه أبو كرب فقد صار الأخير مسؤولا عن حماية الثغور الرومانية في أيلة والنقب والحجاز. وقد لخّص الباحث عرفان شهيد أهمية ولاية أبو كرب بالنسبة للإمبراطورية البيزنطية في حماية الأماكن المقدسة في المنطقة وحماية القوافل التجارية المارة بالأردن وفلسطين وحماية المجتمعات الحضرية من أي غارات مناوئة محتملة (Shahid: 1995)

رابعا: توتر العلاقات الغسانية البيزنطية

 بدأت العلاقات الغسانية البيزنطية تتوتر بسبب الظروف السياسية السائدة فقد قَتل الحارث بن جبلة الغساني، أحد أعظم ملوك الغساسنة، ملك الحيرة (مملكة المناذرة) المنذر بن ماء السماء وقد أشعل هذا فتيل الحرب بين المملكتين؛ إذ أرسل المناذرة غارات انتقامية من الغساسنة في العامين المتتاليين. وبعد مدة مات الحارث بن جبلة واستغل المناذرة ذلك فشنوا هجوما قويا على أراضي المملكة الغسانية وتابع المنذر بن الحارث الرد على هجمات المناذرة بهجمات أخرى ولم تتوقف المملكتين عن تبادل الهجمات والغارات لمدة طويلة من الزمن. (خربوطلي ومحمد: 2017)

 لم تكن علاقة المنذر بن الحارث الغساني مع الإمبراطور البيزنطي جوستين الثاني علاقة طيبة ، فقد طالب المنذر البيزنطيين بالمال لإدارة بعض شؤون الدولة أو لتسليح جنده ضد الفرس وقد رفضوا ذلك. بعدها اتهم المنذر جوستين الثاني بمحاولة اغتياله. وعلى أية حال، اضطر البيزنطيون لاسترضاء المنذر بن الحارث الغساني  بعدما توغل المناذرة في المنطقة وأشاعوا فيها الرعب والدمار.

أما الحادثة الثانية التي دفعت بالعلاقة الغسانية البيزنطية إلى الهاوية فهي اتهامهم للملك المنذر بالخيانة. فقد كانوا يستعدون للقيام بحملة عسكرية على الفرس ووجدوا الجسر الممتد على جسر الفرات مهدّما فاتهموا المنذر الغساني بالخيانة وقتها.

وبحسب بعض المؤرخين فإن الإمبراطور البيزنطي  قد عهد إلى المنذر الغساني بالتوفيق والتوحيد بين المذهبين الدينيين المتعصبين فقد كان جميع أجداد المنذر الغساني حكاما شديدي الولاء لمذهبهم. حاول المنذر الغساني أن يستعيد حظوته عند البيزنطيين فأغار على الحيرة عاصمة المناذرة ولكن الجيش الروماني اعتبر هذا تحدّيا لخططه فأمر بالقبض عليه ونفيه مع ابنين وبنت له إلى جزيرة صقلية وأخذت بعد ذلك الإمارة الغسانية تضعف مع الوقت (سالم: 2006)

في عام 582- 584 ميلادي حاول النعمان بن المنذر الغساني استعادة حكم أبيه وسلطته فهجم على الإمبراطورية البيزنطية دون تحقيق مكاسب واستطاعت القوات البيزنطية في النهاية أسره ونفيه مع والده المنذر.

ويظهر لنا أن الإمبراطورية البيزنطية كانت تخلق الحجة تلو الحجة لتقطع علاقتها بالمملكة الأردنية الغسانية ولتضعف نفوذها وسيادتها، فقد أمست الأخيرة خطرا يهدد مصالحها السياسية في المنطقة بلا شك.

الأردنيون الغساسنة والدول المجاورة

أولا: الغساسنة والمناذرة

خريطة توضح امتداد الغساسنة والمناذرة والحدود المشتركة

يتصل ذكر الغساسنة دوما بألد أعدائهم المناذرة الذين والوا الفرس وقد جمعتهم معهم المصالح السياسية والدينية. فالمناذرة كانوا وثنيي الديانة كما كان الفرس ورغم أنهم اعتنقوا المسيحية في فترة من الفترات إلا أنهم لم يتوقفوا عن عدائهم للغساسنة أبدا. أسس المناذرة أو كما سموا “اللخميون” مملكة الحيرة[4] في العراق وكانت مملكة مهمة لوقوعها على طريق الحرير التجاري.

بالمقابل دافع الغساسنة بشراسة عن وجودهم في المنطقة وحموا مصالحهم السياسية ومصالح حليفتهم الإمبراطورية الرومانية. سنلقي الضوء في هذا البند على أهم الصراعات التي دارت بين أكبر مملكتين في المنطقة آنذاك.

1. يوم حليمة

عام 544 ميلادي، تجدد الصراع بين المناذرة والغساسنة، الصراع الذي كان يخمد قليلا ولكن يعود للثوران كبركان غاضب. كان النزاع هذه المرة على منطقة مهمة تدعى ستراتا تقع إلى الجنوب من تدمر، وهي منطقة استراتيجية مهمة للطرفين حيث تمر بها القوافل التجارية ورعى بها القبائل البدوية مواشيها. بدأ المنذر، ملك المناذرة، الهجوم فتوغل في المناطق الغسانية وتصدى له الحارث بن جبلة. انتصر الحارث في النهاية وصرع عدوه المنذر بالقرب من قنسرين وتنامى بعدها الخلاف بين الفرس والروم وتراشقت الإمبراطوريتان التهم. (علي: 2001)

وقد تناولت الأدبيات الجاهلية هذه الموقعة، فحسان بن ثابت تغنى “بزمن حليمة” كثيرا في أشعاره، وقد قالوا فيه أيضا:

يوم وادي حليمة وازدلفنا      بالعناجيج والرماح الظماء[5]

كما نجد أن الموروث الشعبي للأمثال احتفى بهذا اليوم فيقال “ما يوم حليمة بسر” أي أنه مشهور جدا للدرجة التي لا يجهله فيها أحد. والجدير بالذكر أن اليوم قد سمي نسبة لابنة الملك الحارث الغساني التي كانت تطبب الجرحى وتخيط الأكفان.

2. معركة عين أباغ

تناولنا في فصل توتر العلاقات البيزنطية الغسانية السابق ملامح الصراع بين المناذرة والغساسنة والتي أدت إلى انشقاق عصا العلاقات السياسية بين الغساسنة والبيزنطيين. كان الحارث بن جبلة قد رفض أن يدفع الاتاوة التي طالب بها ملك المناذرة وكان هذا السبب الرئيس لبداية سلسلة المعارك التي انتهت بيوم يُعرف بيوم عين أباغ. (الجميلي: 2016)

منمنة (صورة تخيلية) تصور الملك الغساني الحارث وهو في خيمته

بعد قتل الملك الغساني الحارث بن جبلة لملك المناذرة المنذر بن ماء السماء لم يهدأ الوضع السياسي في المنطقة وبلغ العداء بين المملكتين أوجه. يختلف المؤرخون على تحديد تاريخ موقعة عين أباغ، فبعضهم يقول بأن سلسلة الغارات تنقسم لمعركتين رئيستين بدأ بهما بالمناذرة ولكن الغساسنة هم من انتصروا في النهاية يوم 20 أيار عام 570. يرجح المستشرق الألماني نولدكه بأن المعركة الثانية هي موقعة عين اباغ التي دارت رحاها شمال شرق أراضي المملكة الغسانية.

أنشد الشعراء العرب شعرا كثيرا بخصوص هذه الواقعة فيقول ابن الرعلاء ابن الملكة الغسانية الرعلاء التي شاركت في المعركة:

كم تركنا بالعين عين أباغ           من ملوك وسوقة أكفاء

أمطرتهم سحائب الموت تترى        إن في الموت راحة الأشقياء

ليس من مات فاستراح بميت          إنما الميت ميت الأحياء[6]

وأنشد الشاعر الرياشي:

بعين أباغ قاسمنا المنايا     فكان قسيمها خير القسيم[7]

إنه من الصعب حصر عدد الغارات المتبادلة بين المملكتين  آنذاك. لقد كانت المنطقة برمتها تعاني من توتر سياسي شديد ومستمر. ويهمنا من هذا معرفة كيف أن الغساسنة استغلوا هذا العداء بين بلاد فارس وبيزنطة لتثبيت وضعهم السياسي وبسط سيادتهم على المنطقة وضمان استقلالية المدن التي منحتهم تلك السلطة.

ثانيا: الغساسنة وكندة والقبائل العربية

كانت كندة مملكة عربية أسستها القبائل شمال الجزيرة العربية وكان حاكمها “فيلارخ” أي عاملا للروم. اقتصرت العلاقات السياسية بين الغساسنة وكندة على استغلال الغساسنة للفوضى التي أحدثها موت الملك الكندي وعدم مقدرة خلفائه على سد هذه الثغرة. ولغايات تثبيت حكمهم وضمان أمان المنطقة انتقم الغساسنة لموت الملك الكندي وأثبتوا جدارتهم العسكرية وكفاءتهم في إدارة الجيوش وحماية مصالح حلفائهم والمناطق المؤثرة على أمنهم القومي.

لم تكن العلاقات الغسانية مع القبائل العربية مستقرة على الدوام فتذكر بعض المصادر والروايات أن الملك الغساني الحارث بن أبي شمر قد توعد بني تغلب بغزوهم لأنهم لم يحسنوا استقباله. ولم تمنع هذه المشاحنات الغساسنة من أن يكونوا الحكومة المركزية الكفء التي تمثل الحواضر والمدن الأردنية.

الخاتمة

استعرضنا في هذا البحث من سلسلة الأردنيون الغساسنة مجمل العلاقات الدولية بين الغساسنة وحلفائهم من البيزنطيين وأعدائهم من المناذرة والفرس. لا يستطيع الباحث في تاريخ المملكة الأردنية الغسانية أن يفصل بين شقي الدولة السياسي والمجتمعي، فقد لعبت السياسة العامة التي اتخذها الرومان إضافة لذكاء الحكام الغساسنة وطبيعة المجتمع الأردني دورا حاسما في إرساء قواعد هذه الدولة التي حكمت مناطق واسعة من عاصمتها البلقاء.

المراجع

  • سالم. س. (2006)، تاريخ العرب قبل الإسلام، (ط1) مصر: الإسكندرية، مؤسسة شباب الجامعة.
  • علي. ج. (2001) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، (ط4)، لبنان: بيروت، دار الساقي
  • قاشا. س (2005) صفحات في تاريخ المسيحيين العرب قبل الإسلام، (ط1) لبنان: بيروت، منشورات المكتبة البوليسية، سلسة الكنائس المسيحية الشرقية
  • الجميلي. أ. (2016) العلاقات الخارجية لدولة الغساسنة، (ط1) الأردن: عمان، دار أمجد
  • العيسى. س. (2007) الغساسنة: نسبهم، حروبهم، تنقلاتهم، ديانتهم، ثقافتهم، (ط1) سوريا: دمشق، دار النمير.
  • خربوطلي، ش. و محمد. ي. العلاقات السياسية البيزنطية الغسانية في القرن السادس الميلادي. مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية، سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية (مجلد 39)، العدد 2، 2017
  • Shahid, I. (1996) Bazantinum and Arab in the sixth century, Vol1. Dumbarton Oaks, Harvard University.

[1] جلعاد، أو (جلعد) قرية أردنية من قرى مدينة السلط في محافظة البلقاء

[2] المصدر: العلاقات الخارجية لدولة الغساسنة ص59

[3] المصدر السابق/ ص 60-61

[4] الحيرة منطقة في العراق

[5] المصدر العلاقات الدولية الخارجية لدولة الغساسنة. للدكتور أحمد الجميلي ص112

[6] المصدر: العلاقات الدولية الخارجية لدولة الغساسنة للدكتور احمد الجميلي، ص 110

[7] المصدر السابق

[1] المصادر الكنسية هي ما كتبه القسيسون وآباء الكنائس الشرقية والغربية في التاريخ وأحوال المنطقة وتعد كتبهم من المراجع المهمة التي تناولت أحاول الممالك المسيحية في الأردن.

الأردنيون الغساسنة: العلاقات السياسية الخارجية

Scroll to top