مقدمة

عند الحديث عن الأغنية الأردنية التي عادت لتزهر من جديد مع مختلف القطاعات الأخرى التي نهض بها الأردنيون في القرن العشرين بعد التخلّص من عصور الاحتلال العثماني المظلمة، فإن الموسيقار جميل العاص، وهو أول عربيّ يحصل على لقب موسيقار من بريطانيا، سيكون دومًا حاضرًا بمكانته وألحانه وروحه الموسيقية التي كبُرت على ضوئها المسموع أجيالٌ من الأردنيين حتى يومنا الحاضر. فهو واحدٌ من مجموعة الروّاد الأوائل الذين فهموا لهجة هذا الشعب على أنها اللغة المقدّسة التي تنطق بها البيادر والمدارق وغصون الحور وأوراقه العطريّة التي تستقبل بأريجها ضيوف الدار، الدار الأردنية التي نطق باسمها الموسيقار العاص أنّها “ترحّب بالظيف .. والمشاعل مظويّة”.

الميلاد والنشأة الفنية

وُلِد جميل العاص في الأول من كانون الثاني عام 1929،  لعائلة بسيطة تعيش حياة بسيطة متواضعة وظروفًا عاديّة ضمن الحياة الاجتماعية التي ارتبطت بالظروف السياسيّة وأجواء الحرب العالميّة الثانية آنذاك. باشر الموسيقار العاص تعليمه في الكتّاب حتى الصف الثالث الابتدائي، حيث تعلّم القراءة والكتابة وقراءة القرآن، وتميّز بموهبة ملفتة للنظر في حفظ النصوص القرآنية في التاسعة من عمره، ثم انتقل إلى التعليم النظامي واستمرّ به حتى الصف السادس، وخلال هذه المرحلة كان لفت نظر مُعلِّم الأناشيد المدرسيّة بحسّه المرهف للموسيقى والأغاني، فاهتم به وساعده على تنمية موهبته ضمن حدود المتاح في المدرسة آنذاك.

دفعه فضوله وشغفه بالموسيقى للتسلل إلى كنيسة القيامة، لكنّه كان يُبدي سلوكًا صبيانيًا مشاكسًا كأقرانه الذين يداومون على سرقة الشمع من الكنيسة، لكن راعي الكنيسة الأب حنا كان في إحدى المرّات قد أمسك بجميل وشاركه الطعام وقال له “لا تشاكس يا جميل”، وبعد هذه الحادثة ظهر السبب الحقيقي الذي كان يدفع جميل إلى الكنيسة، ليست المشاكسة، وإنما اللّحاق بصوت التراتيل التي تُتلى بمرافقة آلة الأورغن، وكانت هذه ثاني آلة موسيقية يعرفها جميل بعد آلة العود في صغره، وكان العازف والمؤلف الفلسطيني أوغستين لاما هو عازف الأورغن الذي يخدم في صلوات الكنيسة كل يوم أحد، وبعد طلب جميل؛ أخذه الأب راعي الكنيسة إلى أوغستين الذي لاحظ بدوره في جميل بعد عدّة مرّات من جلوسه إلى جانبه أنه يتمتّع بموهبة نادرة وميول لتعلّم الموسيقى، وما لبث جميل أن التحق بالجوقة في الكنيسة وصار يرتّل معهم. تعلّم آلة العود على الشيخ محمد شكري عبدالكامل مُدرّس الأناشيد في المدرسة البكرية في القدس حيث كان جميل العاص يدرس فيها، قبل أن ينتقل إلى المدرسة العمرية ويكمل دراسته في الكلية الرشيديّة ويحصل على شهادة المترك.

عمل جميل العاص بعد دراسته مع المحامي محمّد الصّالح البرغوثي، وكانت آلة العود لا تفارقه حتى خلال ساعات العمل في مكتب المحاماة، وفي مرّة من المرّات دخل المحامي البرغوثي ووجد العاص يعزف العود بإتقان مبهر، فأُعجِب به وأبلغ صديقه الأستاذ عجاج نويهض – مدير إذاعة القدس آنذاك – بموهبة العاص، فانتقل الأخير إلى دار الإذاعة ليعمل عضوًا في الكورال ويقدّم كل يوم سبت أغنية بصوته.

الانطلاقة والمشوار الفنّي

في العام 1959 تم افتتاح الإذاعة الأردنية في العاصمة عمّان، وقبل الافتتاح قام دولة المرحوم عبدالمنعم الرّفاعي بتكليف مجموعة من موسيقات القوات المسلّحة وآخرين بتلحين نشيد “أيّها السّاري”، وهو نشيد وطني للجيش، ولم يقع اختياره على أي من الألحان التي تقدّم بها أصحابها. استدعى الأستاذ ساري عويضة الفنان جميل العاص، الذي كان يعمل وقتها في الإذاعة دون مكتب ويقوم بواجباته من المطبخ، فسأله المدير : لماذا لم تلحّن النشيد؟ وكان جواب العاص ببساطة أن أحدًا لم يكلّفه بهذه المهمّة، فقال له المدير : أنا الآن أكلّفك وأعطيك مهلة عشرة أيام لتلحينه، فرد العاص : أحتاج فقط لساعات معدودات. وبالفعل قام بتلحينه في نفس اليوم وتم اختيار اللحن وإذاعته، وإثر ذلك قرر الرّفاعي تعيين العاص رئيسًا للقسم الموسيقي في الإذاعة الأردنية، وتم استدعاء مجموعة من الفنانين وتشكيل فرقة موسيقى دار الإذاعة.

انضم جميل العاص إلى فريق ضمّ الشاعر رشيد زيد الكيلاني والفنان توفيق النمري، وقاموا معًا بجولات لمسح وجمع وتوثيق العديد من الأغاني والأهازيج التراثية الأردنية، فاستلهم منها العاص أعمالاً كثيرة صاغها بروحه وشخصيته وأسلوبه الذي لم يطغَ بسماته اللحنية على الشخصية الأصلية للأغنية التراثية، حيث كان يأخذ اللحن الأساسي ويطوّره بما يتلائم مع روح اللحن وشخصيته، ويضيف إليه اللوازم الموسيقية أو الجُمَل المُكمِّلة له.استطاع العاص من خلال عمله في هذا الفريق أن يصنع معهم أغنية أردنية على أعلى مستوى من التميّز والتعبير عن روح الإرث الموسيقي الأردني. وعلى يده وصلت الألحان الأردنية إلى مختلف دول العالم وتم توزيعها من خلال سفارات المملكة في دول العالم ولاقت استحسانًا ورواجًا كبيرًا.

بقي تأثّر العاص بالإرث الموسيقي واضحًا ومستمرًا، وظلّت الجملة اللحنية ذات الطابع الشعبي تفرض نفسها في ألحانه الخاصة، حتى تلك الألحان الطويلة التي لحّنها لكبار المطربين من أمثال وردة الجزائرية (أغنية عزمات، من كلمات عبدالمنعم الرّفاعي)، والقصائد التي كتبها حيدر محمود وغنّتها نجاة الصغيرة. ومن الجدير بالذكر أن جميل العاص كان الأول والرائد في صياغة الألحان الطويلة للقصائد في الأردن.

بموازاة اهتمامه بالإرث الموسيقي، اهتم العاص بالأعمال المسرحية التي كانت تؤدّى في مختلف المهرجانات الفنية في القرن العشرين، وعلى رأسها مهرجان جرش الذي كان العاص من روّاده منذ انطلاقته الأولى في الستينيات، ومن أعماله المسرحية الغنائية : العودة إلى الجنّة، عين القصر، عروسة الطّير، وتل العرايس، وخالدة. وخلال رحلته الموسيقية والمسرحية في المهرجانات والمشاركات الإذاعية والتلفزيونية، اكتشف العاص العديد من الأصوات التي أصبحت مع مرور الوقت من الأسماء الهامة في مجال الأغنية الأردنية، وكان العاص معروفًا بين الملحنين على أنه الأكثر غزارة في عطائه وانتاجه وأكثرهم اعتمادًا على الإرث الموسيقي وقدرةً على توظيفه وتجديده وبناء آفاق لحنية جديدة مستوحاة من القديم وتحمل سمات الحداثة في آنٍ واحدٍ. ولعلّ أبرز الأسماء الأردنية التي لحّن لها العاص أعمالاً تناقلتها أجيال الأردنيين من جيلٍ إلى جيلٍ : سلوى، اسماعيل خضر، إلياس عوالي، شكري عيّاد، فهد النجّار. ومن الأسماء العربية التي غنّت ألحان العاص : وردة الجزائرية، نجاة الصغيرة، سميرة توفيق، وديع الصافي، محمد ثروت، لطفي بُشناق.

تميّز العاص بأدائه على آلة البزق، التي كانت أقل شهرةً مما هي عليه اليوم، كان قد رآها خلال إحدى رحلاته الفنية في بيروت وتعلّم عزفها هناك، وعاد بها موظّفًا إياها في التوزيع الموسيقي للأغنية الأردنية، ليضرب مثلاً نموذجًا على انفتاح الأردنيين موسيقيًا على الآلات والتجارب المجاورة وأخذهم بها وتطويعها لشخصيّة الأغنية الأردنية. وكان العاص بصفته قد تميّز بأدائه على البزق قد شارك بها في عدة مهرجانات في دول غربية مثل : إزمير، لوس أنجلوس، شيكاغو، وفي معظم الدول العربية. وحاز على العديد من الجوائز لإبداعه في العزف عليها.

كتب العاص موسيقى تصويرية لأكثر من 16 فيلمًا سينمائيًا، كما أنه لحّن معظم أغاني الأفلام التي شاركت فيها الفنانة سميرة توفيق، ومن أشهرها : حي الله بليالي الكيف، حاسس في قلبي دقّة، يا مدقدق بن عمّي.

أهم المراحل التي مرّت بها الأغنية الأردنية على يدي جميل العاص

المرحلة الأولى :

كانت مرحلة خلق الأغنية الأردنية الملتزمة بروح الإرث الموسيقي الأردني وأغانيه المنتشرة بين الشعب في البادية والريف والمدينة. وهي المعجزة التي صنعتها الإرادة السياسيّة آنذاك التي أدركت مبكّرًا أهميّة الفنون في عملية النهضة وبناء الدولة الحديثة، والتقت هذه الإرادة التي مثّلها قادة كبار في التاريخ الأردني الحديث مثل الشهيد وصفي التل وهزاع المجالي وحابس المجالي وعبدالمنعم الرفاعي، برغبة وحماسة فنّانين أردنيين مخلصين ومتطلّعين شوقًا لخلق أغنية تعبّر عن رومانسية المكان الأردني وقيم الإنسانيّة فيه المتوارثة عبر مئات الأجيال من الأردنيين، فكان للشاعر رشيد زيد كيلاني وحسني فريز، والموسيقيين مثل توفيق النمري وجميل العاص وغيرهم من العازفين والمغنيين، الدور الأبرز في إنجاح هذه المرحلة التي لازال المشهد الموسيقيّ الأردني يقطف ثمارها ومتأثّرًا بها تأثيرًا ثقافيًا عميقًا.

أبدع العاص خلال هذه المرحلة مجموعة من الأغاني، مثل : شدّينا ع الخيل الضمّر، النشامى، يا بو قظاظة بيظا، بالله تصبّوا هالقهوة، يا خيال الزرقا، تخسى يا كوبان، مرحب يا ريم الفلا … وغيرها من الأغاني والأهازيج.

المرحلة الثانية :

وكأيّ موسيقيّ مُبدع، وجد العاص نفسه أمام تحدٍّ لذاته للانعتاق من الدوران المجرّد في فلك الألحان التراثية، نحو آفاق موسيقيّة جديدة في اللحن والتوزيع، فبدأ يلحّن لمطربين أردنيين وعرب ألحانًا جديدة، لكنّها تعتمد على الجملة الموسيقيّة الشعبيّة المتعمّقة في جذور الإرث الموسيقي. ومن أعماله في هذه المرحلة : يا هلا بالضيف، بلدي عمّان، يا طير يا طاير، أنا من العقبة يا عيوني، يا بلادي أنتِ حرّة، يا خالي قرّب العيد. ومعظم تلك الأغاني كانت ملتزمة بالموضوع الأردني الوطني، فلاقت انسجامًا مع طموحات وأفكار وقضايا الأردنيين، ما منحها شهرةً ووسّع المداخل أمام دخول ألحانٍ جديدةٍ إلى المكتبة الموسيقيّة الأردنيّة.

https://www.youtube.com/watch?v=re0_FSQTNX4

المرحلة الثالثة :

انطلق العاص في هذه المرحلة للتلحين لعدد من المطربين العرب النجوم آنذاك، ومنهم : وديع الصافي، وردة الجزائرية، نجاة الصغيرة، وآخرون. وتميّزت ألحانه في هذه الفترة، وبخاصة التي غنتها نجاة الصغيرة، بأنها ألحان طويلة وأكثر تعقيدًا في توزيعها الموسيقي، بالإضافة إلى التنوّع المقامي في الأغنية الواحدة واستخدام آلات الأوركسترا (الوترية والنفخية النحاسية والخشبية). وهنا سافرت الجملة الموسيقيّة الأردنية على يد الموسيقار العاص إلى توزيعات موسيقيّة جديدة لم تعهدها من قبل، أثبتت ندرة نوعيّة هذه الروح الموسيقيّة وقدرتها على التناغم مع الآفاق الموسيقيّة الأخرى أيًا كان شكلها ونوعها.

https://www.youtube.com/watch?v=yRhiaLKiTZw

الملامح والسمات

كان العاص مولعًا بفصل الرّبيع، وكان يفضّله على بقيّة الفصول. إلى جانب أنه كان من الأشخاص الذين يُنتجون معظم إبداعاتهم في الصباح الباكر، ولعلّ هذا ما يفسّر عذوبة ألحانه ونقاوتها وبساطة توزيعها، الأمر الذي ساهم بانتشار ألحانه البعيدة عن الصخب المبالغ به في روحها فكان سماعها مستساغ لأذن المستمع حتى في كل الأوقات وبخاصة الفترات الصباحيّة.

تميّزت ألحان العاص بأنها تجعل كل شيء فيها أردنيًا، ويعود السبب في ذلك إلى تأثّره منذ بداياته بالإرث الموسيقي الأردني وتعمّقه في جماليّاته، وشعوره المتجذّر بأردنيّته وقدرته على ترجمة هذا الشعور في ألحانه دون تكلّف أو تزييف. فكل الذين يستمعون إلى نجاة الصغيرة وهي تؤدي القصائد الأردنية التي لحّنها العاص، يتبادر إلى ذهنه أنها فنانة أردنية، ومردّ ذلك إلى طبيعة وإيقاع وروح الجملة اللحنية التي كتبها العاص من إبداعه الخاص ولكن بتأثّر حقيقيّ بالروح الموسيقيّة الأردنية. كما أن معظم ألحانه كانت على المقامات الموسيقيّة التي أحبّها : النهاوند والكُرد والبيات والسيكاه، وصاغها بما لا يتنافى مع الوجدان السمعي للناس، فعاشت هذه الألحان في قلوبهم دومًا.

استخدم العاص في ألحانه الإيقاعات البسيطة المتداولة بين الناس (اللف، المقسوم أو البلدي، إلخ…)، كما وظّف في ألحانه آلات من الموسيقى الغربية مثل الجيتار، وأصوات كهربائية بواسطة الأورغ، تركت أثرًا مميزًا في توزيعه الموسيقي.

كان العاص أول من استخدم الأغنية الطويلة المبنية على لحن شعبي، وهي ألحانه التي قُدِّمت في الكثير من المسرحيات والأفلام وبمصاحبة فرق الفنون الشعبية، ومن حيث النص الشعري فإن جميع الكلمات التي لحّنها العاص لم تكن تخرج عن حدود الذوق العام وتوقّعاته.

محطات مميزة

تُعتبر قصّة الموسيقار جميل العاص مع دولة الشهيد وصفي التل، عندما أتى به التل بسيّارة شرطة إلى دار رئاسة الوزارة لتلحين أغنية تخسى يا كوبان، من أكثر القصص شهرةً بين الأردنيين، وهي تُدلّل على مكانة العاص الموسيقيّة آنذاك وثقة دولة وصفي التل بقدراته الإبداعية ليكلّفه بتلحين أغنية أرادها الشّهيد أن تكون علامة بارزة وأداةً ثقافيّة وجماليّة في مواجهة موجات الردح الإذاعي التي كان يتعرّض لها الأردن من المشاريع السياسيّة المحيطة به والتي كانت تستهدفه دومًا بالنيل، حتى أن أحد نجوم هذه الحملات المسيئة في إذاعة صوت العرب كان يسخر من إذاعة الأردن ويصفها بـ “إذاعة سلوى”، نسبةً إلى الفنانة سلوى زوجة جميل العاص، لكنّ الحملة وأبواقها انتهت وبقيت أغنية “تخسى يا كوبان” حتى هذا اليوم تتصدّر الخيارات الموسيقيّة في المناسبات الوطنية بما فيها أعراس شهداء الأردنيين الذين ما يزال أبناؤهم وأحفادهم على الوعد “ولفي شاري الموت لابس عسكري”.

أيضًا فإن قصّة تلحينه لأغنية “أرخت عمّان جدائلها”، عندما أتى به الشاعر حيدر محمود الى المكان الذي أوحى له بكتابة القصيدة، فما كان من الموسيقار العاص إلا أن ينغمس في رحلة من الوجد والتنسّك في محراب الوطن، وأبدع في تلحين القصيدة في ذات المكان خلال ذات الجلسة، لتُطِل نغماته مع كلمات حيدر محمود كتحفةٍ مسموعةٍ احتلّت مكانها في الضمير الوطني الأردني عبر عقود، وستبقى.

وفاته

توفّي الموسيقار جميل العاص في 26 أيلول عام 2003 في عمّان بعد صراعٍ مع المرض والظروف الصعبة، تاركًا وراءه حديقة من الألحان الأردنية العذبة التي ما زالت تشكّل مصدر إلهامٍ للعديد من الموسيقيين في الأردن، ويُعاد استذكارها وتقديمها في مختلف المناسبات، لا سيّما تلك القصائد الخالدة التي لحّنها الموسيقار العاص بروحٍ أردنيّةٍ أصيلةٍ ومعاصرةٍ. ودُفِن جسده بالقرب من إذاعة المملكة الأردنية الهاشميّة التي اختارها لتكون منصّة ألحانه الجميلة، وقاد مسيرتها الموسيقية على مدى 18 عامًا.

المراجع :

  • العاص، خالد جميل، جميل العاص أغنية وسيرة، الموسيقى في الأردن، 2002، منشورات اللجنة الوطنية العليا لإعلان عمّان عاصمة للثقافة العربيّة 2002، عمّان، الأردن.
  • الشرقاوي، صبحي، جميل العاص، مشروع إحياء التراث الموسيقي الأردني، 2010 الطبعة الثانية، المعهد الوطني للموسيقى (مؤسسة الملك الحسين)، عمّان، الأردن.

جميل العاص : الموسيقار الأول وأبو الأغنية الأردنية

مقدّمة

برع الأردنيون الأنباط في إنشاء وتطوير المنشآت المائية التي كان وما زال بعضها محط لغز لدى العديد من دارسي هذه الحضارة الأردنية العظيمة، ومن المعروف أن الأردنيين الأنباط انتشروا بنفوذهم في الأراضي الجنوبية من الاردن بداية تأسيسهم للمملكة الأردنية النبطية والتي كانت عُرفت بشُح المياه وتذبذب المواسم المطرية، فضلا عن  توسع رقعة المملكة ما بين القرنين الأول والثاني الميلادي، والزيادات السكانية الحاصلة فإنه كان من الضروري المحافظة على المصادر المائية وإدارة كل نقطة ماء، وكان من المهم تكريس جهودهم لتأمين احتياجاتهم وابتكار عدة وسائل لحصاد المياه وإدارة توزيعها، وبالتالي أسس الأنباط أنظمة عديدة لحفظ المياه ما هي الآن إلا بقايا لشبكة متطورة مواكبة للشبكات المائية الحالية وتفوق بعضها تطورا وعبقرية.

وقد اختار الأردنيون الأنباط البترا كعاصمة لمملكتهم، حيث تقع البتراء جنوب البحر الميت وشمال خليج العقبة في منطقة جبلية ذات تعاريج وعلى حافة حفرة الانهدام، وعند إلقاء النظر على البترا من الأعلى نرى مجموعات من الكتل الصخرية على ارتفاعات مختلفة تتراوح بين 900 إلى 1200 متر فوق سطح البحر، أما الحالة المناخية للبترا فوقوعها عند ملتقى المنطقتين المتوسطية والصحراوية يفسر التباين المناخي حيث تنتمي البترا للمناطق متوسطة الهطول بمعدلات هطول تتراوح بين 200 إلى 300 ملمتر سنوياً، أما المناطق االشمالية من المملكة الأردنية النبطية كالذريح والسلع التي تعتبر من مناطق الجبال إذ تتخللها أهم الوديان كوادي الموجب ووادي الحسا، وتتراوح نسبة الهطول فيهما بين 300 و600 ملمتر سنوياً، وفي المناطق الأخرى كمنطقة وادي عربة فبالكاد أن تصل نسبة الأمطار إلى 100 ملمتر سنوياً بل تصل في فينان إلى 50 ملمتر سنوياً، وتقل نسبة هطول الأمطار قلة ملحوظة في منطقتي وادي رم ورأس النقب بانتمائها للنطاق الصحراوي بمعدلات الهطول التي لا تتجاوز 50 ملمتر سنوياً .

وفقاً لهذه الظروف المناخية فقد كانت أبرز التحديات التي شغلت بال الأردنيين الأنباط كانت تتمثل في قلة نسب الأمطار وتباينها من منطقة إلى أخرى، فوجدوا لها الحلول التي كان لها الدور الكبير في حماية المظاهر العمرانية والحضارية للمملكة الأردنية النبطية، كما كانت الطرق المستخدمة في تخزين المياه تسمح باستثمار الأراضي الزراعية وزيادة انتاجيتها .

الهندسة الأردنية النبطية في بناء خزّانات المياه

استفاد الأردنيون الأنباط من طوبوغرافية الأراضي التي قامت عليها مملكتهم، فتمكنوا من إنشاء خزانات المياه على ارتفاعات عالية، كما استفادوا من أماكن التقاء السيول مع المنحدرات الصخرية فأنشؤوا فيها الخزانات المائية، بحيث يمكن توزيع المياه المخزنة فيها بما يتناسب مع احتياجاتهم اليومية وبنيتهم الاقتصادية وخطط التطوير الحضري التي وضعوها للنهوض بالمملكة الأردنية النبطية.

خزّانات المياه في المملكة الأردنية النبطية 

عند الولوج إلى العاصمة الأردنية النبطية البترا نصادف العديد من الخزانات، يُمكن تقسيمها إلى أنواع حسب الحجم وطرق التزود بالمياه بالإضافة إلى تعدد وظائفها، كما أن بعضها تُوجد منفردة والأخرى مرتبطة مع بعضها البعض.

أولاً: خزّانات الرملة “قلاع المياه”

يُطلق مصطلح قلاع المياه على المنظومة الوحيدة والفريدة من نوعها والتي تتكون من خزانات الرملة في البترا، وتكمن أهمية هذه الخزانات بقدرتها التخزينية الكبيرة والتي تبلغ حسب المعايير القديمة 1083 متر مكعب بالنسبة للحوض الشمالي و1440 متر مكعب للحوض الجنوبي، فقد كان الإمداد متواصلاً لهذين الخزانين عن طريق قناة واردة من وادي موسى، ولم تكن هذه الخزانات مسقوفة بالطبع بسبب حجمها الكبير وطوبوغرافية المكان المرتفع والواسع، وقد اختار الأردنيون الأنباط هذا الموقع نظراً لارتفاعه الذي يبلغ 1100 متر والذي يفوق ارتفاع حوض البترا بـ 900 متر، مما حافظ على مستوى المياه المخزنة في هذه الخزانات فضلاً عن سهولة إمداد القنوات المتصلة بها بالمياه .

خزّان الرملة الشرقي : هذا الخزّان يتكون من حوضين كبيرين متصلين فيما بينهما ولدعم مقاومة الجانبين الغربي والجنوبي للخزانين قام الأردنيون الأنباط ببناء جدارين يبلغ عرضهما 1.80 متر محاذيين لبعضهما البعض وقد شكلت الكتل الحجرية الداخلية والخارجية متوسط طول 0.60 متر وبعرض 0.40 متر وبارتفاع 0.30 متر، وشدت هذه الكتل بواسطة ملاط رمادي ” خليط من كسر الصوان والكلس”، وكانت هذه الجدران مغطاة بالقصارة كما هو الحال في أغلب الخزانات في المملكة الأردنية النبطية .

خزّان الرملة الجنوبي : يعتبر هذا الخزان ذو أهمية كبيرة من حيث المساحة واحتفاظه بشكله الأصلي إذ يبلغ طول هذا الجانب الغربي من الخزان 12 متر وبعرض 1.80 متر وارتفاع 3 متر مصحوباً بثمانية مداميك، وفي الجهة الجنوبية يوجد درج ينزل إلى قاع الحوض وقد كان هذا الدرج مخصصاً للتنظيف والتخلص من الرمل والشوائب، أما الجدار الشمالي للخزان فقد بلغ طوله 18 متر لكي يتصل بالخزان الشمالي.

خزّان الرملة الشمالي : تتشكل أغلب جدران هذا الخزان على إطار تم قطعه في الصخر، حيث يوجد بئر يرتفع جزء منه فوق الخزان، وكانت تتم تغذية الخزّان عن طريق القنوات الآتية من عيون موسى، حيث يتم ملؤه عن طريق تجويف مقبّب يصل قطره إلى متر واحد ليتم غرف المياه عن طريق الفتحة العليا للخزان ولا يزال هذا الخزان مستعملاً من قبل القرى المحيطة، يبلغ طول الجدار الشمالي للخزان 18 متر مع ارتفاع يبلغ حوالي 3 أمتار أما الجانب الغربي فيختلط بناؤه مع مقطع صخري طوله 6 أمتار، بينما تعرّض الجانب الغربي من الخزان للانهدام كلّيا .

ثانياً: الخزّانات التي تتزود من مياه العيون 

هذا النوع من الخزانات كان يتزود من العيون الكبيرة مثل عين موسى، براق ودبدبة عن طريق القنوات، وتقع هذه الخزانات عند ممر القناة كما القنطرة، أو عند نهاية مجرى القناة لتُتِم وظيفتها بعملية توزيع المياه الموجودة فيها، ومن الأمثلة عليها الخزّان الموجود بالقرب من قبر القصر، وقد كانت الخزّانات التي تقع عند مجرى القنوات تلعب دور الأحواض المنظمة وهذا الأنواع من الخزانات لم يكن لها سقف علوي لأنها لا تُخزن فيها المياه لمدة طويلة .

ثالثاً : الخزانات التي تتزود من مياه الأمطار

يُقام هذا النوع من الخزانات على سفوح الحواجز الصخرية وجوانب المرتفعات، كالخزانات الجنوبية الغربية في المعيصرة الشرقية ووسط الهضاب الصخرية أو في المنخفضات الطبيعية والأغوار وكان مثل هذا النوع من الخزانات يتم بناؤه من مدماك مزدوج من الحجارة بحيث يتم إغلاق أطرافه بجدارين من الحجارة ويتم ترتيب هذه الحجارة حسب استخدام هذا الخزان، وتتزود هذه الخزانات عن طريق القنوات الجانبية في المرتفعات والأودية المجاورة بحيث تنسكب المياه مباشرة أو من خلال حوض التصفية قبل أن تنساب المياه للخزان، وكان يستخدم هذا النوع من الخزانات للاستعمال المنزلي والري.

حوض التصفية في الخزانات

ويوجد في الجهة الجنوبية من منطقة المدرس في البترا، حيث تمت تهيئة أرضية الحوض وتصميمها بشكل متقطع لترسيب الشوائب فيها، كما وجد مجرى أُقيم في الجهة العلوية من الحوض والذي كان يربط حوض التصريف بالخزانات، كما وجدت عدة نماذج على أحواض التصريف في المملكة الأردنية النبطية في البقعة الواقعة شمال البترا وأيضاً في قطار الدير .

تم بناء خزانات تتخذ شكل صالة صخرية بداخل الحواجز الصخرية والذي حلَت محل تسقيف الخزانات وكانت المياه تنتقل إلى هذه الخزانات بطريقتين، إحداهما عن طريق قناة جانبية والأخرى بواسطة قناة أعلى من مستوى الخزان، والذي استدعى إقامة مثل هذا النوع من الخزانات كي يتم فيها تخزين المياه لعدة أشهر، يُوجد هذا النوع من الخزانات في منطقة الخبثة إلا أنه لم يتبقَ منه سوى بعض التجاويف الصخرية، كما وُجد خزان صخري محفوظ بطريقة جيدة في منطقة مُغر المطاحة، ووفقاً لدراسة هذا الخزان يُمكن القول بأن جزءاً كبيراً من هذا النوع كان غير مرئي .

معظم هذه الخزانات كانت قد غُطيت بطبقة من القصارة ذات سمك يترواح بين 0.30 إلى 0.50 متر، بحيث كانت تُنفذ الطبقة إما لمرة واحدة أو مرتين بشكلين مختلفين متباينين من حيث النعومة والخشونة، حيث كانت الطبقة الأولى تتكون من خليط من الجير والرمل وكسر الصوان والفخار، بينما الأخيرة تتكون من الرمل فقط وفي الحالات الاستثنائية كانت تُغطى بأربع طبقات حيث يتراوح سمك طبقاتها بين 0.05 متر والأخيرة 0.15 متر، أما بالنسبة لقصارة الخزانات في المملكة الأردنية النبطية فكانت تتم أحياناً باللون الأبيض أو الرمادي .

وتم تزويد الخزانات من مياه الأمطار أو من مياه الينابيع من خلال أدراج تُسهل عملية وصول المياه إلى الخزان وتخليصها من الترسبات والرمال .

الخزانات الثانوية

بنيت هذه الخزانات لتناسب احتياجات التجمعات البشرية المحدودة من السكان، وتمتاز ببساطة تصميمها إذ أنها مجرد خزانات قُطعت في باطن الصخر كما يوجد لها فتحة تعمل كبوابة للخزان حيث لا تحتوي على أدراج أو سقف، كما في الخزان الذي وُجد في ساحة منزل دورثيوس في وادي المطاحة، كما أن بعضاً من هذه الخزانات لا يزال فعالاً إلى الآن كالخزانات التي تقع في منطقة وادي مطاحة على حافة الحاجز الشمالي الغربي للخبثة، كما نجد خزاناً مميزاً أمام المسرح بسبب حفره داخل الحاجز الصخري هناك بحيث بلغ طول ضلعه ستة أمتار، وكان يتزود من مياه الأمطار عن طريق شلال يقع على يمينه حيث تتجمع مياهه داخل قناة صغيرة ومن ثم تُسكب في الخزان ولا يزال هذا الخزان مستخدما أيضا، مما يدلل على ديمومة الهندسة النبطية وعبقريتها.

الأحواض الملحقة

تُعتبر الأحواض منشآت مائية لتخزين المياه تُضاف للخزانات ” أو تًذكر عند ذكر الخزانات “، وتوجد هذه الأحواض في الأغلب عند مداخل الصالات أو المضافات أو بالقرب من الأبنية الدينية كما أنها تتخذ شكلاً مستطيلاً بالعادة، وهذه الأحواض كانت تتزود بالمياه عن طريق الخزانات الثانوية المجاورة وتوجد مثل هذه المنشآت في السيق البارد والذي يتصل بالخزان الرئيسي عن طريق قناة حيث يتم ملؤه بالمياه ثم سكبه في قناة التصريف .

الآبار

حُفرت الآبار في الأراضي ذات الطبيعة الكلسية لضمان عدم تسرب المياه من خلالها وحفظها لمدة طويلة، ووفقاً للطراز الكلاسيكي كانت تتخذ الآبار في البترا شكلاً مستطيلاً أو مربعاً إضافة إلى أشكال أخرى كالآبار الكمثرية في المملكة الأردنية النبطية، وكان عُمق هذه الآبار يفوق عرضها حيث يُقدرعمقها بأربعة أمتار، ويتم تزويدها بالمياه عن طريق فتحة علوية ضيقة للتقليل من عملية التبخر،  ومن الآبار التي اكتشفت تلك التي تُوجد في الرملة وسد المعاجن وغيرها كما تم العثورعلى الآبار في مرتفعات أم البيارة في البترا، وثمة أمثلة عديدة أخرى على هذه الآبار كتلك الموجودة في قمة الدير وكذلك في وادي فرسا الغربي بالإضافة إلى شمال العاصمة الأردنية النبطية البترا وتحديداً في منطقة السيق البارد، بينما اتخذت هذه الآبار شكلاً دائرياً بعد أن حُفرت في الأرض، وقد وصف ثيودور الصقلي الآبار في المملكة الأردنية النبطية بقوله : ” في الأراضي الرملية تتوغل خزاناتهم التي لا تتوفر سوى على فتحة ضيقة إلى بلثير واحد – ما يُعادل ثلاثين متراً- من حيث الطول والعرض، وهي مُغطاة بقصارة لمنع التسرب ويملؤونها بمياه الأمطار ثم يغلقونها “، ولم يكن من السهل أبداً حفر الآبار بالتزامن مع الحقبة التي وُجدت فيها المملكة الأردنية النبطية نظراً لأولية المواد والآلات المستخدمة لكن العبقرية النبطية  والمعرفة الدقيقة بطبيعة الصخور والأرض المراد استخدامها واجهت هذا التحدي بذكاء، ومن الجدير بالذكر أن هذه الآبار كانت تستخدم لغايات الشرب وفي بعض الأحيان لغايات عسكرية، وحفاظا على مواردهم اللوجستية كان الأردنيون الأنباط  يخفون الآبار ويضعون عليها إشارات دالة وإغلاقها بالحجارة كي لا تصلها الجيوش المعادية أو تستفيد منها أثناء الحروب وللحفاظ على ديمومتها من الغرباء والمخربين .

القدرة الاستيعابية للخزانات والآبار 

وصلت القدرة التخزينية “الاستيعابية” للخزانات التي تتزود من مياه العيون مثل خزانات الرملة “قلاع المياه” إلى 2500 متر مكعب، أما الخزان الواقع بالقرب من قبر قصر فكانت قدرته التخزينية تصل إلى 500 متر مكعب، أما خزاني وادي فرسا الشرقي فتراوحت قدرتهما بين 100 إلى 900 متر مكعب، وقدرت في الخزانات التي تقع في جنوب الكاردو بـ500 متر مُكعب والواقعة شمال الكاردو بـ 250 متر مكعب.

أما بالنسبة للخزانات التي تتزود من مياه الأمطار فعلى فرض بأنه يتم تعبئتها خلال فترة الشتاء ثُم تُستطرد كمية المياه المخزنة خلال الصيف، فإن خزانات وادي فرسا الشرقي والغربي تُخزن ما مجموعه 2150 متراً مكعبا أما قمة الدير فكانت نسبة التخزين فيها 2500 متر مكعب، ومجموع ما تم تخزينه في خزانات المعيصرة الشرقية والغربية 2000 متر مكعب، وخزان مغر المطاحة بـ 500 متراً مكعباً وصولاً لخزان الخبثة والذي يصل إلى 500 متر مكعب، وخزان قطاع المدرس الذي استُخدم لأغراض الزراعة والري فكانت تُقدر قدرته الإستيعابية بـ 8300 متراً مكعباً . أما بالنسبة للآبار فإن بئر سد المعاجن على سبيل المثال كانت تقتصر قدرته التخزينية على 250 متر مكعب .

ومن الجدير بالذكر أن متوسط استهلاك الفرد الواحد في المملكة الأردنية النبطية وتحديداً في بلدة وادي موسى يصل إلى 30 لتراً، أما المنازل فكانت تصل نسبة الإستهلاك فيها إلى 180 لتراً .

لقد تميز الأردنيون الأنباط بقدرتهم الواسعة على فهم الطبيعة والموارد الطبيعية والتعامل معها على أفضل وجه، وما هذه المنشآت المائية إلا دليلٌ واضح على مستوى التقدم الحضاري الذي وصلوا إليه، والاسهام الحضاري والإنساني الذي قدموه للبشرية طيلة قرون نفوذهم وحتى يومنا هذا  .

المراجع 

عباس ، إحسان ،  تاريخ دولة الأنباط ،الطبعة الأولى ، 1987 ، (بيروت – لبنان)

 المحيسن ، زيدون ، هندسة المياه والري عند العرب الأنباط ، بيت الأنباط ، الطبعة الأولى ، 2002 ، (البتراء – الأردن)

الحموري ، خالد ، مملكة العرب الأنباط : دراسة في الأحوال الاجتماعية و الاقتصادية ،الطبعة الأولى ، البتراء:بيت الأنباط ، 2002 ، (عمان – الأردن)

الهندسة الأردنية النبطية في بناء خزّانات المياه

مقدّمة

برع الأردنيون الأنباط في إنشاء وتطوير المنشآت المائية التي كان وما زال بعضها محط لغز لدى العديد من دارسي هذه الحضارة الأردنية العظيمة، ومن المعروف أن الأردنيين الأنباط انتشروا بنفوذهم في الأراضي الجنوبية من الاردن بداية تأسيسهم للمملكة الأردنية النبطية والتي كانت عُرفت بشُح المياه وتذبذب المواسم المطرية، فضلا عن  توسع رقعة المملكة ما بين القرنين الأول والثاني الميلادي، والزيادات السكانية الحاصلة فإنه كان من الضروري المحافظة على المصادر المائية وإدارة كل نقطة ماء، وكان من المهم تكريس جهودهم لتأمين احتياجاتهم وابتكار عدة وسائل لحصاد المياه وإدارة توزيعها، وبالتالي أسس الأنباط أنظمة عديدة لحفظ المياه ما هي الآن إلا بقايا لشبكة متطورة مواكبة للشبكات المائية الحالية وتفوق بعضها تطورا وعبقرية.

وقد اختار الأردنيون الأنباط البترا كعاصمة لمملكتهم، حيث تقع البتراء جنوب البحر الميت وشمال خليج العقبة في منطقة جبلية ذات تعاريج وعلى حافة حفرة الانهدام، وعند إلقاء النظر على البترا من الأعلى نرى مجموعات من الكتل الصخرية على ارتفاعات مختلفة تتراوح بين 900 إلى 1200 متر فوق سطح البحر، أما الحالة المناخية للبترا فوقوعها عند ملتقى المنطقتين المتوسطية والصحراوية يفسر التباين المناخي حيث تنتمي البترا للمناطق متوسطة الهطول بمعدلات هطول تتراوح بين 200 إلى 300 ملمتر سنوياً، أما المناطق االشمالية من المملكة الأردنية النبطية كالذريح والسلع التي تعتبر من مناطق الجبال إذ تتخللها أهم الوديان كوادي الموجب ووادي الحسا، وتتراوح نسبة الهطول فيهما بين 300 و600 ملمتر سنوياً، وفي المناطق الأخرى كمنطقة وادي عربة فبالكاد أن تصل نسبة الأمطار إلى 100 ملمتر سنوياً بل تصل في فينان إلى 50 ملمتر سنوياً، وتقل نسبة هطول الأمطار قلة ملحوظة في منطقتي وادي رم ورأس النقب بانتمائها للنطاق الصحراوي بمعدلات الهطول التي لا تتجاوز 50 ملمتر سنوياً .

وفقاً لهذه الظروف المناخية فقد كانت أبرز التحديات التي شغلت بال الأردنيين الأنباط كانت تتمثل في قلة نسب الأمطار وتباينها من منطقة إلى أخرى، فوجدوا لها الحلول التي كان لها الدور الكبير في حماية المظاهر العمرانية والحضارية للمملكة الأردنية النبطية، كما كانت الطرق المستخدمة في تخزين المياه تسمح باستثمار الأراضي الزراعية وزيادة انتاجيتها .

الهندسة الأردنية النبطية في تصميم البرك وأحواض السباحة

انتبه الأردنيون الأنباط أثناء عمليات الإعمار والبناء والتخطيط في مملكتهم العظيمة بأنه لا بد من الاستفادة من أماكن التقاء السيول مع المنحدرات الصخرية ، فقاموا بإنشاء البرك وأحواض السباحة وكان هذين النوعان من المنشآت المائية الأكثر انتشاراَ في المملكة الأردنية النبطية .

نُحتت البرك في الصخر الرملي مثلها مثل معظم المعالم الأردنية النبطية، وكان إنشاء هذه البرك يتم ضمن خطوات تدريجية متتالية تتم أولاً بوضع خطة لاختيار الموقع ومن ثم البدء بتقطيع الصخور والاستفادة منها في بناء المداميك، ولم يلتزم الأردنيون الأنباط بقياس أو شكل محدد لإنشاء البرك بحكم طبيعة الطبقات الصخرية، والتي لم تمكنهم من تخزين المياه مباشرة مما استدعاهم إلى إتمام الأجزاء الغير متساوية ببناء طبقة من الحجارة المتماسكة بالمونة الاسمنتية، وبعد الانتهاء من حفر أساسات البرك يتم حفر أساسات الأقواس التي تغطي البرك، حيث يتم تثبيت الحجر الأول للقوس في الواجهة الطولية للبركة ومن ثم تُبنى الحجارة فوقه بانحدار تدريجي وعند اكتمال بناء القوس يتم تغطيته بالجبس، وفي بعض الأحيان كانت هذه البرك تُسقف ببلاطات لتسد الفجوات بينها وبين المونة الاسمنتية مما يستدعي زيادة تماسك السقف وحمايته من التآكل .

وقد تعددت أشكال البرك في المملكة الأردنية النبطية حسب استخداماتها، فأنشؤوا البرك المكشوفة ذات الاستعمال المحدود وقصير الأمد؛ فقد عُثر على ما يٌقارب الخمسين بركة في منطقة الحميمة بالقرب من العاصمة الأردنية النبطية “البترا”، إذ كانت هناك بركتان تشكلان جزءاً لا يُستهان به من نظام الري المتكامل لمنطقة الحميمة، كما عُثر على أحواض عديدة يُرجح استخدامها لسقاية المواشي.

وضمن بعثة أجنبية قادمة من جامعة بنسلفانيا اكتشف الأستاذ آن بيدال المتخصص في علوم الإنسان، وجود بقايا نوافير وبرك مائية وأحواض سباحة هائلة الحجم تبلغ مساحتها 44 متراً مربعاً، كما وجدت مجموعة من الأقنية التي تزودها بالمياه من “عين براك” الواقعة في التلال خارج البترا، ولا تقتصرهذه البرك على توفير المياه اللازمة لتلبية احتياجات الناس اليومية فقط، ولكن كانت أيضا مصدراً أساسياً لتروية زراعة المحاصيل والفواكه وإنتاج النبيذ بالإضافة إلى زيت الزيتون، وظهر بشكل جلي أن العمارة الأثرية لحوض السباحة والروضة الخضراء كانتا رمزين لنجاح الأردنيين الأنباط في توفير المياه لوسط المدينة.

كما كشفت عمليات التنقيب الأثرية الأخيرة عن وجود محور يبدو أنه كان يحمل المياه إلى عمق يزيد عن 10 أمتار، لينقلها من القناة إلى مستوى حوض السباحة، كما حوض السباحة الموجود داخل العاصمة الأردنية النبطية ” البترا ” بجانب المعبد الكبير في الجهة الشرقية للمدينة ويٌرجح تاريخ إنشائه إلى القرن الأول قبل الميلاد، كما عثر علماء الآثار أيضاً على قنوات تحت الأرض ساعدت في التحكم في جريان المياه فوق سطح الأرض خلال موسم الأمطار، مما يفصح لأول مرة عن النظام المعقد الذي اتُّبع لتنفيذ عملية الري .

أكدت هذه التنقيبات الأثرية جميعها على عظمة وقدرة الأردنيين الأنباط على ترويض الطبيعة والإدارة الحكيمة للموارد المائية المتاحة، وقد تمكنوا من القيام بذلك بفضل النظام الهيدروليكي العبقري الذي اخترعوه والذي لم يقتصر على السماح للسكان بالاحتفاظ بالمياه لحاجاتهم فحسب، بل سمح لهم أيضاً بتطوير بنيتهم الاقتصادية والنهوض بكافة القطاعات التنموية التي لم تتجاهل بالطبع الحاجات الرفاهية للسكان .

المراجع :

المحيسن ، زيدون ، هندسة المياه والري عند العرب الأنباط ، بيت الأنباط ، الطبعة الأولى ، 2002 ، (البتراء – الأردن)

الحموري ، خالد ، مملكة العرب الأنباط : دراسة في الأحوال الاجتماعية و الاقتصادية ،الطبعة الأولى ، البتراء:بيت الأنباط ، 2002 ، (عمان – الأردن)

اكتشاف حدائق البتراء الأثرية بعد 2000 عام ، وكالة روسيا اليوم ، 03/10/2016

حضارة الأنباط ، جبال تعانق السماء ، صحيفة الرأي ، عمان ، الأردن ، 21-9 ، 2004

الهندسة الأردنية النبطية في بناء البرك وأحواض السباحة

Scroll to top