مقدمة تاريخية

يقع وادي موسى جنوب الأردن ويضم بين جباله عاصمة حضارة الأردنيين الأنباط ، بترا. كان الوادي مأهولا منذ القدم وتوالت عليه الحضارات النبطية والرومانية والبيزنطية. وقد كشف القرن العشرين عن العديد من القرى المهجورة التي تؤرخ للعهد المملوكي. وحسب الدراسات فقد شهدت هذه المنطقة تراجعا في السكان يرجعه الباحثون لانتشار مرض الطاعون (السلامين والفلاحات: 2009)

عانت المنطقة في عهد الاحتلال العثماني من الاهمال والتهميش شأنها شأن كافة المدن الأردنية في ذلك العهد وقد غاب عنها أي تنظيم إداري وكانت تارة تلحق بولاية الشام وتارة تلحق بإمارة الحجاز. حتى انتهى الاحتلال العثماني بسواعد فرسان العشائر الأردنية الذين قادوا أولى الثورات ضد هذا الاحتلال وأثبتوا مدى بسالتهم في الثورة العربية الكبرى.

تشكل تركيبة مجتمع جنوب الأردن نسيجا متماسكا ومعقدا وغنيا في آن واحد. فالمجتمع في الجنوب مجتمع نصف زراعي ونصف بدوي. فبينما يكسب الأهالي لقمة عيشهم من الزراعة وتربية المواشي يتمسكون بعادات البدو وتقاليدهم. وبهذا الصدد؛ يقول الباحث (ماسترمان) واصفا البدو: “إن البدو هم أكثر عرق محافظ على الإطلاق. فلم تتغير عاداتهم وتقاليدهم منذ قرون. فقد أصبحوا مسلمين اسميا ولكن حالهم بقيت كما هي عليه قبل مجيء محمد أو المسيح- لقد ظلوا محتفظين بتلك الروحانية الوثنية”

ولنفهم أكثر ما يقصده ماسترمان  بقوله “الروح الوثنية”  علينا أن ندرك أن المجتمع- كما أوضحنا سابقا- ذا صبغة تعددية، وقد مر بكثير من التحولات العقدية. كان أجدادنا الأنباط يعبدون آلهة زراعية وحربية كذي الشرى واللات والعزى وشيع القوم، وقد تأثرت المنطقة بالاحتكاك مع الرومان الذين كانوا في بادئ الأمر وثنيين وما لبثوا أن تحولوا إلى المسيحية وحتى وصول البعثة المحمدية وضم الأردن للحكم الإسلامي.

والجدير بالذكر أن نهاية العهد المملوكي إضافة لعهد الاحتلال العثماني لم تشهد مناطق جنوب الأردن أي اهتمام وافتقدت المنطقة للتنظيم الإداري. فلم يتم بناء أي دور دين ولم يتم الاهتمام بالتعليم والدين هنا دعت الحاجة الأهالي لمليء هذا الفراغ الروحي بطقوس ذات طابع سحري أو خرافي.

إن هذا التعدد الرهيب الذي مرت به منطقة وادي موسى بالذات ترك بصماته بلا شك. سنستعرض في هذا البحث العديد من الممارسات الدينية التي تتفرد بعضها بأصول تعود للأردنيين الأنباط  وأخرى كانت خليطا من ممارسات إسلامية وأخرى مسيحية. بعض هذه الممارسات اندثر وبعضها الآخر صمد حتى ثمانينات القرن العشرين.

وليمة العزاء

قدس الأردنيون الأنباط  سر الموت للغاية ويمكننا أن نستنج ذلك من القبور المهيبة التي بنوها لموتاهم. ارتبط هذا التقديس بعدة طقوس جنائزية بقي بعضها حتى يومنا هذا وهو عادة الوليمة على روح وشرف الميت.

يتوجه الجميع بعد الدفن إلى “المضافة الجنائزية” شتاء داخل المقبرة وصيفا خارجها، يجلسون على المقاعد التي حفرت في الصخر أيضا وربما في مشهد شبيه في بيوت العزاء الحالية، يستقبل أهل الميت المواساة في خسارتهم. داخل المضافة تجلس تماثيل الآلهة في كل زاوية، ويحرق البخور.

تتقدم جموع المعزين من الطقس الجنائزي التالي: الوجبة الجنائزية التي كانت تقدم على موائد صخرية ملحقة في المقبرة. يجلس الحاضرون على الأرضية الرملية ويبدأ تقديم الطعام فتخرج الأطباق والكؤوس الخزفية وربما يصل الأمر إلى كؤوس ذهبية إن كانت الوليمة على شرف الإله أو شرف الحاكم. إلى يومنا الحاضر، يتبنى المجتمع الأردني هذه العادة التي ابتدعها أجدادهم الأنباط.[1]

قداسة الجبال العالية

عُرف عن أجدادنا الأنباط تقديس الأماكن العالية والتي تمثلت بالجبال المحيطة وفي دراسة أجريت على أماكن العبادة في المنطقة وجد أن أكثر من 70% منها بني على مكان مرتفع. اكتسبت هذه الأماكن العالية قداستها عند الأردنيين الأوائل لارتباطها بالآلهة النبطية وخصوصا الإله ذو الشرى ذي الطابع الجبلي. كما بنى الأردنيون الأنباط أماكن للعبادة ولتقديم القربان المقدس وللحج سميت بالمعلايات.

(صورة للمعلية على قمة جبل عطوف حيث اعتاد الأردنيون الأوائل على ممارسة طقوسهم الدينية. المصدر: موقع WonderMondo )

استمر الأردنيون، خصوصا في الجنوب، في اعتبار الأماكن العالية أماكن روحية لها طابع خاص. فقد ألبست الأماكن العالية التي قدسها الأردنيون الأنباط  أساطير وقصص وروايات جديدة واكتسبت طابعا آخر تمثل في تقديس المكان العالي لارتباطه بشخصية دينية أو شعبية. اعتبر الأردنيون الأوائل هذه الأماكن ذات طاقة روحية استشفائية فكانوا يجلبون المرضى لها ويدعون باحتياجاتهم ويقطعون نذورهم.

على درب النبي هارون

استكمالا لقداسة وروحانية الأماكن المرتفعة التي أضفاها الأردنيون الأنباط على جبال الأردن، يقع مقام النبي هارون على أعلى قمة في البترا. وهارون اسم عبرانيٌ يعني ساكن الجبال والمقطع “هار” وحده يعني في التوارتية المكان المرتفع، وتختلط رواية المكان بين الرواية الشعبية والأخرى التوراتية ولا زال الجدل حول حقيقة الموقع غير محسومة حتى لحظة نشر هذا البحث.

(مقام النبي هارون على أعلى قمة من قمم البترا والتي ترتفع 1353 متر عن سطح البحر)

يبعد مقام النبي هارون مسافة 250 كلم عن العاصمة عمان. ويعتبر المقام لدى الجهات الرسمية وأهالي المنطقة مزارا دينيا للنبي (هارون بن عمران بن يصهر بن فاهث بن يعقوب) أخ النبي موسى واللذان ذكرا كثيرا في الكتب المقدسة للديانات الإبراهيمية الثلاثة. فقد ذكر الإنجيل أن النبي هارون مات على جبل (حور) وهو جبل في البترا. وقالت مصادر أخرى بأنه توفي في وادي عربة ومن ثم حمله النبي موسى ودفنه في الجبل.

وقد توفي النبي هارون قبل النبي موسى بأحد عشرا شهرا ودفن في قمة عالية من قمم جبال الشراه مطلا على منظر طبيعي آخاذ. كان هذا المقام ولا زال جوهرة من جواهر الحياة الدينية والاجتماعية الغنية ولمدة تزيد عن الثلاثة قرون.

ومبنى المقام صغير وبسيط إلا أنه احتفى بأحد أجمل المواسم الدينية عند الأردنيين وهو الموسم الذي سمي باسمه “موسم النبي هارون”. بعد ارتفاع حاد في الجبل ومن ثم انبساط فيه كنيسة قديمة تعود لأكثر من ألف عام ومن ثم درج حاد يصعد بنا إلى المقام الذي يرتفع 1353 متر عن سطح البحر.

بني المقام من حجارة قديمة وتنتشر حوله الكتابات الإسلامية. يؤرخ بناؤه إلى القرن الثامن هجري (العصر الأموي) وفيه نقش يعود لعهد السلطان ناصر بن محمد. وقد أعيد ترميم المقام عام 1709 هجري كما كتب على بابه. وقد ذكر المقام مرات عديدة عن مؤرخين كالمؤرخ يوسيفوس والمؤرخ يوزيبيوس القيصري.

(مقام النبي هارون عام 1900)

يأتي المبنى بمساحة 80 متر وداخله قبر مستطيل ويحوي عدة نقوش إسلامية في الداخل كما له قبة. لقد ارتبط هذا المقام بعادات وتقاليد كثيرة عند أهالي جنوب الأردن. فقد كان موسم النبي موسما غنيا بالطقوس والاحتفالات. كان الأهالي يعقدون نذورهم ويقدمون الأعطيات والأضاحي للمقام. وكانت العجائز تغني الأهازيج الخاصة بالموسم. كما ارتبط المقام بعدة روايات دينية أحدها يتعلق بالحجر البركاني الأسود الموجود في المقام. ويُعتقد أن هذا الحجر هو الحجر الذي انفلقت منه عيون الماء الاثنتي عشرة والوارد ذكرها في القرآن الكريم. ويسمى الأهالي هذا الحجر “مراية النبي هارون” ويقبل الزوار الحجر ويتباركون به ويؤمنون بقدرته على شفاء الأمراض والحسد.

وفي المقام يوقد الأهالي والزوار الشموع. وللشموع رمزية مهمة فالنار قديما كانت رمزا للحياة والقوة والألوهية. وكان الزوار يعتقدون بواجب الزيارة، والأسرة – حتى ثمانينيات القرن الماضي – التي لا تتمكن من إتمام الزيارة ترسل شمعا وزيتا لتقضي واجب “الإضاءة” وتعرف هذه العادة “بالضوي” ويشعل راعي المقام الأضواء ويقول “هذا ضو فلان” أو هذا ضو فلانة”.

(الحجر البركاني الأسود والمسمى مراية هارون. كان الأهالي يتمسحون ويتباركون به. حقوق الصورة محفوظة للباحثين السلامين والفلاحات)

وتذكر المصادر أن زيارة هذا المقام كانت أشبه بالحج الذي يتم على موسمين واحد بداية الشتاء ويسمى “القنيص” وواحد بداية الربيع. ويرجح الباحثون أن الأهالي في وادي موسى استخدموا التقويم النبطي الموجود في خربة التنور والذي كان ينظم أعياد واحتفالات الأردنيين الأنباط  وفق دائرة الأبراج. وللزيارة مناد مخصص، في مطلع القرن العشرين كان المنادي هو الشيخ “درويش الشماسين” ويترقب الناس صوت الشيخ وهو يقول “زيارة يا ناس” بعد أن يرى الشيخ النبي هارون في حلمه. يستعد الجميع ويسعدون بنبأ الزيارة ويأتون من كل القرى والمدن المجاورة على رحالهم. والطريق للمقام كان وعرا وصعبا ويستغرق الصعود 6 ساعات ورغم ذلك كان المقام مزارا مهما يؤمه الناس كثيرا. وقد سمي الطريق للمقام “درب” وتعددت دروب النبي هارون بتعدد زواره وكثرتهم.

(دائرة الأبراج النبطية الأردنية وقد وجدت في خربة التنور في البترا)

وقد ارتبط المقام أيضا بطقوس الاستمطار والغيث أو كما تسمى “طقوس أم الغيث” التي سنبحث فيها بمزيد من التفصيل في هذا البحث. ومن الطقوس الأخرى التي ارتبطت بالمقام هو طقس “القدر” أو “قدر النبي هارون” والذي كان يعد كعطية للنبي ومقامه. وكان هذ القدر يُسيّر من عند شجرة العطايا والتي تعد إحدى الأشجار المباركة والمقدسة عن عشائر الجنوب وسيأتي الحديث عنها باستفاضة لاحقا في البحث. ولهذه القدر حكاية تعود لحرب انتصرت فيها إحدى عشائر المنطقة وفازت بهذا القدر ووضعته منذ ذلك الحين وقفا للمقام، كما كان المقام محاطا ومُغطى بالأعلام الخضراء.

(صورة حديثة لمقام النبي هارون الذي أمست زيارته صعبة ويعاني من قلة الاهتمام)

أما العودة فكانت طقسا احتفاليا للغاية. فبعد القيام بإضاءة الشموع والدعاء والتبرك يعود الناس سعداء ولكنهم لا يعودون من نفس الطريق التي أتوا منها وإن عادوا فإنهم يعودون بظهورهم حيث يعتقد أن لا يجوز للزائر أن يعطي النبي ظهره. وفي طريق عودتهم يكوم كل عشيرة كومة من الحجارة تسمى “مصلاة” وهي دلالة على أنهم زاروا المقام ويعتقد أنها ستشهد لهم عن الله يوم القيامة. ويبدأ بعدها احتفال يشارك فيه الشباب بالألعاب وبالفروسية. يجتمع الناس عند قرية “الجميد” في حي بني عطا ويبدأون احتفالهم ومسابقاتهم. كما تذبح كل أسرة شاة أو دجاجة.

لقد ارتبطت زيارة النبي هارون بزيارة قبر آخر يدعى “قبر سالم ولد عواد” وهو في منطقة طور مدي. ويعود القبر لعشيرة العمارين ويعتقد أن سالم هو الجد الأكبر. يشبه هذا القبر خواص مقام هارون فله “صيرة” (حفرة) يدخل فيها المريض مع البخور كي يشفى. وفي نفس الحفرة يدخل الناس أغنامهم كي تتبارك والشاة التي تدخل أولا تنذر لتكون عن روح سالم ولد عواد.

ويمكن القول إن المقام جاء صورة حية تربط الخصب الزراعي (مواسم الزيارة المرتبطة بموسم البذار والحصاد) بالخصب الإنجابي حيث غالبا ما كان يزار طلبا للذرية. ومن المقام أيضا تكسر حواجز اجتماعية ويختلط الجنسان دون قيود. بهذا يكون مقام النبي هارون مركزا وجامعا لمعظم الطقوس الدينية والاجتماعية في جنوب الأردن. ففيه نرى الأردنيين الأنباط  والديانات الإبراهيمية والأشجار المقدسة والينابيع وطقوس الاستمطار متآلفة جميعها لتكون صورة نابضة للإرث الديني الأردني.

مقام الحسني

يعد مقام الحسني أحد أهم المقامات في وادي موسى وقد اكتسب اسمه نسبة إلى الشيخ الحسني جد عشيرة الحسنات وامتاز بكونه مفتوحا أمام كل العشائر للزيارة. والمقام عبارة عن غرفة صغيرة بسيطة 6×4 متر. ووفقا لمسوحات الفخار فيرجح بناؤه في القرن الرابع أو الثالث الميلادي. والبناء مصنوع من حجارة متشابهة والسقف خشبي ممدود على صفين من الحجارة. أما الأرض فهي عبارة عن طين مدكوك ومخلوط بالقش. والمقام اليوم مهجور (السلامين وفلاحات: 2009)

(مقام الحسني من الخارج. حقوق الصورة محفوظة للباحثين السلامين والفلاحات)

وفي المقام كوى داخل الجدار كانت تستخدم كمحارق للبخور أو لإشعال الشمع. وتشاهد هذه الكوى بكثرة في المعابد النبطية الأردنية في حين كانت تستخدم للبخور أو كحافظات للتماثيل. يذكر أن الأهالي كانوا يجلبون العطايا من المحاصيل أو المواشي وقد جرت العادة في الفترة ما قبل الإسلام أن يقدم أول مولود من الماشية للإله. (السلامين وفلاحات: 2009)  وكانت العشائر تمتنع عن أكل أي منتج من منتجات مواشيهم كاللبن والزبد والسمن قبل أن يقدموه أولا للمقام. ولهذا المقام أهمية أخرى عند العشائر الأردنية في الجنوب فهو مكان لتخزين المؤونة التي تستخدم لإطعام وإكرام الضيوف ولم يكن الأهالي يقبلون بإطعام ضيوفهم سوى من هذا الطعام المبارك.

(الكوى في حائط مقام الحسني وتستخدم لإشعال الشمع وإضاءة المقام. حقوق الصورة محفوظة للباحثين السلامين والفلاحات)

قبري الجراش

يذكر الباحثان سلامين والفلاحات هذين القبرين : “قبور الجراش هي أماكن مقدسة أيضا. لقد احتوى هذا المقام على قبر سليمان وسالم جدّيّ عشيرة المشاعلة. كان هذان القبران محاطان بجدار فيه باب وقد تم تدمير البناء بسبب العمران الحديث.”

مقامات الفقرا

لقد سكنت عشيرة الفقرا في المنطقة الواقعة بين وادي موسى وعيبة وتسمى المنطقة اليوم “عين آمون” لقد مات العديد من أفراد هذه العشيرة من الجفاف ودفنوا في منطقة “البراق” وصارت قبورهم أماكن مقدسة ذات قدرات علاجية وروحية. في الموقع عدة قبور اثنان منهما داخل المبنى والعديد من القبور الأخرى خارجه. كان الأهالي وخصوصا النساء تزور المقام ولهم عادات وطقوس ضمنها الباحثان سلامين والفلاحات أبحاثهما بناء على المقابلات التي أجريت مع سيدات كبيرات السن. تروي إحدى السيدات الطقوس التي اعتادت نساء عشيرة اللياثنة فعلها عند زيارة قبور الفقرا: ” تجتمع نساء اللياثنة في مكان معين، يصنعن الخبز والسمن والزيت والخرق البيضاء كما يأخذن البخور. عند الوصول إلى المقام يقطعن الخرق البيضاء قطعا صغيرة ويغمسنها في الزيت ويشعلنها ومن ثم يبدأن بالتضرع لله عند القبور وطلب حاجاتهن” (ص، 15)

وتذبح عند المقامات الذبائح ويستوجب الذبح سيلان الدم ويتبع هذا الطقس طقس آخر يسمى “عشا الفقرا” أي العشاء عن روح الأولياء الفقرا.

يذكر وجود مقامات أخرى في تلك المنطقة كمقام أبو حميدي الذي كان يزار عادة من قبل عشيرة البدول (السلامين والفلاحات: 2009)

الأشجار المباركة

ألهمت الطبيعةُ الإنسان دوما، فكانت محور الطقوس الدينية القديمة. وكان تقديس الأشجار أحد هذه الطقوس الوثنية الشائعة للغاية في الشرق عموما وفي الأردن خصيصا. فالشجرة في خيال الإنسان هي صلة بين السماء والأرض وقد تحل فيها البركات لذاتها بوصفها رمزا للعطاء أو لارتباطها بشخص مهم للأهالي. فيذكر بحث الدكتور محمد الطراونة قصة لشيخ جلس يحرس الغلة والقمح بعد ذهاب أولاده لزوجاتهم وفي الليل جاء أربع رجال أقوياء وقتلوه وصباحا حينما جاء أولاده كان يلفظ أنفاسه الأخيرة فأخبرهم بما حصل ومات وسال دمه في حفرة قريبة نبتت بها شجرة وقالوا حينها أن الشجرة هي روح الشيخ.

يذكر الباحثان سلامين والفلاحات أن لسكان وادي موسى أربع أشجار مقدسة، أولها شجرة العطايا والتي من اسمها تدل على العطاء واستجابة الأماني وقضاء الحاجات. كما ارتبطت بالشيخ “عطية ” الجد الأكبر لعشيرة الهلالات. ويُذكر وجود شجرة أخرى في قرية الجيا وكانت تزار كثيرا من قبل عشيرة الهلالات ولكنها لم تعد موجودة. واعتقد الأهالي أن روح الولي سكنت هذه الشجرة وارتبطت بأسطورة وجود كنز مدفون تحتها ويحرس هذا الكنز جمل وحارس وسيجد الكنز شخص اسمه سالم أو سليمان أو عبد الله. وتذكر بعض الأخبار أن أول المنتوجات من الحليب والزبدة كانت تقدم للشجرة وهو طقس شائع في الشرق وفي الكتاب المقدس (السلامين والفلاحات: 2009)

(شجرة العطايا التي اعتقد الأهالي ببركتها. حقوق الصورة محفوظة للباحثين السلامين والفلاحات)

أما شجرة (بطمة المنية) فارتبطت بالموت وكل من يأكل منها سيموت كما ستنقطع ذرية من يقطع أغصانها. وكانت هذه الشجرة تزار من بني عطا أحيانا ولكن أغلب زوارها كانوا من عشيرة الشرور.  وكان (قدر النبي هارون) السالف ذكره يؤخذ من عند هذه الشجرة. (السلامين والفلاحات: 2009)

(صورة لشجرة بطمة المنية التي ترتبط بالموت. حقوق الصورة محفوظة للباحثين السلامين والفلاحات)

ويذكر وجود شجرة أخرى مباركة عند عشيرة اللياثنة في منطقة عين موسى وهي تغطي مدخل كهف. ويروى أن الغرفة كانت تضاء وكان يؤتى بشعر صغار الغزلان لوضعها في الداخل عند الربيع. أما عشيرة الشرور فكان لها شجرة تسمى ” زقنينة الشرور” وكان الأهالي يربطون عليها الخرق ويصبون الزيت عند جذعها. كما آمنوا بأن الجن يسكنها وهو يغني ليلا ولا يقرأ القرآن عندها لأنها مسكونة. (السلامين، الفلاحات: 2009)

لم تكن عادة تقديس الأشجار حصرا على الأهالي في الجنوب إنما امتد الأمر لشمال الأردن. في عجلون اشتهرت الأشجار المباركة ولا تكاد توجد قرية واحدة دون شجرة يستجير فيها الأهالي لقضاء الحاجات وطلب الأمنيات.

الغيثية.. مناجاة أم الغيث للمطر

عندما يحل القحط وينحبس المطر عن الناس، يذبل الزرع ويتأخر الموسم، ينطلق الركب في وادي موسى معلنا بداية طقس احتفالي يسمى “الغيثية” وهنا ينطلق الصغار من أحد الجبال قرب القلعة ويتجمعون في الساحات والطرق. حينها تبدأ المرحلة الثانية وهي  إلباس عمود خشبي ثوب العروس التقليدي ويحمله أحد الأطفال ويجوبون الشوارع  يغنون :” يا أم الغيث غيثينا… بلي شويشة راعينا …وراعينا حسن الاقرع لا بوكل ولا بشبع…. غير الدود الدود الدود والعسل عنده مردود … يا إم الغيث يا دايم بلي زرعنا النايم… بلي حجرة المنطار خلي سيلها يدعج”

(صورة عروسة الغيث أو أم الغيث ويظهر فيها اللباس التقليدي)

ويظل الأطفال يدورون في شوارع القرية يغنون حتى تنعم عليهم “أم الغيث” أي السماء بالمطر. وهنا نجد دلالة على استمرارية قداسة الأنثى. فالأنثى عند الأردنيين الأنباط  كانت واهبة الحياة وسيدة العطاء كما عبد الأردنيون الأوائل الآلهة اللات التي كانت ربة المياه الجارية. بهذا الترميز الشعبي يؤرخ الأهالي لتاريخ ديني يمتد لآلاف السنين.

ويتقدم الأطفال دراويش ومساكين يستجدون الناس فربما ينعم الله على الأهالي بالمطر بحسنة هؤلاء. وبحسب موقع تاريخ الأردن، فإن هذه الطقوس تتشابه وطقوس أخرى موجودة في قارة إفريقيا عند شعب الأمازيغ[2] شمالي إفريقيا. وتسمى طقوس الاستمطار عند الأمازيغ “التانغجا” وبها يستخدمون دمية كتلك التي يصنعها الأطفال. ولا زالت هذه الطقوس تمارس في تونس والجزائر وليبيا مع اختلاف الأهازيج التي يغنيها الأطفال. كما يتداخل هذا الطقس وطقس طلب الشفاء الذي يحمل فيه أطفال جنوب الأردن دمية طينية ويجوبون الشوارع طلبا لشفاء مريض.

(أطفال في تونس يقومون بطقس الاستمطار المشابه لما يقوم به أطفال معان وجنوب الأردن. المصدر: صحيفة العرب)

الأوقات المقدسة وطقوس دينية أخرى

يذكر الباحثان السلامين والفلاحات أن أهالي وادي موسى كانوا يقدسون بعض الأوقات ويعتقدون بأن بعضها قد يجلب الحظ والبركة وبعضها الآخر قد يجلب الحظ السيء. فاللياثنة كانوا يستبشرون في بداية كل شهر قمري ويعتقدون بأن رؤية القمر ستجلب البركة والسعادة وهذا تقليد ضارب في القدم.

كما يذكر الباحثان مناسبات أخرى، مثل “ونسة الميت” وهي أول ليلة بعد وفاة الشخص وهنا يذبح الأهالي شاة لتكون أنيسا للميت في أول ليلة في قبره. وهنالك “خميس الموت” في الربيع ويتم ذبح الأغنام فيه. كما تذكر المصادر أن الأهالي احتفلوا بعيد الربيع “النيروز” وهو عيد اقتبسه الرومان المسيحيون عن الوثنية. ومن المثير للاهتمام أن بعض الباحثين رأوا إشارات لتقديس الشمس في بعض السلوكيات الاجتماعية! فعندما يسقط سن طفل صغير يقول أهله “يا شمس الشموسة.. خدي سن الحمار وهاتي سن الغزال” وهو أمر ظل يمارس حتى وقتنا الحاضر (السلامين والفلاحات: 2009)

الأماكن المقدسة.. أرواح شريرة وينابيع لا تزار

كم أسلفنا، لقد حظيت الجبال بقداسة امتدت من الأردنيين الأنباط  حتى وقتنا الحاضر. لقد وجدت أماكن أخرى اعتقد الأهالي بروحانيتها على أن قداستها كانت قداسة “شريرة” فقد اعتقد الأهالي أن عيون الماء مسكونة بالجن الذي قد يظهر على شكل إنسان أو حيوانات. ومن هذه العيون “عين الصادر وعين الحمرا وعين الرضيان” وقد امتنع الأهالي عن زيارة هذه الأماكن في الليل أو في ساعات الشروق والغروب معتقدين بأن الجن سيؤذيهم. وكانوا يرتدون الحجب والتمائم لتحميهم (السلامين والفلاحات: 2009) ويعتقد الباحثون بأن هذه الينابيع والعيون كان يحج إليها قبل الإسلام طلبا للبركة والشفاء.

الأهازيج والألفاظ الشعبية

تعد اللغة المحكية مرآة للمجتمعات، حيث تعكس الكثير مما يؤمن به الأفراد وهي في تأثير وتأثر مستمرين في المجتمع. وكحال باقي مكونات النسيج الاجتماعي فقد وضعت هذه الطقوس الدينية بصمتها في اللغة فصاغت أناشيد وأهازيج تذكرها العجائز والمسنات في جنوب الأردن حتى الآن.

وتعد الأهازيج فنا شعبيا يسد احتياجات الأهالي في المناسبات ويستخدم للتعبير عن شتى المشاعر الإنسانية في قالب قريب لروح العوام. ويذكر الباحث أحمد سليم الزول في كتابه ” معجم التراث والألفاظ الشعبية ” فصلا في الألفاظ والأهازيج المتعلقة بالمعتقدات الدينية القديمة.

فمن الأهازيج التي اعتاد الأهالي في الجنوب على غنائها عند زيارة مقام النبي موسى:

يا زوار موسى        زوروا بالتهليل

زرنا النبي موسى     عقبال الخليل

وشعرك يا موسى   سايل عالقنديل

يا زوار موسى    زوروا بالعدة

يا زوار موسى     زوروا بالدرقة

يا زوار موسى     زوروا بالأعلام

زرنا النبي موسى   وعليه السلام

يا زوار موسى     طحتوا سالمين

يا زوار موسى      تردوا سالمين

ومن الأناشيد أيضا:

على بير زمزم اتوضا النبي

ببريق فضة وشمع ينضوي

على بير زمزم توضا الرسول

ببريق فضة وشمع وبخور

ياللي بنبوتك يا نبي

في جنب بيتك خيم لمصطفى

كوني خوانة يا نجوم المسا

كوني هنية يا طريق النبي

مسيك بالخير يا موسى بن عمران

يللي تقوم من منامك مثل الغزلان

ومن الألفاظ التي استخدمها الأردنيون قديما لوصف بعض مظاهر هذه الطقوس التوسل بمعنى الذهاب إلى قبر الولي وتقديم الذبيحة والدعاء والشكوى للولي. وشم النسيم وهو عيد الربيع الذي احتفل فيه سكان وادي موسى وهو مقتبس عن الفرس. والحوط وهي دائرة من الحجارة ترتفع عن الأرض ويتوسطها قبر الولي وتكون هذه الحوط قريبة من مركز التجمع المعتاد للأهالي تخفيفا للمشقة ولها منطقة محروسة لا يجرؤ أحد على الاعتداء عليها بالسرقة أو التخريب وعندها تذبح الذبائح وتعطى الأعطيات. وأخيرا النجّاب وهو الشخص الذي يسبق القافلة الذاهبة لزيارة المقام أو الولي ويربط الشيخ على رقبته قطعة قماش يحلها الشيخ الثاني الذي يستقبله على باب المقام.

كما ارتبطت الطقوس بأدعية ونذر محددة. فزيارة مقام النبي هارون كان لها أدعيتها فيقول الناس “ياالله بحظ النبي هارون.. بشفاعة النبي هارون” ويغنون أغان أخرى مثل “الطريق للنبي هارون صعبة الصعود.. هارون النجم الكبير يا أبونا في الكواكب العالية”

خاتمة

كانت منطقة جنوب الأردن على قدر كبير من الغنى الثقافي، فتدل هذه الطقوس على أن حياة الأفراد كانت قد انضبطت في سياق ديني صاغته من جميع الحضارات والديانات التي مرت على المنطقة رغم الإهمال الذي عانت منه في الفترتين المملوكية والعثمانية. إن هذا الصورة الغنية المعقدة مثرية، بلا شك، لمجمل الإرث الوطني في جوانبه الاجتماعية والدينية والثقافية.

المراجع:

  • سلامين، زياد و فلاحات، هاني. الممارسات الدينية والمعتقدات في وادي موسى أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العشرين، المجلة الأردنية للتاريخ والآثار. المجلد 3، رقم 2، 2009
  • فريحات، مرام. التعبيرات الثقافية والممارسات الدينية الشعبية بحث أنثروبولوجي في مجتمع إقليم البترا. مجلة دراسات وأبحاث. جامعة الجلفة: الجزائر. العدد 20 (211-187) (2015)
  • يبحث في دلالة الممارسات الشعائرية الأسطورية: ملتقى الإنسان والمكان أنثروبولوجيا في الأردن يختتم أعماله اليوم، الدستور: 2005
  • أم الغيث، موقع تاريخ الأردن
  • د. محمد الجويلي. طقوس الاستمطار عادات تستدعى في مواسم الجفاف. صحيفة العرب نُشر في 2016/09/19، العدد: 10399، ص(12)
  • مقام النبي هارون: مزار يتميز بموقع جبلي يجذب الزوار (2011) صحيفة الغد.
  • أبحاث إرث الأردن ، مقام النبي هارون.
  • الزول، أحمد (2012) معجم التراث والألفاظ الشعبية، من إصدارات وزارة الثقافة

[1] أبحاث إرث الأردن، بحث الطقوس الدينية النبطية الجزء الثاني.

[2] الأمازيغ أو البربر أو الليبيين أو الافارقة (بالأمازيغية: ⴰⵎⴰⵣⵉⵖ) وهم من الشعوب الأصلية التي تسكن المنطقة الممتدة من واحة سيوة شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، وهم السكان الأصليين لشمال إفريقيا، يمتد وجودهم من البحر الأبيض المتوسط شمالا إلى الصحراء الكبرى جنوبا، وهي المنطقة التي كان يطلق عليها الإغريق قديما باسم نوميديا.

على درب النبي هارون: الممارسات الدينية القديمة جنوب الأردن

مقدمة

كان عهد الأردنيين الأنباط عصراً ذهبياً للحضارات الأردنية القديمة ، فقد جاءت متممة لما كانت عليه الممالك الأردنية القديمة كالمملكة الأردنية المؤابية و المملكة الأردنية العمونية والمملكة الأردنية الأدومية، كما توالى على هذه المملكة العديد من الملوك العظام الذين أسسوا أردناً كبيراً كان علامة بارزة في مسيرة الأردن الحضارية الإنسانية الضاربة في القدم وفي تاريخ المنطقة ككل، وقد حافظت هذه المملكة على بريقها حتى بعد انتهاء عهدها الملكي وواصل شعبها مسيرة التقدم والبناء والمساهمة في تقدم البشرية وتطورها.

ما قبل الأحداث

بعد أن ضاعت دمشق من قبضة الأردنيين الأنباط في عهد الملك مالك الثاني (40-70 م) ابن الحارث الرابع، في تلك الفترة ذاتها، وصل رب ايل الثاني، آخر الملوك الأردنيين الأنباط إلى العرش. كان رب ايل الثاني قاصراً وكانت والدته الملكة شقيلات تتصرف كوصي عليه لمدة ست سنوات.  ويبدو أن رب ايل الثاني كان قد فضّل مدينة بصرى في شمال مملكته لما لها من موقع تجاري مرن أكثر في ظل الظروف الراهنة حينها، و قد كان معروفًا بلقب “دي يحي وشيزب عمه ” أي ” هو الذي يجلب الحياة والنجاة لشعبه”. ويبدو أن هذا يشير أيضا إلى قيامه بقمع تمرد في شمال شبه الجزيرة العربية . و خلال عهد هذا الملك، تمتعت المملكة بفترة سلام وازدهار. ومع ذلك ، فقد كانت هذه هي العقود الأخيرة للمملكة النبطية قبل الاحتلال الروماني للمملكة الأردنية النبطية .

العملة التي سكها الملك الأردني رب ايل الثاني و الملكة جميلات

ففي ذروة قوة دولة الأردنيين الأنباط ، امتدت المملكة الاردنية النبطية من دمشق ومدن الديكابوليس الأردنية شمالاً إلى الجنوب تجاه شمال الجزيرة العربية. وكان يحدها من الغرب الأراضي التي يسيطر عليها الرومان والتي تتألف من يهودا، السامرة، الجليل، ومصر في الجنوب الغربي. الحدود الشرقية للأنباط امتدت على طول البادية الأردنية وأعمق لما عرف بأنها حدود امبراطورية بارثيا الفارسية . بفضل العبقرية الأردنية النبطية في إدارة المياه ، ازدهرت زراعتهم في البادية وربطت إمبراطوريتهم التجارية – التي تتعامل في السلع الرئيسية والكمالية – العالم المتوسطي بالصين والهند وباراثيا الفرس وشبه الجزيرة العربية.

انضمام مشروط

يختفي الملك الأردني النبطي رب ايل الثاني من المشهد في عام 106 بعد الميلاد بسبب وفاته، فيقوم المندوب الروماني في سوريا كوريليوس بالما بحملة على المملكة الأردنية النبطية نيابة عن الإمبراطور تراجان، محاولاً ادراجها كمقاطعة رومانية جديدة، لكن من المثير للاهتمام أنه بعد عام 106 ميلادية، استمر الأردنيون الأنباط في الظهور كشعب متميز بذاته داخل الإمبراطورية، بل حتى أنهم تمتعوا بفترة من الرخاء الاقتصادي في الحقبة البيزنطية المتأخرة. مباشرة تم سك النقود المعدنية التي تشير إلى ” arabia adquista” أو الحاق البترا التي لم يتم الاستيلاء عليها عسكرياً فلم يستطع الرومان إخضاع الأردنيين الانباط حتى في عهدهم الملكي الأخير وهناك أدلة على استمرارية النشاط التجاري الاردني النبطي بعدها بقرون. و تحت حكم الرومان بنى كلوديوس سيفيروس طريقًا معبّدًا جديدًا ربط في النهاية مدينة بصرى الشمالية بالبحر الأحمر ميناء أيلة (العقبة) في الجنوب. كان طول الطريق حوالي 500 كيلومتر، وكان يعرف باسم فيا نوفا ترايانا. وقد اكتمل في عام 114 بعد الميلاد، وبنيت على الكثير من ذات المسارات القديمة لطرق القوافل القديمة وطريق الملوك القديم . فأصبح بإمكانهم نقل القوات العسكرية وكذلك بضائع التجارة بسرعة من مكان إلى آخر.

الطريق الملوكي ، و قد استخدمه الاردنيون على مدى ممالكهم الأربعة

لم يكن المشهد الأردني النبطي في نهايته يشبه النهايات المعتادة للدول، ففي القرن الأول ميلادية لم يكن عصر وعهد سقوط و انهيار للدولة، بل على العكس تماماً حيث واصل الأردنيون الأنباط الصعود الحضاري بل أن حدودهم تمددت أيضاً، وكذلك التجارة و الصناعة و الاستمرار الحضاري بشكل عام، حتى إقتصادياً ، فقد واصل الأردنيون الأنباط سك عملتهم الخاصة مما يدل على أن المملكة الأردنية النبطية كانت عصية حتى على الأمبراطورية الرومانية حينها، وعلى الأرجح أن أسباب الحملة اللاعسكرية على الأردنيين الأنباط التي آلت إلى تحالف روماني – أردني نبطي كان بسبب اتفاقات تجارية وتوحيد سياسي خارجي ضد البارثيون الفرس ، فلقد أراد الرومان الاستفادة من الجغرافيا القوية الأردنية النبطية والمزايا العسكرية للأنباط على الجبهة الشرقية ضد البارثيون، وأراد الأردنيون الأنباط تحصين المملكة من الغزو البارثي حينها .

فيعلق المؤرخ التاريخي د. إبراهام نيجيف : ” إن هذه الأحداث لم تكن ذات أهمية كبيرة، خاصة أنها ذكرت عرضاً في كتابات المؤرخين الرومان “، مما يدل على أن انضمام المملكة النبطية للإمبراطورية الرومانية لم يكن على إثر انهيار حضاري أو سقوط عسكري بل جرى عبر اتفاق مسبق ولأهداف واقعية واضحة كانت تضمن جميعها الحكم الذاتي المحلي لمناطق نفوذ الأردنيين الأنباط على الأرض الأردنية وخارجها.

فمثلاً ، يذكر المؤرخ نيجيف أن النقوش الأردنية النبطية المكتشفة في النقب أشارت إلى أن العمل والبناء في المستوطنات والمنشآت الزراعية الأردنية استمر بعد الإنضمام حيث يعود تاريخ هذه النقوش إلى عامي 108 و 126 ميلادية .

جنديان أردنيان نبطيان بمواجهة جندي روماني عام 269 ميلادية
من رسم الفنان جراهام تيرنر

الاستمرار الأردني النبطي

لم تكن العاصمة الاردنية النبطية البترا وما حولها فقط مما استمر من المملكة على نحوه السابق، بل كانت المناطق الشمالية للمملكة مواصلة لما هي عليه، فوجدت نقوش لتلك الفترة في حوران الأردنية وجبل العرب وظل استخدام المعابد الأردنية مستمراً في السويداء و سيع  .

ولعل الملك رب إيل الثاني قد لا يكون الملك الأردني الأخير للمملكة الأردنية النبطية، اذ تشير الوثيقة الثانية من أرشيف باباثا مثلاً إلى ابن رب إيل الثاني و إسمه عبادة فتذكر الوثيقة : ” في حياة ، عبدت “عبادة” اب رب ايل الثاني الملك ملك الأنباط الذي أحيا و أنقذ شعبه في حياة جملت “جميلة” وهجرو “هاجر” إخوته ملكات الأنباط أبناء منكو “مالك” الملك ملك الأنباط ابن الحارث الرابع الذي أحب شعبه “، و هذا هو المصدر الوحيد لهذا الوريث للعرش الأردني حينها، حيث أنه من المرجح أن الرومان لم يتقبلوه حاكماً حينها لسبب نجهله .

ويبدو أيضا أن عبادة لم يكن هو الوحيد، فالوثائق التاريخية تذكر مالك الثالث الذي لعله حكم ما بين 106-126 ب.م، و حكم بقوة واستقلالية تامة المناطق الأردنية الواقعة إلى شرق البحر الميت، لكن بعد وفاته لا يوجد أثر لسلالة حاكمة أردنية نبطية .

وبالطبع  في هذا السياق أنه لم يكن الاهتمام الكامل بالعاصمة البترا اهتمام الأردنيين الأنباط فحسب، بل كان هناك اهتمام سيادي روماني ايضاً، فلقد زار الامبراطور هدريان العاصمة الأردنية البترا عام 130 ب.م و بقيت تسك النقود في البترا على أساس أنها العاصمة حتى عام 132 ميلادية حتى انتقل الثقل الأكبر سياسياً و اقتصادياً إلى العاصمة البديلة والمؤقتة بُصرى .

و قد وجدت نقوش أردنية نبطية في النقب و مادبا تشير إلى الانتقال السياسي إلى بُصرى حيث أرخ الأول إلى السنة الثالثة للولاية والثاني إلى السنة العشرين للولاية وظل استخدام هذا النمط من التقويم الأردني النبطي موجودا من عام 151 ميلادية حتى عام 286 ميلادية في سيناء تحديداً، مما يدل على أن سيناء ذاتها لم تخرج من النفوذ الأردني النبطي حتى نهاية القرن الثالث ميلادية وفي جنوب المملكة حتى مدائن صالح لعام 306 ميلادية .

رسم يمثل جندي و فارس أردني نبطي بمواجهة
فارس من مملكة الحضر (عربايا) في القرن الثالث ميلادية

حتى عند بناء الرومان للطريق الجديد عام 110 ميلادية وجدت مراكز عسكرية أردنية نبطية على طول الطريق في كل من القويرة وخربة الخالدي وخربة كثارة حتى عين الصدقة، فلم ينتهِ الجيش الأردني النبطي بالانضمام الأردني النبطي للامبراطورية الرومانية بل ظل مستمراً حتى في العمليات العسكرية وحفظ الأمن الداخلي فنرى على سبيل المثال 6 كتائب رماة أردنيين أنباط مكون من 6 آلاف جندي أردني نبطي بعد أن كانت فيلقاً في عهد رب إيل الثاني وجناح من الجمّالين تمركز في الشمال، بل ونجد تأثراً عسكريا رومانياً بالجيش الأردني النبطي فقد ورث نظامه الدفاعي العسكري ونمط حصونه في كامل البادية الأردنية، فنرى أن الرومان قد قلدوا الأردنيين ببناء حصون مشابهة في قصر الحلابات والحميمة و جنوب المملكة و امتدت شرقاً حتى النقب فاستخدم الرومان حصناً أردنياً نبطياً هناك وإلى الشمال حيث بنى الرومان حصناً على الطراز العسكري الأردني في قصر برقع .

وحتى اللغة بقي لها تأثيرها الكبير في المنطقة التي أسست لنشوء للغة العربية حالياً، فنرى في مدينة الرافة ( 80 كيلومتر جنوبي مدينة تبوك حالياً) أن الثموديين قاموا ببناء معبد لهم بين عامي 166-169 ميلادية واستخدمت اللغة الأردنية النبطية في نقوشها بجانب اليونانية، و نقشاً آخر في حوران في دير المسقف يشير إلى الإله الاردني النبطي ذو الشرى في عام 158 ميلادية، و نقشاً آخر شمالي بصرى في منطقة سجن يؤرخ للعام 180 ميلادية .

أما الحكام الإداريين في المنطقة فكانوا قد تأثروا بحالة الاستمرارية الأردنية، فنجد أن سكسثيوس فلورنتينوس الحاكم الاداري في عام 127 ميلادية، قد رغب في نقش مدفنه على غرار المدافن الأردنية النبطية ودفن في البترا بناءً على رغبته، التي ظلت مستمرة في أهميتها على الرغم من الانتقال السياسي للعاصمة البديلة بُصرى، فقد قام الامبراطور الروماني إيلاغابالس بمنح البترا لقب Colona عام 222 ميلادية و تبعتها بُصرى في عهد الكسندر ساويروس في عام 235 ميلادية مما يدل على أهمية العاصمتين النبطيتين حتى بعد أكثر من قرن من حادثة الانضمام .

لم تنتهِ الأهمية الحضارية للعاصمة الأردنية البترا هنا بل استمرت حتى أصبحت مركزاً دينياً مهماً للأبرشية القيصرية في المنطقة عام 358 ميلادية وفي العهد البيزنطي كانت شريكة في المجامع الدينية خاصةً مجمع نيقيا، كما شارك أسقف البترا أستيروس في مجمع سارديس، واشترك أسقف البترا جيرمانوس في المجلس المسكوني في سلوقيا عام 359 ميلادية .

كان الحدث الأصعب على الأردنيين هو الزلزال المدمر الذي حدث عام 363 ميلادية، الذي أدى إلى تدمير نصف العاصمة الأردنية البترا، والواضح للعيان أن الأردنيين لم يهجروا عاصمتهم بل استمروا فيها واعتنقوا المسيحية وبنوا الكنائس و المعابد في أرجاء العاصمة و المملكة.

حتى عند حدوث الزلزال الثاني عام 749 ميلادية، لم يترك الأردنيون العاصمة بالرغم من انتقال عدد وافر منهم إلى الجهة الشمالية من العاصمة باتجاه مدينتي (مؤاب ) الكرك و( أدوم ) الطفيلة ، فقد انتقلت الاسقفية من العاصمة إلى الربة في الكرك وبقي الأردنيون في العاصمة حتى هجرت خلال العهد العباسي لما جرى في تلك الفترة من عداء وتهميش للحواضر الأردنية .

و في العهد الاسلامي في القرن السابع تقريباً بقي الأردنيين الأنباط محافظين على انجازهم وإرثهم الاقتصادي وواصلوا تجارتهم مع يثرب في الحجاز ونقلوا الزيت إليها بشكل كبير، وقد نقل الأردنيون الأنباط أيضاً الأخبار العسكرية لأهل الحجاز قبيل معركة تبوك مما يدل على تحالف عسكري ضد البيزنطيين، وفي القرن الثاني عشر كان هناك استغلال فرنجي للجغرافيا الأردنية فأنشؤوا القلاع والحصون على امتداد الكرك حتى العقبة وبنوا في العاصمة الأردنية النبطية البترا قلعتي الوعيرة والحبيس فيها .

و يذكر أحد الحجاج المسيحيين إلى الأردن و يدعى تتمار Thetmar في عام 1217 ميلادية أنه مر بالعاصمة البترا وذكر بأن سكانها من الأردنيين كانوا يطلقون عليها اسم الرقيم بجانب اسمها الأول بترا .

و في ذات القرن زار السلطان المملوكي بيبرس البترا في عام 1260 ميلادية وزار قلعة الحبيس، إلا أن العاصمة الأردنية البترا بعدها أسدلت ستائرها الوردية حتى اكتشفها ونشر عنها الرحالة السويسري بيركهارت في عام 1812 ميلادية .

المراجع و المصادر :

  1. النصرات ، محمد إسماعيل (2007) مملكة الأنباط التاريخ السياسي ، مشروع بيت الأنباط للنشر والتوزيع ، عمان ، الأردن.
  2. Negev , A (1977) The Nabatean and the Provincia Arabia , ANRW , pp.520-686.
  3. Khairy , N. (1980) An Analytical Study of Nabatean Monumental inscriptions at madain saleh , pp.162-168.
  4. Bowrsock , G (1983) Roman Arabia , Harvard University Press , Cambridge , London .
  5.  Bowrsock , G (1971) A Report on Arabia Provincia , pp.219-242.

نهاية العهد الملكي الأردني النبطي

Scroll to top