العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية في عهد الملك الأردني الحارث الأول

لعل أولى المؤشرات على وجود أي علاقات أردنية نبطية – يهودية، كانت في عهد أول ملك معروف للأردنيين الأنباط، الملك الأردني الحارث الأول الذي حكم منذ العام 159 ق.م وحتى العام 158 ق.م، أي لعام واحد، وإتسمت تلك الفترة بسلام أردني مع الممالك المحيطة في المنطقة، حيث لم يستقبل الملك الأردني الحارث الأول ياسون اليهودي الذي نازع منلاوس اليهودي على منصب الكهنوت الأعظم في المملكة اليهودية، وذُكِرت هذه القصة في العهد القديم، إذا جاء فيه : “فهرب ثانية إلى أرض بني عمون، وكان خاتمة أمره منقلباً سيئا لأن أريتاس (الحارث) زعيم العرب طرده فجعله يفر من مدينة إلى مدينة، والجميع ينبذونه .. حتى دحر إلى مصر” (في سفر المكابين الثاني  57 : 9)،  مما يدل على أن المملكة الأردنية كانت تُقيم معاهدات مع دول الجوار وأنها ذات ثقل سياسي مؤثر بالإضافة لعدم وجود أي سبب يمنع من استقبال ياسون و تحويله إلى مصر إلا لإتفاق سياسي محض.

لم تقف العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية إلى ذلك الحد في عهده، بل امتدت إلى تحالف عسكري استغله الأردنيون لمواجهة خطر أكبر كان قد بلغ ذروته بعد عهدٍ طويلٍ، وفيه تحالف الأردنيون الأنباط مع المكابيين ضد السلوقيين وحملة ملكهم أنطيوخس الرابع ضد مصر.

ومن الأدلة على العلاقات الأردنية النبطية واليهودية في ذلك العهد ما ورد في سفر المكابيين الأول والثاني، حيث جاء في الثاني 5: 25-27 مثلاً : “أما يهوذا المكابي ويوناثان أخوه فعبرا الأردن وسارا مسيرة ثلاثة أيام في البرية فتلقوهما بسلام، وقصوا عليهما كل ما أصاب أخوتهما في أرض جلعاد …”، ويرى إحسان عباس أن هذا اللقاء تم بالقرب من إقليم حوران الأردني، و يذكر سفر المكابيين الأول في 9: 35 : “أن يوناثان أرسل يوحنا أخاه بجماعة تحت قيادته يسأل النباطيين أولياءه أن يعيروهم عدتهم الوافرة”، مما يدل على أن العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية كانت مسالمة وقائمة على التعاون في تلك الفترة،  وأن الأردنيين الأنباط كانوا ذوي قوة لا يستهان بها، مما يجعل دولة أخرى تستعين بمعداتها.

العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية في عهد الملك الأردني الحارث الثاني

شهدت هذه الفترة تغيراً في وتيرة العلاقات، فنرى أن المملكة السلوقية ضعُفت بين أنطيوخوس الثامن غريبس وأنطيوخوس التاسع قزقنيس، وفي المملكة اليهودية صعد التيار الحشموني وحكم ألكسندر ينايوس ذو الطبيعة العدوانية، وتعاظمت القوة التجارية الأردنية النبطية في ذلك العهد، إذ في عهد الملك الأردني الحارث الثاني 120 ق.م – 96 ق.م، مارس ينايوس الضغط على الاقتصاد الاردني من خلال توسيع نفوذه نحو غزة لمنع القوافل التجارية الأردنية المحمّلة بالتوابل والعطور والقادمة من العاصمة الأردنية النبطية، بترا، بإتجاه أوروبا، من الوصول لسواحل البحر المتوسط، الأمر الذي حمل أهالي غزة لطلب النجدة من  الملك الأردني النبطي الحارث الثاني، ورغم أنه من غير المعروف إن كان قد حصلت معركة على إثر ذلك بين الأردنيين الأنباط وألكسندر ينايوس، إلا أن التهديد اليهودي انتهى بعد ذلك لما تمتّعت به غزة من تحالفها مع الأردنيين الأنباط بصفتها إمتدادًا تجاريًا للبترا، حيث أقيمت المستوطنات الأردنية النبطية في النقب وخصوصًا في منطقة عبده وخلاصة ونتسانا وممفيس، كما أن الملك الأردني النبطي الحارث الثاني هو أول ملك أردني يضرب النقود البرونزية و أسس مركزاً لها في غزة.

وبما أن التهديد اليهودي الضئيل للأردنيين الأنباط بتوسّعهم نحو غزة لم يفلح، بقي التنامي الاقتصادي الجارف للأردنيين الأنباط مستمرًاً وآخذًا بالتوسع وزيادة النفوذ .

الكسندر ينايوس

العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية في عهد الملك الأردني عبادة الأول

إزدادت حدة الصراع في عهد الملك الأردني عبادة الأول الذي حكم منذ عام 96 ق.م وحتى عام 85 ق.م، حيث تجرأت التهديدات اليهودية إلى احتلال مؤاب وجلعاد في شمالي المملكة الأردنية النبطية، تبع هذا الاحتلال القصير جداً، ردٌ عسكريٌ أردنيٌ، إذ توجهت الجيوش الأردنية النبطية نحو أم قيس لملاقاة قوات ينايوس وتم دحره هو وجيشه، ووقع في وادٍ عميق وهرب بصعوبة إلى القدس لينجو بحياته، ولم تنته هذه الحرب عند هذا الحد، بل تبعها غضبٌ شعبيٌ في المملكة اليهودية جرّاء الخسائر التي لحقت بجيشهم في معركته الخاسرة على الأرض الأردنية.

ولم يخف ينايوس على حكمه من شعبه فحسب، بل وخشي أيضًا من ملاحقة الجيوش الأردنية له ولجيشه حتى تخوم القدس، فحاول أن ينال رضا الملك الأردني عبادة الأول بتنازله عن أراضٍ للمملكة الأردنية النبطية.

العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية في عهد الملك الأردني رب إيل الأول

لم يحكم هذا الملك إلا لمدة عامٍ واحدٍ، إلا أنه برز بشكل قوي في معركة عظيمة دافع فيها عن الأردن والأردنيين ضد جيش أنطيوخوس الثاني عشر دينوسيوس عام 85 ق.م الذي شن حملته على المملكة اليهودية وهزمها ثم تابع سيره نحو بترا، ظنًا منه أنه قادر على كسر صمود الأردنيين الأنباط، فكان رد الملك الأردني النبطي بتشديد الدفاعات العسكرية الأردنية النبطية وتوجيه 10 آلاف من الجنود الأردنيين لمهاجمة الجيش اليوناني المعتدي، وعانى الجيش اليوناني من مرارة وشراسة دفاع الجيش الأردني عن أراضيه، وخلال محاولاته الهرب فقدَ قائده العسكري ومعظم جنوده، وواجه الجنود الناجين من السيف الأردني النبطي، الجوع والعطش فلقوا حتفهم.

العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية في عهد الملك الأردني الحارث الثالث

كانت للمعركة الأخيرة التي حقق فيها الملك الأردني رب إيل الثاني نصراً عظيماً، أثرها في تمكين الحارث الثالث الذي حكم ما بين عامي 84 ق.م و 62 ق.م، ويُعدُّ من أفضل وأقوى الملوك الأردنيين الأنباط إذ شهدت مملكته توسّعًا هائلاً، اقتصادياً و سياسياً. قام الحارث الثالث بالسيطرة على دمشق بعد وفاة الملك السلوقي أنطيوخوس الثاني عشر بطلب من أهلها، ووصل الحكم الأردني النبطي إلى صيدا شمالاً، وعيّن الحارث الثالث عليها استرتجا، وهي رتبة إدارية نبطية، وتعني النائب عن الملك. وفّر هذا التوسّع لسكّان مدينة دمشق الحماية الأردنية النبطية من الإيطوريين في لبنان. وكان اليهود ينظرون إلى اتساع الرقعة الجغرافية السياسية والنفوذ الاقتصادي للأردنيين الأنباط بعين الامتعاض، حيث كان  ينايوس يرى أن الملك الأردني قد عاد بشكل أقوى ليسيطر على سواحل البحر الأبيض المتوسط من جديد، لكن الملك الأردني الحارث الثالث كان يعي تبعات توسّعه واحتمالية أن تقوم المملكة اليهودية بمشاكسته من جديد، فاستبق ذلك بتحرّك عسكريّ أدّى إلى دحر جيش المملكة اليهودية مجددًا بالقرب من قلعة الحديدة شرقي مدينة اللد وأجبرهم على توقيع الصّلح بشروط الأردنيين الأنباط، فتجرّعوا سمّ الانسحاب من مواقعهم على سواحل البحر الأبيض المتوسّط.

رسم تصويري للملك الأردني النبطي الحارث الثالث

لكن هذا الصلح لم يدُم طويلاً، حيث حاول ينايوس أن يسترد ما خسره مرتين، مرّة في اللد ومرّة في أم قيس، وأيضًا من أجل استمرار شعوره بخطورة تعاظم نفوذ المملكة الأردنية النبطية، فحاول مجددًا احتلال الأردن من جهة الغرب ولم يستطع إلا أن يحتل بعض القرى، وتوفي على أسوار أحد الحصون الأردنية النبطية عام 76 ق.م، مسلماً العرش لإمرأته سالومة الكسندر التي حاولت قدر الإمكان إقامة علاقاتٍ طيبةٍ مع المملكة الأردنية النبطية.

 لم يدم الوئام داخل المملكة اليهودية طويلاً حيث تنازع الشقيقان، هيركانوس الثاني وأرسطوبولوس الثاني، أبناء سالومة، على العرش، وتمكن أرسطوبولوس من هزيمة أخيه هيركانوس بالقرب من أريحا، فقام أعوان هيركانوس الثاني بطلب الحماية من الملك الأردني الحارث الثالث ، فمنح الملك الحارث هيركانوس حق اللجوء إلى بترا بمعونة من انتيباتر الأدومي .

هيركانوس الثاني

 

ارسطوبولس الثاني

لم يكن الملك الأردني النبطي عاجزاً عن استعادة بعض القرى المحتلة من قبل اليهود، بل انتظر الفرصة المناسبة لكي يستفيد من حالة الفوضى داخل المملكة المجاورة، فعند لجوء هيركانوس الثاني لبترا قدَّمَ وعدًا للملك الأردني النبطي الحارث الثالث بأن يعيد كافة الأراضي المحتلة إذا ما عاونه على هزيمة أخيه وتنصيبه ملكا على مملكة اليهود، أي أن هيركانوس وريث عرش المملكة اليهودية كان يرى ويؤمن بأن الجيش الأردني النبطي  قادر على التأثير المباشر على رأس الحكم في المملكة اليهودية، وهذا ما حصل بالفعل، فقد سيّر الحارث الثالث جيشاً قوامه خمسين ألفاً من الجنود من خيالة ومشاة، واتجه به نحو القدس وتمكن من دحر أرسطوبولس الثاني وحصاره في المعبد في القدس وتسليم الحكم إلى هيركانوس .
إلا أن الأحداث التي كانت تعصف بدمشق حينها جعلت من القائد الروماني أميليوس سكاروس يتجه إلى القدس مما وضعه تحت ضغط أرسطوبولس الذي رشاه بمقدار 9 أطنان من الفضة كي يتوسط لدى روما لإقناع الجيش الأردني النبطي بكسر الحصار عن القدس، وكان بالفعل اذ إنسحب الملك الأردني نحو فيلادلفيا دفعًا لشرور وألاعيب أرسطوبولس.

جاءت بعد ذلك التدخلات الرومانية بإنشاء مدن الديكابوليس التي سحبت السيادة من يد الأردنيين الأنباط على شمالي الأردن، ونحب اليهود لما خسروه من مدنهم في قرار الملك الروماني بومبي، تبع هذا القرار قدوم ثلاث وفود في عام 63 ق.م إلى بومبي يمثلون كلا من هيركانوس وأرسطوبولس والشعب اليهودي الرافض لكليهما، قام بعدها ملك بومبي بتسيير حملة على المملكة اليهودية واعتقال أرسطوبولس الذي قاومه، وقُتِل في هذه الحملة ما لا يقل عن 12 ألف يهودي، وفي عام 62 ق.م تقريباً أصبحت المملكة اليهودية تابعة للرومان و فقدت استقلالها وحريتها مما زاد من قوة الموقف السياديّ للأردنيين الأنباط، ومالت النتيجة لصالحهم خصوصاً بعد الذي جرى في المدن الساحلية من فراغ سياسي بسبب ما آلت عليه حدود المملكة اليهودية بعد الحرب.

لم يتعارض اليهود مع الأردنيين الانباط بعد تلك الحملة في عهد الملك الأردني النبطي الحارث الثالث، وكان عهده من بعد هذا الأمر عهد رخاء وحضارة، فبُنيت أيلة وتعمّرت، ونُحتت الخزنة في تلك الفترة، واستمر النشاط الاقتصادي وبناء المدن  والمستوطنات الأردنية النبطية في النقب.

العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية في عهد الملك الأردني مالك الأول

انقطعت العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية بسبب ما آلت إليه المملكة اليهودية من انهيار ناتج عن الاحتلال الرّوماني، ومضى عهد الملك الأردني النبطيّ عبادة الثاني بدون أي أحداث تُذكَر على صعيد العلاقات مع اليهود وصولاً إلى الملك الأردني النبطي مالك الأول، الذي حكم في الفترة بين 59 ق.م و 30 ق.م، والذي كان يتمتّع بحكمة ساعدته على توخي الحذر في جوٍّ سياسيٍ مضطربٍ عصف في المنطقة آنذاك .

لم تكن العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية مباشرة في عهده، ولكن عبر أنتيباتر الأدومي وزير الملك الأردني النبطي، والذي عيّنه القيصر الروماني يوليوس قيصر حاكمًا على الدولة اليهودية كمكافأةٍ منه للأردنيين الأنباط على وقوفهم معه ضد بومبي في حروبه، وتم تعيين هيركانوس كاهناً أكبر لليهود. أنتيباتر الأدومي كان قد تزوج بإمرأة أردنية نبطية وأنجب أربعة أولاد، منهم هيرود الذي حكم اليهود فيما بعد وقبلها حكم الجليل، وهذا ما نظنه القمة العظمى في العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية، حيث نرى حكماً أردنياً شبه مباشر لليهود داخل مملكتهم.

استمرّ الحال على ما هو عليه حتى مقتل أنتيباتر الأدومي مسموماً عام 43 ق.م عن طريق شخص يدعى ماليكوس، وقد كان ماليكوس معارِضاً وموظفاً كبيراً لدى هيركانوس الثاني اليهودي، وقام بعدها إبنه هيرود بالانتقام له والقضاء على حزب ماليكوس و التخلص منه بتحالفات رومانية، ولو أن حكمه لم يستمر طويلاً ولجأ بعدها إلى بترا.

لم يدُم التحالف الأردني النبطي مع وزيره الأسبق أنتيباتر طويلاً، حيث فقد هيرود التحالف مع الأردنيين الأنباط بسبب التهديدات والمناوشات مع البارثيين الفرس، الأمر الذي جعله يسافر إلى مصر من ثم إلى روما، ويعود بعد سنواتٍ إلى حكم المملكة اليهودية كغير يهودي وتابعٍ للرومان. ومن المرجّح أن يكون حصار الملك الأردني الحارث الثالث هو المسمار الاخير في نعش المملكة اليهودية التي أخذت بالأفول والضعف حتى غدت مقاطعة رومانية لا تتمتع بالاستقلالية، وبذلك تكون نهاية العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية بانتهاء المملكة اليهودية، بالرغم من حالة العِداء التي اتسمت بها العلاقات الأردنية النبطية مع مقاطعة هيرود الرومانية فيما بعد.

المصادر و المراجع :

  1. النصرات ، محمد إسماعيل (2007) مملكة الأنباط التاريخ السياسي،مشروع بيت الأنباط للنشرو التوزيع،عمّان،الأردن.
  2. عبّاس،إحسان (1987) تاريخ دولة الأنباط،ط1،دار الشروق،عمّان،الأردن.
  3. Bowesock , G (1971) A Report on Arabia provincia .
  4. Negev , A . (1986) Nabatean archaeology Today , New York .
  5. Starcky , J . (1955) The Nabateans : A Historical Sketch
  6. Lowler , J . (1974) The Nabateans in Historical Perspective ,baker book house , Michigan .

العلاقات بين المملكة الأردنية النبطية والمملكة اليهودية

مقدمة

بدأ الشعب الأردني النبطي بالانتشار والبناء والاعمار في البادية الاردنية في نفس الوقت الذي أصبح فيه بطليموس الأول سوتر حاكم مصر. في البداية تصادمت هذه الحضارات الناشئة مع بعضها البعض ، ولكن في غضون سنوات قليلة ، بدأوا في تشكيل تحالفات تجارية وتبادلات ثقافية. كان البطالمة بحاجة إلى الوصول إلى التجارة الشرقية، وكان الاردنيون الأنباط بحاجة إلى الوصول إلى الأسواق على البحر المتوسط للتمدد في إبداعهم التجاري الناشئ حينها . فأدى التعاون المتبادل بينهما إلى تحول كامل للسلطة في الشرق الأوسط. فأصبحت الإسكندرية أغنى مدينة تجارية في العالم المتوسطي، وأصبحت مملكة الأردنيين الأنباط صاحبة أغنى شعب و دولة في المنطقة. ما دام البطالمة ومن بعدهم من الرومان ابرموا الاتفاقات مع الأنباط بحريّة تجارة الدولتين التجارية في سلام، و سمح الأردنيون الأنباط للبطالمة بأن ينمّوا على حد سواء ثرواتهم من عائدات التجارة أيضاً .

و كانت المطامع في بلاد الأردنيين الأنباط تتشبث بأي فرصة لاستغلالها، إذ أن سطوة الأردنيين الأنباط على البر و البحر في التجارة والنقل التجاري كانت السبب الرئيسي في اندلاع نار المنافسة بينهم وبين اليونانيين البطالمة في مصر، أدت فيما بعد لعدة حملات و معارك و سجال اقتصادي بين الطرفين و محاولات لاجترار طرق التجارة عن مدينة أيلة في العقبة و تحويلها للسواحل الشرقية لمصر و شبه جزيرة سيناء .

إلا أن للثقافة منحىً آخر عن الاقتصاد و السياسة فالقارئ للمشهد الآردني النبطي و البطلمي اليوناني يمكن أن يلاحظ التاريخ والثقافة والتقدمات المماثلة في الحضارة النبطية. في الواقع ، انفتح الآردنيين الأنباط على ثقافة البطالمة أكثر من أي من الثقافات والحضارات الأخرى التي تعايشوا بجانبها .

كانت أولى التحركات التنافسية بين الأردنيين الأنباط و البطالمة في عهد بطليموس الثاني فيلادلفيوس Ptolemy II philadelphus في (284-246 ق.م) إذ حمل الصبغة الاقتصادية و حاول جر طرق التجارة إلى مصر، فأمر بفتح القناة القديمة و هي ذات القناة التي أمر بشقها الفرعون “نخاوبن بسماتك” عام 600 ق.م  وتصل بين النيل والبحر الأحمر وكان قد أوقف العمل بها بعد أن مات 120,000 مصري خلال العمل على فتحها وأكملها الملك الفارسي “دارا” إلا أنه من المحتمل أنها قد طمرت جزئياً بعد أن أتاها البطالمة بعد 300 عام [1] ، و قام أيضاً بإنشاء عدة موانئ على البحر الأحمر .

كل هذه المحاولات لم تجدِ أي نفع أمام الأسطول التجاري والأنظمة التجارية الأردنية النبطية التي بدأت حينها ولم تكن قد وصلت إلا أوجّها بعد، كانت المحاولة الثانية في عام 280 ق.م ، إذ أُرسل أريستون Areston  في مهمة استطلاعية عسكرية قامت بمسح كامل البحر الاحمر إلا أن الحملة لم تجرؤ على الاقتراب كثيرا من مدينة أيلة (العقبة) الاردنية خصوصا الميناء الاردني حينها إيلانا Aelana [2] و اكتفت بمراقبتها عن بعد و العودة تجاه الجنوب.

لم يكن هذا الاندفاع البطلمي الضعيف لمزاحمة الاردنيين الانباط في البحر الأحمر ضمن حدود كلا الدولتين التي تزعمها الأردنيين على مدى قرون وامتدت إلى أبعد من ذلك من المسطحات البحرية العالمية، بل تخلله اعتداءات بطلمية على السفن الاردنية النبطية، ما أدى إلى اشتباكات من كلا الطرفين سببت الأذى للبطالمة لما شهدوه من رد عنيف من قبل الاردنيين الانباط .

خريطة تبين أهم المواقع لموانئ البحر
الأحمر في تلك الفترة
Mohammed Al- Nasarat (2012) BYZANTINE MARITIME TRADE IN SOUTHERN JORDAN: THE EVIDENCE FROM PORT OF AILA (‘AQABA) , p.3 .

اتخذ بطليموس فيلادلفيوس هذه الاشتباكات ذريعة لمحاولة قتال الأنباط، إلا أنه لم ينجح في حملته الضخمة بالرغم من عامل المفاجأة، فلما لم ينجح في خليج العقبة، اتجه شمالاً لعله يحقق انتصاراً يحفظ ماء وجهه فيه واستطاع احتلال الساحل الشرقي من البحر الميت مما تسبب في تعطل حركة تجارة الاسفلت ( القار) الذي اعتيد استخراجه من هناك [3] ، و اتجه شرقاً باتجاه عمون .

حاول بطليموس فيلادلفيوس تثبيت حملته التي عبرت سيناء باتجاه البحر الميت عن طريق بناء مدينة على الساحل الغربي من خليج العقبة بالقرب من عصيون جابر وأسماها مدينة بيرنيسي نسبةً إلى أمه، وعين عليها من عرب سينا فرقة عسكرية كاملة، وحاول من خلال هذه المدينة الضغط على تجارة الأردنيين الأنباط إلا أن الانباط لم يتأثروا ذاك الشيء بل وتحول النزاع الأردني النبطي – البطلمي حينها إلى صراع على الحلفاء ، فالأردنيين الانباط كان لهم شبكة واسعة من الحلفاء وأهمهم أهل الجرها الذين مدوا طريق التجارة البحري مع البترا عبر الخليج العربي بعيداً عن التغول البطلمي في البحر الأحمر . [4]

و كان البطالمة قد تحالفوا مع المعنيين و اللحيانيين في شبه الجزيرة العربية لما كان بينهم وبين الجرهانيين من تنافس قديم، فقام البطالمة بإنشاء مستوطنة على أراضيهم جنوبي الحدود البحرية للمملكة الأردنية النبطية على الساحل الشرقي للبحر الأحمر سموها بـ أمبيلوني Ambelone  بما كان أشبه بمحاولة للالتفاف على الموقع الجغرافي الاقتصادي الأردني النبطي بالغ الأهمية و صنع مناخ اقتصادي شبيه له بأقصى ما يمكنهم .
و مع هذا التعاون اللحياني المعيني – البطلمي ، برز تحالف آخر مع الأردنيين الانباط ألا وهم السبئيون [5] ، لم يقتصر التحدي السبئي الجرهي للبطالمة إلى التحالف مع منافسها الأقوى في المنطقة ألا وهي المملكة الأردنية النبطية ، بل تعدى إلى التحالف مع الشق الآخر من اليونان ألا وهم السلوقيون فكانوا سوق الجرهيين الرئيسي للبهارات  . [6]

كان لتلك المحاولات الفاشلة لإحباط التجارة الأردنية النبطية الدافع لبطليموس فيلادلفيوس لإقامة علاقات سلمية معهم بالرغم من أن هذه العلاقات كانت هشة كونها بنيت على خوف وخشية يونانية بطلمية من الصراع مع الأردنيين الانباط ، كُسرت هذه العلاقات مع إندلاع الحرب بين السلوقيين والبطالمة فانحازوا إلى جانب الملك السلوقي حينها أنطيوخوس الثالث ضد بطليموس فيلو باتور الرابع للانتقام من هزيمة السلوقيين على يد البطالمة في معركة رفح في عام 218 ق.م [7] ، وقد أدت هذه المعركة إلى زعزعة الجبهة الداخلية للبطالمة إذ أنها كونت لدى المصريين نزعة تحررية ضد البطالمة، أدت إلى سحب البطالمة للمصريين من الفرق العسكرية بشكل كبير وهذا ما صب مرة أخرى في تعاظم النزعة القومية لدى المصريين ضد البطالمة ما جعل الجيش البطلمي متشققاً من الداخل . [8]

كانت ثورة المصريين ضد البطالمة في رفح و تبعاتها هي نقطة اللاعودة في انهيار الدولة البطلمية، استبدل هذا الانهيار و الجزر الحدودي إلى تنامي القوة الاقتصادية للأردنيين الانباط و امتداد للسلوقيين، ففقد البطالمة الأراضي الواقعة شمالي حدود المملكة الأردنية النبطية بعد معركة بانيون panion عام 200 ق.م [9] ،و انهار ميناء بيرنسي أمام ميناء ايلانا الأردني النبطي  [10]، تبع هذا السقوط تنامي للقوة البارثية (الفارسية) التي اضعفت من نفوذ السلوقيين شمالاً فقامت البترا شامخة و برز الملك الأردني النبطي الأول المعروف الحارث الأول، و أصبح لميناء لوكي كامي (المدينة البيضاء) النبطي دوره المهم بعد الميناء الأردني الرئيسي .

التأثيرالمتبادل بين الحضارة الأردنية النبطية والحضارة البطلمية

في عام 85 قبل الميلاد ، سار الأنباط إلى مدينة دمشق لتصبح ضمن حدود مملكتهم الواسعة وأصبحوا بهذا الاتساع قوة عالمية. فقد كانوا منذ عهد بطليموس الأول في مصر يشحنون بضائعهم عبر ميناء الإسكندرية المصري. إلا أنهم مع امتدادهم البري على البحر المتوسط أصبحوا قوة اقتصادية أكبر، وتأثر الأنباط حينها بالطابع الاغريقي إلى حد ما . فكانت الإصلاحات الشاملة التي من شأنها تغيير مملكتهم إلى الأبد تستند في شيء منها إلى احتكاكهم الأكبر بهذه الحضارة .

فكان من أول أعمال الملك الأردني النبطي الحارث الثالث (86 – 62 قبل الميلاد)، سكه لعملة جديدة من العملات المعدنية ، لكن هذه المرة مع عرض اسمه باللغة اليونانية و بلقب يوناني، إضافة إلى ذلك ، فقد أخذت الطرازات المعمارية النبطية خلال هذا الوقت القليل من الطابع المعماري الهيلنستي، الذي استمد بشكل كبير من الطراز الهيلنستي الاسكندري تحديداً . و لم يقتصر ذلك فقط على المقابر في البترا، بل إن المشاريع المعمارية الضخمة التي قام بها الأردنيون الأنباط تعطي لمحة معمارية مهمة عن التشابه مع المشاريع المعمارية في الإسكندرية.

التشابه بين الخزنة و مكتبة سيلسوس في أفسس

و نجد أوجهٌ من الشبه بين المقابر الاردنية النبطية وبين مقابر البطالمة في مصر . فقد تاُثر الأنباط بالممارسة المصرية المتمثلة في بناء مقابر مثيرة للإعجاب بزعمائهم .

لم يكن تأثر الأنباط بالبطالمة ومواطنيهم المصريين فقط في الممارسات الدينية والأمور الحياتية، بل قاموا بإعطاء أسماء مصرية و يونانية لأطفالهم ، وأصبح اللباس ذو النمط المصري واليوناني موجوداً في العاصمة الأردنية النبطية البترا وأنحاء البلاد .

وبالطبع لم يكن التأُثير ذو اتجاه واحد بين البطالمة والأردنيين الأنباط ، بل كان للأردنيين الانباط أهمية و تأثير أكبر أيضا على الحياة العامة في مصر، فقد شارك الأردنيين الأنباط في خلق وجمع المعرفة العلمية . وكانت مدخلاتهم في المكتبة الكبرى في الإسكندرية وكذلك المتحف مع تحقيقاته في الجغرافيا والرياضيات وعلم الفلك والعلوم الأخرى ذات أهمية كبيرة . ويذكر الأدب العربي (من تواريخ لاحقة) العديد من المساهمات النبطية في العلم والثقافة. أبو بكر أحمد بن علي بن قيس بن الوحيص النبطي مثلاً، الذي كان طبيبًا وعالمًا نباتيًا له اهتمامات في الزراعة وتربية الحيوانات بالإضافة إلى الخيمياء والسحر والسموم ، كتب حوالي 900 بعد الميلاد. لم يكن باحثًا يمثل عهده فقط، بل ربما كان أكبر المتحدثين بإسم أسلافه الأردنيين اللامعين، وقد نُسب إليه أكثر المعارف العلمية الأردنية النبطية المعروفة. يعرف أحد كتبه باسم الفلاحة النبطية (904 م) و السموم والتقات (900 م). وقد اقترح بعض المؤرخين أن أوائل البطالمة قد يكونوا ساعدوا التجار والبحارة الأنباط في سعيهم للحصول على المعرفة من الشواطئ البعيدة. ونقلها إلى العلماء الأردنيين الأنباط في الإسكندرية، ولاحقاً نرى بأن العديد من الكتب من مكتبة الإسكندرية قد ترجمت في وقت لاحق إلى اللغة العربية ، اللغة التي انبثقت عن الأردنيين الأنباط، و هذا مؤشر آخر للدور الذي لعبه الأردنيين الأنباط في تاريخ المنطقة . [11]

كما يتضح تاريخيا أن العديد من الأردنيين الأنباط تواجدوا وأثروا في الحياة العامة في الإسكندرية وغيرها من المدن المرية. و تركوا أدلة على وجودهم وحضارتهم ليس فقط في هذه المدينة، ولكن في العديد من المراكز الحضرية والتجارية حول البحر الأبيض المتوسط. و من التأثيرات الهلنستية والاسكندريية  في الثقافة النبطية يمكننا أن نستنتج أنه لا توجد حضارة أخرى أثرت على الأردنيين الأنباط في العديد من الطرق وإلى العمق مثل الحضارة البطلمية في مصر.

المصادر و المراجع :

[1] النصرات ، محمد إسماعيل (2007) مملكة الأنباط تاريخ الأنباط السياسي ، مشروع بيت الأنباط للنشر و التوزيع ، عمان . ص52

[2] Rostovtzeff , The social and Economic History , vol .1 , p.387.

[3] الناصري ، سيد أحمد (1984) الصراع على البحر الاحمر في عصر البطالمة ، الرياض ، ص401-428.

[4] نفس المصدر السابق ، ص 410 .

[5] نفس المصدر السابق ، ص 414

[6] Tarn , Ptolemy II and Arabia , p.22

[7] عبدالوهاب ، دراسات في العصر الهيلنستي ، ص 144.

[8] نفس المصدر السابق

[9] نفس المصدر السابق ، ص 222.

[10] الناصري ، الصراع على البحر الأحمر ، ص 418

[11] The History of the Ptolemy’s and the Nabataean Empire , Nabataean History (website)

العلاقات بين الأردنيين الأنباط و اليونانيين البطالمة

على تلة من تلال الحصن ، تجد ذاك البيت القديم ذو العقد المؤابية مثله كمثل باقي بيوت الأردنيين ، إلا أن ذاك البيت تحديداً شهد على أحد معجزات الأردن في القرن العشرين ، هو القلم المبدع و العقل الفيلسوف ، الراهب الناسك، المتبحر في العلوم ، تارةً يلاعب القطط و تارةً يجادل الفيزياء، تارةً يداعب الحمام و تارةً يسطّر جُملاً لو أنها خرجت لحملت بصاحبها فوق الأكتاف وطافت به بين الأجيال ، إلا أن هذه المعجزة بقيت حبيسة غرفتها البسيطة ذات الشباكين ، إنه أديب عباسي الذي شهد له الغريب بقلمه قبل جاره ، همته ، كهمة الفلاحين الأردنيين و عزيمة باديته و أبناءها ، نسير في هذا البحث عبر حياته لنرى كيف عاش وكيف أصبح إبن الأردني و الأردنية ، معجزة .

الميلاد والنشأة

أديب عبّاسي (1905-1997)، أديب ومفكّر وشاعر وفيلسوف وعالِم أردني، وُلد في بلدة الحصن، في بيت العائلة الذي بُني أواخر القرن التاسع عشر على طراز القناطر والعقود وعاش فيه حتى وفاته. عرفه أقرانه منذ صغره على أنه الطفل الذكيّ والموهوب، وكان مرجعًا لزملائه في المسائل الدراسيّة المختلفة، وظل معروفًا في وسطه الاجتماعيّ بهذه الصفة حتى في مراحل دراسته الجامعيّة. كما امتاز بشخصيته التي تحب المجادلات الفكريّة والنقاشات العلميّة مع المثقّفين المحلّيين والأجانب. بالإضافة إلى أنه أتقن اللغة التركية بحكم ولادته في عهد الاحتلال العثماني، وبالرغم من سياسات التجهيل الممنهجة وأساليب فرض الثقافة التركية الدخيلة التي مارستها سلطات الاحتلال العثماني على الأردنيين آنذاك، إلا أن أديب عباسي ومنذ شبابه كان منفتحًا على الثقافات الأخرى، وأتقن اللغة الإنجليزية وتحدّثها بطلاقة، وعبر الموجات الراديوية القصيرة كان يستمع لإذاعات هنديّة وكان يفضّل أصوات المغنّيات الهنديات اللواتي استمع إليهن عبر الإذاعة.

أديب عباسي في كهولته

تعليمه وعمله

تلقّى جزءًا من تعليمه الابتدائي في مسقط رأسه حتى الصف الرابع، ثم وعلى إثر خلافٍ نشأ بينه وبين إدارة المدرسة انتقل، وبحكم نشاط والده التجاريّ، للدراسة في مدينة الناصرة ليكمل المرحلة الابتدائية، وواصل بعد ذلك تعليمه في معهد دار المعلّمين في القدس وتخرّج منه. ونظرًا لتميّزه الأكاديمي حصل أديب عبّاسي على منحة من الإمارة الأردنية آنذاك لدراسة الاقتصاد في الجامعة الأمريكيّة في بيروت، وكان من بين قلّة قليلة من الروّاد الذين حصلوا على منح للدراسة في الخارج، وقبل أن يُكمل متطلبات الحصول على شهادة البكالوريوس أُجْبِرَ على تغيير تخصصة لدراسة اللغة العربيّة وعلم النفس، وتخرّج في العام 1929. وكان إجباره على تغيير تخصّصه قرارًا من سلطات الانتداب البريطانيّة التي رأت فيه أردنيًا ذا تطلّعات تحرّرية، وقد ظهرت عليه ملامح النبوغة والذكاء وصفات الإنسان الوطنيّ الذي لا يرضى لوطنه البقاء تحت رحمة الاعتماد على سلطات أجنبيّة، ولذا استخدمت السلطات البريطانيّة نفوذها لتغيير اختصاصه من الاقتصاد، بصفته اختصاصًا مؤثرًا وحيويًا.

عمل بعد تخرّجه لمدّة عام واحد فقط في وزارة الاقتصاد، وبعد استقالته منها عمل مُعلِّمًا منذ العام 1932 وحتى الأربعينيات، وانتقل خلال هذه الفترة للتعليم في السلط والكرك والحصن، ثم اضطر مجددًا لترك مهنة التعليم بسبب نشاطه الصحفيّ في الصحف المصرية، وتفرّغ بعدها بالكامل لانتاجه الفكريّ وعاش في بيته زاهدًا رغم يسرة حاله.

الانتاج الأدبي

كانت شخصية أديب عباسي متنوّعة وثريّة، اذ تمتّع بنمطٍ فكريٍّ متحرّرٍ ومَرِن، الأمر الذي جعله صاحب أثرٍ ملموسٍ في مجالات مختلفة، سواءً في مجال الاقتصاد الذي درسه في الجامعة الأمريكيّة ببيروت، أو على صعيد المجال التربوي والعلوم والآداب والفلسفة والفِكر الاجتماعيّ، كما أنه كان مُهتمًا بعلوم الفيزياء والفلك، وله كتابات علمية نقد فيها النظرية النسبية للعالم الألماني الشهير آينشتاين.

مارس أديب عباسي الكتابة في سن السابعة عشر، وراسل مجموعة من الصحف الأردنية والسورية والمصرية آنذاك من بينها (الرسالة، المقتطف، الهلال، الرواية)، ونشر فيها مقالاته، كما دخل في مناظرات فكرية مع مجموعة من الأدباء والمفكّرين الكبار في القرن العشرين كان من بينهم العقّاد، وله مقالات في الفلسفة الإسلامية نُشِرَت في مجلّة الرسالة في أواسط ثلاثينيات القرن العشرين.

كتب أديب عبّاسي مجموعة من المخطوطات باللغتين العربيّة والإنجليزية ومنها مخطوط بعنوان “فيلسوف الغابة”، بالإضافة إلى عدد من الكتب كان من أوّلها “عودة لقمان” بعدّة أجزاء، تضمن حكايات خيالية على لسان الحيوانات، مرّر خلالها مجموعة من أفكاره الأدبيّة ومفاهيمه الفلسفية التي تعبّر عن فكره الشخصيّ بأسلوبٍ قصصي مستوحى من بيئته المحلّية والأحداث التي عايشها والمزاج الشعبيّ الذي عاصره أديب عبّاسي في القرن العشرين.

نُشِرَ له بعد وفاته كتاب “بُنيّات الطريق”؛ أي التفرّعات الصغيرة من الطريق الكبير، وقد كتب فيه مجموعة من الخواطر والأفكار والمقولات التي تعالج زوايا فلسفية اهتم بها أديب عبّاسي، منها ما هو جدليّ أو وجوديّ، أو ذات صلة بالقيم والأخلاق الإجتماعيّة، ومما جاء في الكتاب :

  • “المتكبّر كالرّابية الجرداء”
  • “الفضيلة سياجٌ من شوك ليس له باب، يجدُ الداخِلُ والخارِجُ منه صعوبةً على السّواء”
  • “كلّما دَنَت النفوسُ من الأرض، هانَ قِطافُها، شأنُها شأنُ الثّمر”
أديب عباسي مستنداً على باب غرفته

محطات مميزة في حياته

كان الاهتمام الإعلامي بأديب عباسي لا يرقى إلى المستوى الذي يليق بمكانته وانتاجه الفكريّ، ويُعزى ذلك إلى عدة أسبابٍ منها شخصيته التي امتازت بالزهد وعدم اللهث وراء تسويق الذات. في أواسط السبعينيات قام أحد الصحفيين من جريدة الرأي بإجراء مقابلةٍ مع أديب عبّاسي، وبعد نشر المقابلة أحدثت ضجّة في الأوساط الثقافية والإعلاميّة، وسُلِّطَت الأضواء عليه لأوّل مرّة بهذا القدر، وكان من تداعيات هذه المقابلة أن زاد الاهتمام به إعلاميًا على صعيد الإذاعة والتلفزيون والصحف المحلّية، كما نُظِّمَت له مجموعة من الندوات العلمية في عدّة محافظات منها إربد وعمّان.

تفضل جلالة الملك الراحل الحسين بن طلال – رحمه الله – بتكريم أديب عباسي بمنحه وسامًا ملكيًا تقديرًا لمكانته الأدبية وأثره الفكريّ القيّم ، وفي العام 1995 تبرّع سموّ الأمير الحسن بن طلال وليّ العهد – آنذاك – بمبلغٍ ماليٍّ شهريٍّ لأديب عبّاسي وذلك لتغطية نفقات علاجه أثناء إقامته في المستشفى في السنوات الأخيرة من عمره، ولقد كان سموّ الأمير شغوفًا بكتابات أديب عبّاسي، حيث استعار سموّه مجموعة من مخطوطاته باللغة الإنجليزيّة من وزارة الثقافة ليطّلع عليها، اهتمامًا من سموّه بالانتاج الفكريّ والأدبي لعبّاسي.

حياته الشخصيّة

عاش أديب عباسي حياته زاهدًا في بيته الذي وُلِد فيه، وهو بيتٌ بُني أواخر القرن التاسع عشر، واهتم بانتاجه الفكريّ بعيدًا عن الأضواء وحبّ الظهور. كما عُرِفَ عنه قربه من الناس وتواجده في مناسباتهم وتواصله معهم، تمامًا كما هي شخصيّة الأردنيّ المتفاعل مع بيئته والمنتمي إليها مهما بلغ نسيجه الفكريّ من التعقيد. ولم يكن له مزاجٌ غذائيٌ غير الذي يعرفه الأردنيّون في كل بيوتهم، لكنه كان ميّالاً إلى الطعام النباتي أكثر من الحيوانيّ، الأمر الذي يُضاف إلى مميزات زهده وتواضعه وانشغاله بالفكر أكثر من أي شأنٍ من شؤون الحياة اليوميّة، رغم توفّر الامكانيات المادّية لديه للعيش برفاه أكثر.

لم يتزوّج أديب عباسي طيلة حياته، لأنه كان يرى في الحياة عذابًا لا يريد أن يتسبب به لأطفاله في حال أنه تزوّج، ولربما أيضًا أنه كان يعي تعقيدات حياته الشخصية وعدم قدرته على القيام بواجبات الارتباط بالزوجة بسبب انكبابه على الانتاج الفكريّ والأدبيّ. وبالرغم من موقفه الحازم تجاه الزواج إلا أنه وفي إحدى قصائده التي كتبها في العقد التاسع من عمره لام نفسَه على هذا القرار فقال :

عسى الكربَ الذي أمسيتُ فيهِ              يجيئ وراءَه فرجٌ قريبُ

بموتٍ أو حياةٍ لا توالى                        لنا فيهِ بلا عدٍّ كروبُ

وبعد الكلِّ يأتينا مُضاعًا                       أضعْناهُ بحمقٍ لا يتوبُ

كزوجٍ والبنينَ وكلِّ نجلٍ                      كما يختارَهُ أبدًا نجيبُ

كان أديب عبّاسي إنسانًا وادعًا مع البيئة التي يعيشها، وكانت صديقاته الحمائم التي عاشت في “العقد”، بيته، ولم تتركه حتى بعد وفاته، وقال فيها قصيدة جاء في مطلعها :

فيمَ النواحُ لديكما الجنحانُ             يا جارَتيَّ، وباعَها الإنسانُ

بدماغِه، لا بورِكَت من صفقةٍ            أبدًا، لو فيها انبرى سَجّانُ

كما كانت له أسرةٌ من القطط التي تعيش معه وبلغ عددها تسعًا، كُنَّ يشارِكنَه الجلوس والطعام، وفي يومٍ من الأيام تعثّر أديب عباسي بمدفأة الحطب، فاضطر للبقاء في الفراش لمدّة من الزمن، ولاحظ أن واحدةً من القطط حزينة لبقائه في الفراش، فقال القصيدة “أنا وأسرتي من الهررة” التي جاء فيها :

قالوا على الهرّات تحنو               مثلما يحنو على أبنائهم آباءُ

قلتُ : الذين عرفتُهم أبدًا               بهم غدرٌ كما تغدرُ الرقطاءُ

أما لنا الهرّاتُ فهي مُحِبّةٌ              مهما عَرَتْ سرّاءُ أو ضرّاءُ

بل أنّ منها مَن بَكَت كصغيرةٍ         لما عثرتُ وطالَ بيَ استلقاءُ

وفاته

عانى أديب عباسي في سنواته الأخيرة من أمراض الهرم والشيخوخة، وأقام إثر ذلك في المستشفى، وقد كُتِبَتْ تفاصيل الرعاية السيئة التي عانى منها أديب عباسي في الصحف فأثارت اهتمام المسؤولين وعلى رأسهم ولي العهد آنذاك سموّ الأمير الحسن بن طلال.

 أديب عباسي في فراش المرض

دأبت على رعايته ابنة أخيه السيّدة يسرى عبّاسي، التي ربطتها منذ طفولتها عاطفة مميّزة بعمّها الذي كان يبادلها ذات الشعور العائلي الدافئ والخاص، فكتبَ لها كلمة وداع وشكر على رعايتها له :

أرجّي اليُمنَ واليسرَ المُرجّى                  لأهلِ البِرِّ في الكربِ الشديدِ

أرجّيه ليسرى مُذْ رَعَتْني                      ثلاثَ سنينَ في كربٍ مديدِ

تُوفّي رحمه الله عام 1997، وكان قد تبرّع بقرنيّتيه بعد وفاته، وأبصر شخصان الحياةَ من جديد بفضل سلوكه الذي يجسّد كرم الأردنيين وإنسانيّتهم، كما أوصى أن يُدفَن في قبرٍ متواضعٍ يُشاد ببعض تركته، وأن يُكتَب على القبر بيتان من الشّعر يجيب فيهما على أسئلة الناس التي ألحّوا بها عليه عن عدم زواجه :

إنّي شقيتُ ولمْ أُرِدْ             مِثلي هُنا يشقى بَنيّ

أدنى الدُّنى أبدًا لهُ              ذو العقلِ والسّعيِّ الأبيّ

أعماله

لأديب عباسي ستُ وتسعون مجلداً و مخطوطاً غير مطبوع ولا منشور، وهناك كتب احتوت هوامشها على نقد و كتابات بعضها قد سُرق .
لم ينشر للعالم الأردني أديب عباسي إلا بعض الكتب كان أبرزها عودة لقمان كتاب في حكمة الانسان بلسانه وعلى لسان الحيوان وسائر الكائنات و بنيات الطريق : خواطر وآراء في الحياة والأخلاق والاجتماع والفلسفة .

الغلاف الأول للنسخ القديمة من عودة لقمان

المراجع والمصادر

  1. مقابلة لفريق عمل إرث الأردن مع السيدة يسرى عباسي، الحصن، 2017 .
  2. مقابلة لفريق عمل إرث الأردن مع الدكتور مازن مرجي،الحصن،2017 .
  3. النمري ، ناصر(1998) أي الكونين هذا الكون، دار الكرمل، عمّان .
  4. النمري، ناصر(1987) أديب عبّاسي فلسفته العلمية والأدبية، دار الكرمل، عمّان .

الأديب والفيلسوف الأردني أديب عباسي

Scroll to top