مقدمة

يُعدّ المهباش أحد أهم مقتنيات البيت الأردني في كافة المناطق الأردنيّة، وهو الأداة التي تُستخدم لطحن حبوب البُن بعد حمسها (تحميصها) استعدادًا لطبخها وتحضير القهوة الأردنيّة؛ التي لها مكانة مرموقة في قيم الضيافة الأردنيّة تتخطّى كونها مشروبًا للضيافة وترتبط بما حمّله الأردنيّون للقهوة تاريخيًا من المعاني والدلالات والقواعد التي تحكم إعدادها وتقديمها وشربها، حتى باتت القهوة الأردنية “مفتاح السلام والكلام” وميزانًا لتقدير المواقف ولغةً تختصر الكثير من الشرح والتوضيح لإيصال الكثير من الرسائل في الفرح والحزن والسّلم والحرب.

والمهباش هو كتلة خشبيّة أسطوانيّة الشّكل في ثلاثة أرباعها السفليّة وقطرها 30 سم، ومخروطيّة الشّكل في ربعها العلويّ الذي ينتهي بفتحة قطرها حوالي  8 إلى 10 سم، وتمتد هذه الفتحة في عمقها إلى داخل الكتلة الخشبيّة بما يساوي ثلثي ارتفاعها الذي يكون بمجمله حوالي 35 سم. وللمهباش يدٌ خشبيّة على شكل أسطوانة رفيعة قطرها أقل من قطر فوهة المهباش بما يسمح لها بالدخول إلى عمقه، وطولها حوالي 80 سم. ويُطلق على المهباش تسميات عدّة منها : الجرن، النجر، الهاون، المدق. أما يد المهباش فتُسمّى بالأردنية “إيد المهباش”، أو “إيد الجرن”.

التسمية

جميع تسميات المهباش الأخرى (الجرن، المدق، النجر، الهاون)؛ تفضي إلى معنىً واحدٍ وهو طحن وتفتيت الحبوب التي توضع بداخله لهذه الغاية. لكن تسمية مهباش؛ وهي لفظة تعني في اللغة النحوية (جَمَعَ)، وعليه فإن المهباش هو الوسيلة التي يُجمَع بها الناس وتتم دعوتهم من خلالها لأمرٍ ما، كما أن الرواية الشفوية تقول أن شيخ إحدى العشائر كان لديه خادمً اسمه مهباش، كلما أراد أن يجمع أفراد عشيرته أرسل مهباش لينادي بهم، وبعد موت مهباش استعان الشيخُ بأخيه، فلم يكن يجيدُ ما كان يقوم به أخوه، فأشار عليه الناس للضرب بالجُرن والاستعانة بها كوسيلة للفت انتباه الناس إلى بيت الشيخ ودعوتهم إليه، وحصل أن سُمّي الجرن آنذاك بالمهباش، تكريمًا وتخليدًا لمرسال الشيخ.

الاستخدامات

للمهباش عدة استعمالات نشأت وتطوّرت حسب الحاجة من عدمها وخضعت لتبدّلات وتغيّرات النمط الاقتصادي والاجتماعي في الأردن، وهي كما يلي :

الاستخدام النفعي : وهو الغرض الأساسي الذي استخدم الأردنيون من أجله المهباش، لطحن حبوب القهوة بعد حمسها بالمحماسة. ولهذه الغاية؛ اقتنى الأردنيون المهابيش في بيوتهم، وبنوعٍ خاصٍّ في المضافات وبيوت الشيوخ، ووضعوه في الزاوية المخصصة لإعداد القهوة، وتاريخيًا؛ فإن هذه المهمّة يقوم بها الرجال حصرًا لما فيها من مشقّة إشعال النار وطحن القهوة قبل طبخها وتقديمها للضيوف. ويُدعى الشخص الذي يقوم بإعداد القهوة “القهوجي” أو “الفداوي”، وهو بالضرورة يتقن دق المهباش بحرفية ومهارة عالية إلى جانب تميّزه بإعداد القهوة بالمقادير والمعايير الدقيقة التي يحرص الأردنيون على تطبيقها للوصول إلى أفضل نكهةٍ يمكن تقديمها للضيوف، وعلى الرّغم من أهميّة المهباش ومكانته إلا أن الفداوي الذي يتسبب بكسره خلال النجر يحصل على مكافأة خاصّة وهي عبارة عن رداء يُسمى “لبسة الجرن”، وذلك لأن كسره دليلٌ على كرم صاحب البيت الذي لا تنطفئ ناره ولا تهدأ مهابيش بيته عن طحن القهوة خلال تحضيرها المتواصل إكرامًا للضيوف.

الاستخدام الجمالي : ويُقصد به الموسيقى الايقاعيّة التي يُشكّلها ويرتجلها الفداوي خلال طحنه للقهوة بالمهباش، وهو سلوكٌ طوّره الإنسان الأردني على مرّ الزمن لتحويل العمل الروتيني (طحن القهوة يوميًا) إلى مساحة جماليّة يستخدم خلالها ضربات المهباش بالتعبير الجميل عن استمتاعه بإعداد القهوة للضيوف الذين لهم ولضيافتهم قدسية فائقة في الناموس الأردني.

الاستخدام الديكوري : مع تفوّق الماكينة الكهربائيّة وتطوّر المعدّات التي سارع الأردنيون لاستخدامها لتحضير القهوة في سياق تفاعلهم الإيجابي مع تطوّرات العصر وتمسّكهم بتقاليد ضيافة القهوة، لم يكونوا ليتخلّوا عن المهباش؛ فتحوّل الأخير إلى تحفة جماليّة يتم عرضها في المضافات على اعتبار أنها ترمز لهذه الأداة التي رافقت أجيال الأردنيين في حياتهم اليوميّة واهتمامهم بإكرام الضيف وحفاظهم على تقاليد القهوة الأردنية المتوارثة، فأصبح المهباش تحفة يتم تزيينها بالزخارف التراثيّة وترصيعها بالأحجار الكريمة وتلبسيها بالفضّة والذهب، كما أن المهابيش القديمة التي ورثها الأردنيّون في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين من أجدادهم المباشرين أصبحت تُعرَض كتحفة تذكارية وتاريخيّة بالنظر إلى عمرها وارتباطها بذكرى الجد أو الأب.

صناعة المهباش

تُصنع المهابيش من الخشب الخام الذي يؤخذ من جذوع الأشجار الحرجيّة، وتتباين أنواع الأخشاب بحسب التنوّع البيئي في الأردن مما يجعل لبعض أنواعها أفضليّة أكثر من غيرها نظرًا لجودتها ومزاياها التي تتناسب مع معايير صنع المهباش وكيفيّة استخدامه :

  • البطم : يُعتبر خشب البطم الذي ينمو في مناطق مختلفة في شمال وجنوب الأردن، أفضل الأنواع التي تُستخدم لصنع المهباش وذلك بسبب صلابة الطبقة السوداء التي في داخل الساق أو الجذع، وهذه الصلابة هي سرّ الصوت الرنّان الذي ينتج عن عملية الطرق. كما أن خشب البطم لا توجد فيه الكثير من الشقوق التي تسرّع من اختراقه بالسوس والحشرات، إلى جانب أنه يحتمل عمليات الزخرفة والحفر وقلّما يتأثّر بمتغيّرات الطقس من الحرارة والبرودة على مرّ الزمن.
  • البلّوط : يمتلك خشب البلوط المميزات التي تجعله من الأخشاب الشائعة في صناعة المهباش وغيره من الأدوات الخشبيّة، فهو منتشر بكثرة في الأردن، وقادر على أن يكون مثاليًا كالبطم كمادة خام لصناعة المهباش الذي يتم طحن القهوة به لمرّات عديدة في اليوم، ما يتطلب الصلابة وقدرة التحمّل كالتي يتمتّع بها خشب البلّوط.
  • الزان : يُعد خشب الزان من الأنواع ذات الجودة نظرًا لصلابته وعمره الطويل وقدرته العالية على تحمّل مختلف العوامل التي تؤدي بالعادة إلى تلف الخشب أو تكسّره، وهو خشب مقاوم للتسوّس.
  • الخرّوب : يتم استخدام خشب الخرّوب في صناعة المهباش كبديلٍ عن البطم في حال عدم توفّره، وتنمو أشجار الخرّوب في وسط وشمال الأردن، ويحتاج إلى سنة من التجفيف والتخزين ليصبح صالحًا لصناعة المهابيش منه، ويتميّز بلونه الأحمر ومقاومته النسبيّة لعوامل الطقس المختلفة والتشقّق.
  • السّدر : وهو خشب صلب لونه أحمر ويتواجد في مناطق مثل العقبة والأغوار.
  • السنديان : يُعتبر السنديان أقل صلابة من البطم، لذا فهو يُستخدم أكثر في صناعة يد المهباش على اعتبار أنه لا يؤذي المهباش خلال طحن القهوة بداخله، ويتمتّع خشب السنديان بمتانة تجعل منه أكثر ملائمة لاستخدامه في صناعة يد المهباش واحتمال تكرار الطرق والطحن.
  • المشمش : بالرغم من عيوب خشب المشمش المتمثّلة بسرعان تلفه وقابليّته للتسوّس والتشقّق، إلا أنه ذو منظرٍ جميلٍ وينتج عن استخدامه في صناعة المهباش تحسين نوعيّة صوت الطرق وجعله رنّانًا أكثر من خشب البطم.
  • الكينا : تنمو أشجار الكينا في مناطق مختلفة من الأردن، ويمتاز بطبقة حمراء بداخله وبمرونته التي تمنع تسوّسه وتشقّقه، وهو من أرخص أنواع الأخشاب نظرًا لخفّته وانعدام قوّته، واستعماله مقصور على الأغراض التجارية.
  • التوت : يعتبر خشب التوت من أكثر الخيارات التجاريّة رواجًا، لأنه خفيف وسريع الكسر، ولا يُستخدم في صناعة المهابيش المخصّصة لإعداد القهوة، وإنما لأغراض الزينة فقط.

تجدر الإشارة إلى تعرّض الثروة الحرجيّة في الأردن مطلع القرن العشرين إلى الكثير من الاعتداءات الهمجية التي قام بها جنود الاحتلال العثماني لصالح مد سكّة حديد القطار العسكريّ، وذلك بالضرورة ترك أثرًا سلبيًا على توفّر الأخشاب اللازمة للعديد من الصناعات ومن ضمنها المهباش، وهذا ربما ما يدلّ عليه لجوء بعض الأردنيين إلى استخدام بقايا ذخائر المدفعية ( الفشك والقنابل ) التي كان الاحتلال العثماني يُلقي بها على المدن والقرى الأردنيّة، وتحويلها إلى جرن حديدي كبديلٍ مؤقتٍ عن المهابيش، وهو ما يؤشر بالضرورة إلى سلوك الأردنيين في سرعة تكيّفهم مع صعوبة الظروف وحفاظهم على تقليد طحن القهوة حتى في ظل عدم توفّر الأدوات التقليديّة لهذه الغاية.

أجزاء المهباش

يتكوّن المهباش من قطعتين رئيسيتيّن لا يُلحق بهما غيرهما، هما : بدن المهباش (الجرن)، ويد المهباش (العصا أو إيد المهباش)، وفيما يلي وصفاً تفصيليًا للأجزاء الداخليّة لكل قطعة :

البدن

  1. قاع المهباش : وهي القاعدة ذات الشكل الدائري في أسفل البدن والتي توضع على الأرض.
  2. الطوق السفلي : حلقة دائريّة تعلو القاع.
  3. صحن المهباش : تجويف داخلي يُحفر في بدن المهباش من الجوانب، ولكل مهباش أربعة تجاويف لها أغراض جمالية إلى جانب أنها تساهم بالتخفيف من وزنه عند الحمل.
  4. عمود المهباش : توجد في بدن المهباش أربعة أعمدة تتباين في ارتفاعها من المهباش إلى الآخر بما يتناسب مع حجمه.
  5. الكرش : وهو الجزء النافر من وسط البدن، ووظيفته أنه يُعطي للمهباش شكله الكمّثري.
  6. الخصر : يوجد الخصر أعلى الكرش، ويعطي للبدن شكلاً جميلاً ويساهم بالتخفيف من وزنه.
  7. الطوق العلوي.
  8. الوجه : هي المساحة التي تفصل بين الطوق العلوي والفوهة أو الفتحة التي تدخل فيها يد المهباش.
  9. الفوهة : وهي فتحة المهباش، عبارة عن فتحة دائرية قطرها 7 سم، ومنها تدخل يد المهباش إلى الداخل لطحن حبوب القهوة.
  10. صفرة المهباش : تُضاف رقائق الألمنيوم أو النحاس، أو الفضّة والذهب في بعض الحالات الترفيّة، تُحفر عليها الزخارف للزينة.
أنواع الزخارف التي تُنقش على المهباش

11. يد المهباش : وهي العصا الخشبية التي تُستخدم لطحن الحبوب التي توضع داخل تجويف البدن، وتجدر الإشارة إلى أن يد المهباش لا تُصنع عادة من نفس الخشب الذي يُصنع منه البدن وذلك كي لا يؤثر ذلك على قاعدة المهباش بفعل تكرار الطرق وشدّته، لذا يُفضّل أن تُصنع من خشب خفيف وليّن وأقل جودة من خشب البدن، حتى وإن أدّى ذلك لتلف اليد بشكلٍ أسرعٍ؛ فإن صناعة اليد أقل كلفةً وجهدًا من صناعة البدن نفسه. ومكوّنات يد المهباش هي :

  1. المدقّة : وهي المسافة التي أسفل عصا المهباش بطول 25 إلى 30 سم، وهي الجزء من اليد الذي يدخل بالكامل إلى فوهة المهباش ويقوم بسحق وطحن حبوب القهوة.
  2. الجوزتان السفليّة والعلويّة : وتكون المسافة بينهما بما يعادل قبضة اليد التي تُمسك العصا، ووظيفة الجوزتان هي منع يد الإنسان من التحرّك للأسفل والأعلى خلال عمليّة الطحن. وعليه فيمكن القول أن المنطقة التي بين الجوزتين هي ممسك يد المهباش.
  3. الأسوارتان السفليّة والعلويّة : وما بينهما كرشة اليد لحفظ توازن الشخص الذي يدق، ولها وظيفة جماليّة.
  4. القمبور : شكل أسطواني في أعلى يد المهباش.

المهباش، فلسفة وموسيقى

طوّر الإنسان الأردني عبر السنين روتين تحضير القهوة وطحنها بالمهباش، إلى موسيقى إيقاعيّة خالصة، ومع مرور الوقت، أصبح “دقّ القهوة بالمهباش” مساحة يوميّة من الإبداع الجمالي وبث الأصوات الإيقاعيّة في فضاء المكان الأردني الهادئ والمفتوح، دائمًا، للضيوف والتعاليل على أنغام الربابة وغناء السّامر والهجيني.

يُشكِّلُ الإيقاع، إلى جانب اللحن، العنصرين الأساسيّين التي تعتمد عليها الموسيقى بالمجمل، وحين ننظر إلى الإيقاعات التي تصدر من المهباش والتي إن أمعنّا فيها السّمع بصفة التّحليل والتأمل نجد أنّها إعادة تدوير عفويّ لنبض “مطاردة الخيل” في بعض الأحيان، نجدها نظامًا إيقاعيًا متكامل الأصوات، وعلى اعتبار أن الألحان تتكوّن من مزيج يخلط بين الصوت والصّمت، فإن صمت البوادي والأرياف الأردنيّة في الزّمان، مع أصوات غليان السوائل في الدلال، إلى جانب البيئة الصوتيّة المزدحمة بعبارات الترحيب ونبرة الأنس والموالفة بين الناس الذين تجمعهم المودّة؛ كلّها تشكّل مع إيقاعات المهباش موسيقى من نوعٍ خاصٍ، لها سحرها ووقعها وفلسفتها الخاصّة التي تعبّر عن ذروة من ذرى الارتياح السلوكيّ والذي يؤشّر على النزعة نحو أزلية التجذّر المتأتّية من إدراك هذا الإنسان الأردني للتراكم الحضاريّ الذي يشعر به ولم يقرؤه في كتبٍ عن التاريخ، وإنما يجده في فطرته السليمة.

والمهباش كآلة موسيقيّة، هو صوت النداء الجميل والإعلان مساحة الضيافة المفتوحة للجميع، وهي مساحة ثابتة وهامّة في كل بيت أردنيّ، وتجدر الإشارة إلى أن المهباش يعكس صورة من صور التعبير الفردي عن الجمال في الأردن، لذا فإن الناس يميّزون أسلوب دقّاقي المهابيش عن بعضهم البعض، خصوصًا أولئك المحترفين في تنويع الإيقاعات وزخرفتها، ويُعتبر الذين يُعرف عزفهم بالمهارة التي تخلو من الخطأ وخصوصًا التي تشتمل على حركات جريئة ودقيقة جدًا، بمثابة فنّاني استعراض يقدّمون عروضهم الممتعة يوميًا خلال تحضير القهوة.

عندما نستعرض مكوّنات المهباش كآلة موسيقيّة، فإنه ومن المثير للإعجاب، أن القهوة تعتبر إحدى مكوّناتها إلى جانب بدن المهباش ويده، وذلك يُعزى إلى أن المهباش لا يُدَق بغير حبوب القهوة المحموسة أو لغير هذه الغاية، كما أن القهوة هي التي تعطي المهباش الطابع الصوتي الخاص به وتميّزه. لذا وكنتيجة؛ يمكننا القول أن مكوّنات المهباش كآلة موسيقية هي : بدن المهباش، يده، والقهوة.

اهتم الفنانون الأردنيّون بصوت المهباش، فاستخدموه رمزًا للموسيقى الشعبيّة كمؤثرٍ صوتيٍّ في العديد من الأعمال الفنيّة، على رأسها سيمفونيّة بترا التي كتبها المؤلف الأردني المايسترو هيثم سكّريّة مطلع القرن الواحد والعشرين، واستخدم فيها المهباش كآلة موسيقيّة، وكانت هذه المرّة الأولى التي ترافق فيها آلةٌ موسيقيّة شعبيّة الأوركسترا السّيمفوني في عملٍ فنّي ذي طابعٍ عالميّ.

المراجع

  • طبازة، خليل، دراسة ميدانيّة لحرفة صناعة (المهباش) التقليدي الأردني، 1997، مجلّة البلقاء، العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، المجلّد (7)، العدد 1، 2000، البلقاء، الأردن.
  • سليمان، وليد، لنشرب القهوة المرّة، 2017، جريدة الرأي، عمّان، الأردن.
  • المهباش، الموقع الإلكتروني لمديرية التراث غير المادي، وزارة الثقافة، عمّان، الأردن.
  • بحث آداب القهوة، موقع إرث الأردن.

المهباش

رجم (برج) الملفوف جبل عمان

مقدمة

في المصطلح الشعبي الأردني تطلق كلمة رجوم على الكثير من الرقم الحجرية الأثرية، وكان الأردنيون يعاملونها بشيء من الاهتمام، ولم يظهر حالات من التعدي عليها، حيث بقي العديد منها على حاله منذ آلاف السنوات إلى اليوم دون أي اعتداء بشري، ولقد سميت العديد من المناطق بناء على وجود هذه الرجوم، مثل رجم الشامي ورجم الملفوف في عمان (أحد الأبراج العمونية).

ولقد وجد في مناطق المملكة الأردنية العمونية، العديد من المواقع الأثرية التي أطلق عليها الأردنيين الرجوم، ومن ضمنها ما لفت انتباه الباحثين، وبدؤوا بدراستها وأطلقوا عليها اسم الأبراج العمونية، عندما استطاعوا تحديد الحقبة التاريخية التي تعود لها هذه الأبراج.

لقد شكلت الأبراج الأردنية العمونية قضية اشكالية لدى الباحثين المختصين، حيث أنها تدل على نمط عمراني متناسق، وقد اختلف الباحثون على أسباب بناء هذه الأبراج واستخداماتها.

في هذا البحث سوف نبين وجهات النظر المختلفة حول استخدام هذه الأبراج، كما سنذكر أسلوب بنائها، ومواقعها، وسنأخذ برج خلدا كحالة دراسية لنوضّح تصميمه وأسلوب بنائه.

الأبراج الأردنية العمونية – مواقعها وتصاميمها

تقع أغلب الرجوم العمونية في حدود محافظة العاصمة – مدينة عمان الحالية، وتتركز معظمها في مناطق عمان الغربية تحديدا، على تلال أو تلاع مشرفة تحيط بها أراض واسعة تحتوي على مصادر المياه وذات تربة خصبة، ومن هذه الأبراج:

  1. برج خلدا (غرب العاصمة الأردنية عمان)
  2. برج الملفوف (في وسط العاصمة الأردنية عمان، منطقة جبل عمان بالقرب من الدوار الرابع)
  3. رجوم أبو نصير (وهي بقايا عدة أبراج عمونية في منطقة أبو نصير شماليّ العاصمة الأردنية عمان)
  4. رجوم الصويفية وعبدون (وهي بقايا أبراج عمونية في منطقتي الصويفية وعبدون غرب العاصمة الأردنية عمان)
  5. رجم القويسمة (وهو بقية برج عموني في منطقة القويسمة شرق العاصمة الأردنية عمان)
  6. رجوم الحنو (وهي رجوم لأبراج عمونية في منطقة الحنو/ البلقاء)

ولقد قسمت الأبراج العمونية بناء على تصاميمها إلى نوعين رئيسيين:

رجم (برج الملفوف) جبل عمان
  • الملفوف: حيث صمم هذا النمط من الأبراج العمونية بشكل دائري أو اسطواني، وسمي شعبياً بالملفوف، واعتمدت هذه التسمية من قبل الآثاريين، ولقد أخطأ بعض علماء الآثار الأجانب التسمية في بعض المواقع وترجموه إلى الإنجليزية “cabbage” أي نبات الملفوف وهو خطأ بالترجمة ليس إلاّ.
  • القصر: ويعني الشكل المربع أو المستطيل، حيث بنيت العديد من الأبراج العمونية على شكل مربع أو مستطيل ودرجت تسميتها بالقصر.

وهنالك أيضاً شكل ثالث أكثر ندرةً للأبراج العمونية، وهو خليط ما بين الملفوف والقصر.

الأبراج العمونية – أسباب بنائها واستخداماتها

المغفور له الملك عبدالله الأول في زيارة لبرج الملفوف جبل عمان خمسينيات القرن الماضي، جريدة الرأي

لقد تعددت النظريات حول أسباب بناء أجدادنا الأردنيين العمونيين لهذه الأبراج وماهية استخداماتها، ولكن برزت نظريتان رئيسيتان حول هذه الأبراج في المجتمع البحثي، النظرية الأولى وهي الأقدم، ترى أن الأردنيين العمونيين قاموا ببناء هذه الأبراج لأسباب دفاعية كونها بنيت من حجارة ضخمة مشذبة نسبياً، و بارتفاعات عالية قياساً لمباني ذلك الزمن، كما أن المواقع التي بنيت بها هذه الأبراج تعتبر مواقع استراتيجية تشرف على المناطق المحيطة بها.

إلا أن الباحثين المتأخرين ونتيجة للتطور العلمي في دراسة البقايا الأثرية، ودقة التنقيبات الأثرية، وجدوا بذور عنب وزيتون مكربنة تؤرخ للملكة الأردنية العمونية، فاستنتجوا أن هذه الأبراج تعتبر وحدات زراعية متكاملة يسكنها المزارعون ويخزنون محاصيلهم الزراعية بها، وتقوم هذه الوحدات بتزويد العاصمة الأردنية العمونية ربة عمون باحتياجاتها من محاصيل زراعية.

ولكننا نرى أن هذه الأبراج خدمت الغرضين في آن، حيث أنه مما لا شك فيه أن هذه الأبراج تحمل صفات دفاعية على درجتين، الدرجة الأولى حماية المزارعين أنفسهم من الأخطار المحيطة سواءً من قبل السارقين أو الغازين القادمين من الحدود الشرقية للمملكة الأردنية العمونية، كما تحميهم من الأخطار الطبيعية سواءً كانت مناخية أو مرتبطة بالحيوانات المفترسة، أما على الدرجة الثانية فهي وحدات استطلاع متقدمة تستطيع كشف الجيوش القادمة من مسافات بعيدة، ومتانة بنائها تمنحها أفضلية دفاعية قادرة على تعطيل تقدم العدو إلى حين إبلاغ القيادات المسؤولة في العاصمة الأردنية العمونية آنذاك ربة عمون.

أما على الجانب الآخر فإنه من الواضح أن هذه الأبراج كانت تشكل وحدات زراعية مكتملة قد تكون الأساس للإنتاج الزراعي في المملكة الأردنية العمونية.

وصف تقريبي للأبراج العمونية – برج خلدا نموذجاً

  • وصف البرج من الخارج
الدرج الصعد على جدار ملفوف برج خلدا من الجدار الخارجي، المومني، أحمد محمد خير (1996).

يعتبر برج خلدا أحد الأبراج العمونية ذات التصميم الثالث الذي يدمج بين الملفوف والقصر، حيث يتكون برج خلدا من مبنى دائري (ملفوف) يتصل به من الشمال الشرقي مبنى مستطيل (قصر)، منفصلان تماماً، ولقد استخدم في بناء البرج حجارة كلسية وصوانية كبيرة الحجم و مشذبة تشذيباً بسيطاً.

لقد بلغت مساحة برج خلدا 190 م2، توزعت بين البناء الدائري (الملفوف) 78.57 م2، فيما شغل البناء المستطيل (القصر) باقي المساحة.

ولقد تباين عرض جدران المبنى الدائري (الملفوف) بين جدار وآخر، وقد غطيت هذه الجدران بقصارة من الخارج، وبنى المبنى المستطيل (القصر) من نفس نوع الحجارة، وكانت جدرانه تميل 15 درجة جنوباً وشرقاً، وعند التقاء جدران المبنيين من الجهة الجنوبية وجدت بقايا مدخل للبناء الدائري (الملفوف)، في حين لا يمكن التعرف إلى مدخل المبنى المستطيل (القصر)، ولا الآلية التي تجمع المبنيين سوياً، ويرتفع المدخل عن الأرض حيث وجد بقايا درج صاعد وآخر نازل على الجدار الخارجي للمبنى بالقرب من المدخل.

  • وصف البرج من الداخل
مخطط لبرج خلدا، المومني، أحمد محمد خير (1996)، العمونيون، رسالة ماجستير غير منشورة، الجامعة الأردنية، عمان، الأردن.
  1. المبنى المستطيل (القصر): قسم القصر من الداخل إلى أربع مساحات منفصلة، عن طريق أربع جدران داخلية، تستند إلى عمدان حجرية، المساحة الأكبر كانت ساحة داخلية في الزاوية الجنوبية الغربية للقصر حيث احتلت ثلثي مساحة المبنى، ويعتقد أن هذه الساحة كانت مكشوفة حيث لا وجود لعمدان ترفع السقف، ولربما كانت تستعمل للنشاطات اليومية، كما عثر بداخلها على بقايا بذور عنب وزيتون مكربنة،  فيما توزعت باقي المساحة على ثلاث غرف متقاربة المساحة.
  2. المبنى الدائري (الملفوف): يتكون المبنى الملفوف من ستة غرف، إحداها غرفة مركزية وهي الأكبر مساحةً تتوسط المبنى وتنفذ مباشرةً إلى الخارج حيث أن مدخلها هو المدخل الرئيسي للمبنى، فيما تحتوى على أربعة أبواب جانبية تفضي إلى الغرف الخمس المتبقية.

فيما كانت الغرفة الفرعية الأولى على شكل مثلث شرق الغرفة المركزية ويدخل عليها عبر أحد الأبواب الفرعية الأربعة، وتفضي هذه الغرفة من جهتها الغربية عبر مدخل صغير إلى الغرفة الفرعية الثانية التي جاءت أيضاً على شكل مثلث، بينما تفتح الغرفة الثالثة ذات الشكل المستطيل مباشرةً على الغرفة المركزية من نهاية جدارها الشمالي، عبر أحد الأبواب الفرعية الأربعة، أما الغرفة الرابعة فهي مثلثة الشكل أيضاً وتفتح على سابقتها عبر مدخل صغير، في حين جاءت الغرفة الخامسة على شكل مستطيل وهي أصغر الغرف.

الخاتمة

إن دراستنا للأبراج العمونية تتعدى بعدها العمراني، لتصل إلى المدلول الحضاري العميق الذي تشكله هذه المباني، فهي تؤشر إلى عدة مناحٍ حضارية، فبدايةً تعددت هذه الأبراج وفق نمط بنائي متطابق إلى حد بعيد، في توزيع يتسق مع جغرافيا المنطقة، يدل على نمط عمراني موحد يعكس طابعاً واحداً يميز هذه المملكة الأردنية الضاربة في الرقي والتقدم، في حين أن مواقع هذه الأبراج وارتفاعاتها تشي بتفكير عسكري استراتيجي متقدم على عصره، وقد يكون الغرض الإنتاجي الزراعي لهذه الأبراج دليلاً قاطعاً على تخطيط لوجستي بعيد المدى.

لقد قام أجدادنا الأردنيون الأوائل بواجبهم تجاه أنفسهم و تجاهنا وتجاه التاريخ على أكمل وجه، ونحن في هذه المحاولات البحثية نسعى لأن نتلمس دروب الصعود والرقي الحضاري على سبر أجدادنا في مختلف العصور، لنهيّء للأجيال القادمة أرضية معرفية صلبة يستطيعون البناء عليها لمستقبل يليقُ بماضينا المشرف.

المراجع

  • كفافي، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية والحديدية) ، دار ورد ، عمان .
  • الموسى، سليمان (1985)، عمان عاصمة الأردن، منشورات أمانة العاصمة، عمان.
  • المومني، أحمد محمد خير (1996)، العمونيون، رسالة ماجستير غير منشورة، الجامعة الأردنية، عمان، الأردن.

الأبراج الأردنية العمونية

نقلت دراسات وتنقيبات أجريت في بلدية بيت راس الموقع الأثري إلى مستوى أكثر أهمية وتفرد مما يمكن توقعه. حيث كشفت هذه التنقيبات على نقوش يونانية وآرامية وقطع الفريسكو (جبصيات) في الموقع الأثري في بيت راس.

منظر عام لبيت راس

وقد أكد علماء الآثار أن مدفن بيت راس سليم تقريبا ويؤرخ للفترة الرومانية تحديدا من القرن الأول إلى الثالث ميلادي.

تشاركت دائرة الآثار الأردنية (DoA) ومشروع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية للتراث الثقافي المستدام من خلال إشراك المجتمعات المحلية (SCHEP) في مشروع مدفن بيت راس الذي أسفر عن اكتشافات عظيمة وخطط جديدة طرحت في حفل أقيم في موقع المدفن.

اكتشف المدفن عبر الصدفة المحضة عام 2011، وقد أكّد حينها مدير دائرة الآثار الأردنية أن جدران المدفن مغطاة بالرسومات واللوحات الملونة والنقوش ذات قيمة تاريخية مهمة للغاية حيث قال أن المكتشفات مثيرة ومهمة للغاية. وأن المدفن فريد من نوعه في المنطقة خصوصا بحجمه وعدد قطع الفريسكو التي تغطي الجدران. وقد أشارأيضا إلى أن المدفن يمتد على أكثر من 60 متر مربع وقد حظي بتوثيق مكثف وعمليات ترميم ومحافظة ودراسة علمية من قبل عدد كبير من العلماء الأردنيين والإيطاليين والفرنسيين والأمريكيين.

كما أكّد أن مشروع ضريح بيت راس يعبّر عن شراكة استراتيجية فريدة بين دائرة الآثار الأردنية  ومشروع الوكالة الأمريكية والمؤسسات الدولية مع أكثر من عشرين مختص في الترميم والمحافظة على الآثار والإرث الثقافي خصوصا فيما يتعلق باللوحات والنقوش.

المدفن الذي اكتشف صدفة أثناء العمل على شبكة الصرف الصحي في بلدية بيت راس

والمدفن عبارة عن مقبرة رومانية لأحد الوجهاء الرومان حيث أشارت النقوش بأن الميت كان مقدرا من قبل المجتمع ويتمتع بمكانة مجتمعية عالية.

كما أكدت معالي وزير السياحة والآثار الأردنية في حينه  على أهمية هذا الموقع وهذه المكتشفات “سيعزز هذا الضريح المكتشف صورة الأردن كما سيعزز التجربة السياحية في إربد”

بينما صرح منسق المشروع السيد جهاد هارون بأن اكتشاف الموقع يلقي الضوء على فترة مهمة من التاريخ الأردني خلال العصر الروماني خصوصا لاحتوائه على 52 نقش يوناني وآرامي والكثير من قطع الفريسكو بتفاصيل دقيقة واضحة لم تذكر سابقا في السجلات التاريخية.

 لوحات فريسكو مليئة بالتفاصيل وجدت سليمة في المدفن

يشرك مشروع الوكالة الأمريكية المجتمع المحلي كخطوة نحو مزيد من التقدم، بتدريب 25 شخص من دائرة الآثار الأردني في إربد والخريجين الجامعيين في مجال المحافظة على المواقع الأثرية وفقا للبيان الذي أصدرته الوكالة.

كما شارك في المشروع فريق من الخبراء من المعهد العالي للحفظ والترميم في روما، والمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، والمعهد الوطني الإيطالي لحماية البيئة والبحوث.

بينما قالت باربرا بورتر ، مديرة المركز الأمريكي للبحوث الشرقية، أنه عندما يتم اكتشاف مثل هذه الآثار الرومانية الهامة عن طريق الصدفة، قد يكون الحفاظ عليها صعباً، مشيرًة إلى أن الفريق والمجتمع المحلي استطاعوا التغلب على العديد من الصعوبات وحماية الموقع من خلال دعم المجتمع المحلي وتعاونه مع الشركاء في المشروع.

وأضافت بورتر في بيان “هذا هو سبب سعادتنا بتنفيذ مثل هذه المشاريع وخلق فرص عمل للمجتمع” ، مشيرة إلى أن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في الشرق الأوسط (USAID SCHEP) مخصصة للتنمية الاقتصادية والمجتمعية من خلال الحفاظ على التراث الثقافي والتعليم في المجتمعات المحرومة في جميع أنحاء الأردن.

المصدر: خبر منشور على الموقع الالكتروني لصحيفة جوردان تايمز الأردنية

http://www.jordantimes.com/news/local/findings-irbids-bait-ras-tomb-are-unique-region

اكتشافات جديدة فريدة من نوعها بالمنطقة في بيت راس

مقدمة

تقدم مؤسسة إرث الأردن سلسلتها البحثية الجديدة المتعلقة بالإرث الغذائي والإنتاجي الأردني تزامناً مع افتتاح مطعم إرث الأردن والذي جاء ليتوّج جهود خمس سنوات من العمل والزيارات الميدانية لمختلف المناطق الأردنية لتوثيق الأطباق الأردنية المصنوعة من منتجات محلية، وطرق إعدادها الأصلية كما عكفت على ذلك الجدّات والسيدات الأردنيات لسنين طويلة، بشكل يضمن استدامة هذا الإرث والحفاظ عليه، من خلال حرص المؤسسة على الحصول على المنتجات من السيدات الأردنيات اللاتي ما زلن يحافظن على أصالة هذه الأطباق ويقمن بإنتاج المواد اللازمة لذلك منزلياً في تسع محافظات أردنية، تتناول هذه السلسلة البحثية كافة تفاصيل المطبخ الأردني، وما يلتصق بعملية إعداد وتناول الطعام من أبجديات الضيافة وطقوس اجتماعية تمتد لتاريخ طويل من الإسهام في الإرث الغذائي الإنساني الممتد لأكثر من أربعة عشرة ألف سنة  وهو تاريخ أقدم بقايا خبز تم العثور عليها في العالم على الأرض الأردنية.

تمهيد

يعتبر المنسف سيد المائدة الأردنية والحاضر الأول في كل الطقوس والمناسبات الاجتماعية، ويرتبط المنسف بالعديد من الطقوس والدلالات والمعاني، فإلى جانب الدلالات على كونه من أقدم الأطباق التي عرفتها التجمعات الإنسانية في المنطقة والتي ارتبطت بالمناسبات الاجتماعية وتقاسم الطعام وتشارك الموارد والأكل من نفس الطبق، فهو يعكس أيضاً بنية المجتمع الأردني التي تبرز فيها قيم الأرض والإنتاجية من خلال تمازج المكونات والمنتجات الزراعية والرعوية، فالمنسف لا يمكن أن يكون طبقا صحراويا، فالقمح والأرز لا ينبت في الصحراء بالحد الذي يجعل منه جزءاً أساسياً من الغذاء اليومي للبدوي، ولا المزارع المتفرغ لعملية الزراعة في حقوله وبساتينه قادر بسهولة على تأمين لحم الضأن ولبنها، لكن عندما تلتقي نكهة صحراءنا وجميدها مع حبوب سهلنا وصنوبر ولوز جبلنا فيسيل اللبن نهراً خالداً يروي قصة الكرم الأردني الذي لا يجف والتاريخ المستمر من الوجود الإنساني الذي لم ينقطع على الأرض الأردنية.

تاريخ المنسف . . . حكاية نصر ومجد

تشير الرواية الشعبية المتداولة حول المنسف بالاسم الحالي إلى ما قبل نحو 3200 عام، خلال فترة المملكة الأردنية المؤابية على وجه التحديد حين نجح الملك الأردني ميشع في تحميل الغذاء مضامين سياسية واستخدمه كوسيلة للاستفتاء الديمقراطي ليتمكن بحكمة القائد الذكي من معرفة مدى استعداد الرأي العام والرضا الشعبي لخوض معركة مصيرية ضد خصومهم التاريخيين بني إسرائيل في مملكة يهوذا على جزء من أراضي غرب نهر الأردن (الأراضي الفلسطينية المحتلة)، والذين كانوا في حالة حرب وعداء دائم مع الأردنيين المؤابيين، وكانت عقيدتهم تحرّم طهو اللحم باللبن فبحسب التوراة  وفي سفر الخروج الإصحاح (23) تقول آية (19): :أَوَّلَ أَبْكَارِ أَرْضِكَ تُحْضِرُهُ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ إِلهِكَ. لاَ تَطْبُخْ جَدْيًا بِلَبَنِ أُمِّهِ.” ، وكانت العلاقات الأردنية المؤابية مع الجار السيء تمر بفترات من الشد والرخاء كما هي السياسة  في كل مكان فبعد سنوات من الحرب والدماء والتضحيات، كانت تمر فترات من الهدنة والمعاهدات، وخلال احدى تلك الفترات اكتشف الأردنيون المؤابيون نوايا بني إسرائيل للغدر والانقضاض على المملكة الأردنية المؤابية ، فما كان من الملك الأردني ميشع حين وصل الخبر الى مسامعه إلا الإعداد لحرب استباقية.

الكرك 1900 – مدخل مدينة الكرك عبر نفق يؤدي إلى القلعة وسورها الممتد حول المدينة وهو نفق يعتقد بأنه يعود لحقبة المملكة الأردنية المؤابية

 لكن هذه الحرب كانت تتطلب استعداد الجميع وموافقتهم وبالتالي التضحية من الجميع والاستعداد لتحمّل النتائج وأولهم الملك الأردني ميشع نفسه الذي ضحّى بأحد أبناءه على أبواب قلعة مؤاب التاريخية في الكرك، فأمر الشعب بطهو اللحم باللبن وفي ذلك نسف لعقيدة بني إسرائيل، فتم ذلك وأرسل أعينه بين الناس وتأكد أن الجميع مستعد للمعركة المصيرية، وكان الانتصار المخلّد حتى يومنا هذا في مسلّة ميشع الحجرية المحفوظة في متحف اللوفر والذي دوّن فيها الملك الأردني المؤابي ميشع انتصاره على بني إسرائيل بقيادة ملكهم “عمري” ، وكتبت باللغة المؤابية القديمة، وجاء فيها ما يلي وفقاً لترجمة النقش كما وردت عند الدكتور يحيى العبابنة في كتابة اللغة المؤابية في نقش ميشع:

مسلة الملك الأردني المؤابي ميشع الموجودة حالياً في متحف اللوفر في باريس وهناك جهود متواصلة لاستعادتها

” أنا ميشع بن كموش ملك مؤاب الدبياني ، أبي ملك على مؤاب ثلاثين سنة، أنا ملكت بعد أبي، وأنشأت هذا المكان المرتفع نصب لكموش “إله المؤابيين” بقرحة ، لأنه أعانني على كل الملوك ، ولأنه أراني في أعدائي (أتاح لي فرصة التغلب على أعدائي) ، أما عمري ملك إسرائيل فانه عذب مؤاب أياما كثيرة ، حتى غضب كموش على أرضه ، فأعقبه ابنه وقال سأعذب مؤاب في أيامي ، قال :فنظرت إليه وإلى بيته ، وإسرائيل باد باد إلى الأبد (ضربتهم ضربه قاضية ) ورث عمري كل أرض مهدبا ، وسكن بها في أيامه ، ونصف أيام ابنة أربعين سنة ، وأرجعها كموش في أيامي ، فبنيت بعل معان ، أنشأت بها اشوح (بركة ) ، وبنيت قريتان وكان آهل جاد (من بني إسرائيل ) يسكنون في أرض عطرت (مدينه) من زمن بعيد ، فعمر ملك إسرائيل عطرت ، فحاربت المدينة أخذتها (فتحتها) وقتلت كل آهل المدينة ، فقرت عين كموش ومؤاب ، ورددت من هناك هيكل دوده، وسحبته أمام كموش بقريت (اسم مدينة ) وأسكنت آهل شران وأهل محرت ، فقال لي كموش اذهب وخذ نبه (اسم جبل) من بني إسرائيل ، فسرت بالليل ، وحاربت بها من مطلع الفجر إلى الظهر ، وأخذتها ، وقتلت جميعهم وهم سبعة آلاف رجل وامرأه وجارية ، وأحرمتهم (قدمتهم قربان) لعشتر كموش ، وأخذت من ذلك المكان يهوه وآتيت بها إلى كموش ، وملك إسرائيل عمر يهص (اسم مدينة ) وسكن بها وهو يحاربني ، فطرده كموش من أمامي ، وأخذت من مؤاب مائتي رجل من عظمائهم ، وسيرتهم إلى يهص وأخذتها (فتحتها) فضمتها إلى ديبان ، وأنا بنيت قرحة وحمت هيعرن ، وحمت هعوفل (أسماء ثلاث مدن ) فبنيت أبوابها وبنيت أبراجها ، وأنا بنيت بيت الملك ، وأنشأت البركتين بقرب المدينة ، ولم توجد بئر في داخل قرحه ، فقلت لشعب: اجعلوا لكم آباراً في بيوتكم ، وأنا قطعت الأشجار على أيدي الأسرى من بني إسرائيل ، وأنا بنيت عراعر (مدينه ) وأنا مهدت الطريق إلى أرنن (وادي الموجب كان قديماًً يسمى نهر أرنن أو نهر أرنون) ، وأنا بنيت الأنصاب ، لأنه كان (تخرب) ، وبنيت بصرى (مدينه )لأنها كانت خرابا ديبان خمسين ، لأن ديبان خضعت لي وأنا حكمت وأنا بنيت الأنصاب ، لأنه كان (تخرب ) ، وبنيت بصرى (مدينه ) لأنها كانت خرابا  مائة المدن إلى ضمتها إلى الملكة …وانا بنيت مهدبا وبيت دبلتان وبنيت بعل معان ، وسيرت إليها ..غنم البلاد وحورنان (مدينه )  وأسكنت و.. فقال لي كموش انزل لتقابل كموش، فنزلت.. كموش في زمن و.. من ثم ..وأنا.. “

وادي الموجب 1900 نهاية القرن التاسع عشر شمال الكرك وعرف بنهر أرنون وقد تم ذكره في مسلة ميشع

ومن هنا كانت إحدى العوامل التي ربطت المنسف بالمجد والنصر والفخر في تاريخ الأردنيين الناصع بالتضحية والاستبسال في رد المطامع والاعتداءات والحفاظ على سيادتهم الوطنية في وجه أعتى الممالك والإمبراطوريات بما فيها الإمبراطورية الرومانية التي منحت الأردنيين حكمهم الذاتي رغم امتدادها الشاسع.

أدلة فخارية: المنسف الأردني طبق تاريخي جماعي عمره 7000 عام على الأقل

كان ما تقدم جزءاً من السردية الشعبية الأردنية المتداولة حول المنسف والمدعومة بنصوص دينية، لكن من وجهة نظر علمية نجد أن الأدلة الأثرية والدراسات الإثنو-أثرية لا تنفي ذلك بل تؤكده وتزيد عليه بأن جذور المنسف أقدم من ذلك التاريخ وتمتد لتصل الى 5000-6500 ق.م (أي قبل أكثر من 7000 سنة من الآن على الأقل)، وذلك مع ازدهار المجتمعات الزراعية على الأرض الأردنية والتي تعتبر عين غزال في عمان الشرقية أولها وأقدمها عالمياً.

ووفقاً لدراسة إثنو-أثرية أعدّها الأستاذ في علم الآثار أ.د زيدان الكفافي والتي استندت على عدة دراسات وتقارير عن فحوصات الكربون المشع المعاير، تشير النتائج أن الأواني الفخارية والمكوّنة من أطباق كبيرة الحجم والتي ظهرت لأول مرة في المنطقة الأردنية تعود لفترة العصر الحجري الحديث الفخّاري نحو 6000-6500 قبل الميلاد، حيث تتجاوز أقطار الأطباق أكثر من 30 سم، وهو ما يعني أن المجتمعات الأردنية الزراعية القديمة عرفت الأكل الجماعي واستخدمت أطباق تتسع لكميات من الطعام الكافي لأكثر من شخص يأكلون من نفس الطبق في ذات الوقت، وفي الدراسات الإثنو-أثرية يتم الاستناد لمثل هذه الأدلة في تحليل السلوكيات الاقتصادية والاجتماعية للحضارات والجماعات التي صنعت هذه الأدوات واستخدمتها في حياتها اليومية ومناسباتها الاجتماعية وطقوسها الدينية، وبمقارنة الأواني الفخارية الواسعة التي تم اكتشافها بكثرة في مناطق خربة الزريقون شمالاً وتل أبو الخرز في وادي الأردن نرى أنها تشبه إلى حد كبير طبق تقديم “سدر” المستخدم حالياً، وتشبه إلى حد أكبر النسخة الأقدم والأكبر من سدر المنسف الذي كان مستخدماً خلال القرن الماضي وما سبقه.

نماذج الأطباق التي تم العثور عليها في موقع عين غزال شرق عمان والتي تعتبر الأقدم من نوعها بهذا الحجم على مستوى العالم
نماذج من الأطباق التي تم العثور عليها في موقع تل أبو الخرز في الأغوار الأردنية والتي تؤرخ لـ 5000 ق.م

وكما هو معلوم يجب تقديم وجبة المنسف في طبق دائري كبير يسمح بتناول عدة أشخاص للطعام في نفس الوقت وتؤكد الدراسة أن هذا الوعاء صُنع لأول مرة في المنطقة خلال فترة العصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري ب (حوالي 7200 – 6500 ق.م.) حيث تم إثباته في المواقع المذكورة، وفي دراسة إثنو-أثرية سابقة للدكتور زيدان عن عين غزال تم نشرها عام 1986، يتأكد أنه وخلال الفترة نفسها تم تدجين الماعز والأغنام والخيل في موقع عين غزال، وكانت نسبة 71٪ من العظام المكتشفة هناك تعود إلى حيوانات مدجّنة ومستأنسة، وتمثل عظام الماعز 95٪ من اجمالي ما تم العثور عليه من عظام الحيوانات، وهذا يعني أن السكان كان لديهم فائض من هذا الحيوان “الماعز” في ذلك الوقت بالشكل الذي يسمح لهم باستخدامه كمصدر للغذاء، حيث لم يكن يؤذ اقتصادهم أن يقوموا باستهلاكه إذا تم ذبح بعض منها في مناسبات خاصة. وبعبارة أخرى، يمكن القول إن أوائل من قاموا بتحضير وجبة المنسف كانوا أولئك الذين يستطيعون صنع مثل هذا القدر الكبير، وهم الأردنيين القدماء الذين جمعوا ما بين الفلاحة والبداوة في آن واحد (مزارعي حبوب ومربي ضأن وماعز) وهنالك، بالطبع، انزياحات بدوية (يربون الإبل أيضاً. وهو ما يسمح لهم بمساحة تحرّك أوسع) وفلاحية (يزرعون البساتين والخضروات ويربون البقر والدجاج أيضاً كما، تحديداً، في الشمال الأكثر اقتراباً من عالم الفلاحين) ولكن الجدير بالملاحظة أنه لا يوجد دليل حتى الآن على وجود مثل هذه الأواني الكبيرة في المناطق الصحراوية، حيث يستخدم البدو من سكان هذه المناطق لحم الجمل بشكل أكبر في مناسباتهم وذلك بعد طهوه بالماء ويكون بذلك طبق الثريد المختلف عن المنسف، لأن لحم الجمل إذا تم طهوه باللبن يشد ويقسو ويصبح من غير المستساغ أكله.

عمان 1936 – الولائم التي اعدت لضيافة الأمير سعود – الملك لاحقا – ولي عهد المملكة العربية السعودية آنذاك أثناء زيارته إلى الأردن

مراسم تحضير وتقديم المنسف

يترافق تحضير المنسف مع أجواء خاصة، فالمنسف هو سيد المائدة كما ذكرنا ويندر أن يقدم لجانبه طبق آخر في نفس التوقيت، ويتشارك الجميع متعة تحضيره، فيتولى الرجال مهمة ذبح الأغنام أو الماعز وتقطيعها وطهوها في حين تقوم النساء بالعجن والخبز وتحضير الأرز، ويعتبر المنسف أداة للتعبير عن الشعور، فهو حاضر في المناسبات السعيدة والحزينة، ففي الفرح يقدم المنسف ويعتليه رأس مرفوع الرأس للأعلى وفي العزاء يكون الرأس منكس للأسفل تعبيرا عن حالة الحزن، وحين يقدم للضيف يترافق ذلك مع أجواء من البهجة والترحيب، وحين تطبخه الأسرة يكون ذلك في يوم الجمعة وهو نهاية الأسبوع ويوم اجتماع العائلة، حيث يندر فعلاً أن يتم تناول المنسف بشكل فردي باستثناء بعض المطاعم الحديثة اليوم، وفي المناسبات الاجتماعية الكبرى درجت العادة أن تقوم العائلات الأردنية باختيار أكثر أفرادها خبرة لإدارة عملية تحضير المنسف أو استئجار أمهر الطهاة المختصين بالذبح وإعداد المنسف من المشهود لهم بالخبرة والكفاءة في الجودة والمذاق، وفي الأفراح تحديدا تقدم المناسف ترافقها الأهازيج الشعبية .

عمان 1935 – تحضير المناسف لتقديم الولائم بمناسبة زفاف الأمير طلال – الملك لاحقا

تقنيات التعامل مع المنسف كطعام للضيافة

ومن التقنيات والقواعد التي يجب الإحاطة بها والانتباه لها عند دعوتك لتناول طعام المنسف ما يلي:

  • يقدم المنسف في سدر دائري مفتوح كدلالة على المشاركة والمساواة، ويوضع تحته خبز الشراك الرقيق ثم الأرز أو البرغل، ويكلل بقطع اللحم ومن ثم يغطىّ بأرغفة خبز الشراك من الأعلى، ويقدم اللبن جانباً.
  • يؤكل بأصابع ثلاثة من اليد اليمنى (الإبهام والسبابة والوسطى) أو بأصابع اليَد كلها ويُعاب أن يصل الطعام إلى بطن اليد أو ظهرها، وفي وضع انتصاب القامة ” وقوفاً “، ويفضّل وضع اليد اليسرى الى الخلف.
  • يبدأ تناول المنسف بعملية ” الفجولة ” وهي بضع حركات لتحريك الغماس سواء كان من الجريش أو الأرز، ليتشرّب اللبن ويتمازج معه ويبرد قليلاً.
  • يتم سحب كمية بسيطة من الغماس باستخدام طرف الأصابع وبعض من الآدام (خبز الشراك) وصناعة كرة صغيرة من الأرز والخبز واللحم، ويتم دفعها بأصابع اليد لتدخل في جوف الفم، دون أن تلمس الأصابع الشفاه.
  • يتولى المعزّب مهمة استدامة تشريب (سكب) لبن المنسف للضيوف بناء على رغبتهم وبعد سؤالهم.
  • يُراعى أثناء تناول الطعام الحفاظ على جودته ونظافته ووفرته، حيث يؤكل المنسف على طورات (جولات أو مجموعات) متتالية من الآكلين، وهي عادة درجت قديماً يتم تشارك الطبق “السدر” الواحد من عدة مجموعات، في المناسبات الاجتماعية ذات الحضور الواسع، تعرف المجموعة الواحدة من الآكلين بـ “الطور أو الطورة”.
  • يوضع رأس الذبيحة مطهواً على المنسف في وضع الإعلان عن المناسبة، فيكون مرفوعاً لأعلى في الأفراح (قِرى العرس)، ومعكوفاً للأسفل في الأتراح (العزاء).
  • من المعيب عموما على الضيف أن يمس رأس الذبيحة، ومن المتعارف عليه أن يتولى هذه المهمّة المعزب أو كبير القوم، نظراُ للدلالة الرمزية للرأس، كما يعتبر قطع لسان الذبيحة وتقديمه للضيف نوعاً من التوجيب له، ولذلك دلالة رمزية أحياناً حينما يقدم اللسان لشاعر أو خطيب مشهود له بالفصاحة، كذلك لا ينبغي أن تُمد يد الآكل إلى اللحم في أعلى سدر المنسف أو اللحم عند جاره، لكن الرجل الكريم هو الذي يقطع اللحم من أمامه ويدفنه تحت الجريش ( مشتقات القمح المطهو ) أو الأرز، ليجد الآكل اللاحق – الطورة – شيئاً يأكله، أو أنه يعطي اللحم لمن هو خلفه من المنتظرين في الطورات التالية ومن الأمثلة الأردنية الدارجة عن هذه الحالة ؛ المثل القائل : ( اقعد خلف الرجال، وشوف ويش يمدّولك ) .
  • يعاب على الضيف إذا بان قاع الطبق ( بطن السدر ) لما فيه من دلالة على جشع الضيف، بل يستخدم الآدام (ما يغمس به من خبز الشراك)، ولا تغمس اللقمة كاملة بالخبز، بل طرفها فقط، ولذلك يعتبر في قانون الضيافة الأردني أن نقص الخبز عار على المعزّب، بينما نقص الغماس عارٌ على الضيف.
  • من دلالات كرم المعزّب تشريب ( سكب ) السّمن الذائب ( السّمنة السائلة ) أمام الضيف إضافة إلى عدد جيّد من أرغفة خبز الشراك، ومن زيادة كرم المعزّب عند بعض العشائر الأردنية وضع الزُّبد ( الزبدة ) أمام الضيف، وذلك لأن هذه المواد الثلاثة هي مونة أبناء العشائر الأردنية – تحديدا القبائل البدوية – لما تمثله من رمزية لأمنهم الغذائي.
مادبا 1937 – ضيوف في ضيافة الشيخ مثقال الفايز بني صخر يتناولون طعام الغداء

ومن محظورات أكل الطعام عموما والمنسف تحديدا:

  • اللهمطة: السرعة وعدم التركيز
  • الفغم: أكل الخضار بصوت مرتفع
  • اللغ: سكب اللبن بسرعة ولهوجة
  • الفنش: التغميس بلا أدب
  • اللشوطة: التعجّل على الأكل الحار (الساخن)
  • اللش: كثرة الأكل
  • مسح اليد بطرف الطبق
  • إعادة اللقمة أو بعضها بعد أخذها
  • إعابة الطعام بعد تناوله سواءً بحضور المعزّب أو غيابه؛ يقول المثل الأردني : ( الزاد ما يتفتّش ) أي لا يصح ذكر تفاصيله وعيوبه؛ ومن أجل ذلك يقول المعزّب ( كُل من حلالها وأترك حرامها ) كناية عن حُرمة إعابة الطعام.

للمزيد عن قواعد وأبجديات وآداب الضيافة والطعام عند الأردنيين أنقر هنا .

فرصة للتذوق

يمكنكم الاستمتاع بتجربة منسف العيش الأردني – أحد الأشكال الأكثر قدما للمنسف – بطعمه المميز وبطريقة تحضيره الأصلية في مطعم إرث الأردن، والذي تم افتتاحه مؤخراً بعد رحلة بحثية استمرت لأكثر من 4 سنوات في المطبخ الأردني والهوية الغائية تم جمع أكثر من 63 طبق متنوع من مختلف المحافظات الأردنية ويتم إعدادها بمنتجات بيتية من 9 محافظات وعلى يد أمهر الطهاة من أبناء هذه المناطق.

المراجع:

  • حتّر، ناهض ، أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان: الأردن
  • بالمر، كارول (2008) الفلاحون والبدو في الأردن: دراسة اثنوجرافية في الهوية الغذائية، تعريب عفاف زيادة، مؤسسة أهلنا للعمل الاجتماعي والثقافي. عمان: الأردن
  • خريسات، محمد عبد القادر (2012) المسيحيون في قضاء السلط، عمان، الأردن
  • عبابنة، يحيى. (26-5-2009)، مقال منشور في صحيفة الدستور الأردنية بعنوان ” مسلّة ميشع الحجر المؤابي نقشُ الكرامة لملكٍ حرّر أرضه من الاحتلال
  • الزعبي، عبد الناصر (17-6-2013) مقال في موقع جراسا بعنوان: ” طهي المنسف الأردني.. معاداة سافرة لليهود”
  • Kafafi, Zeidan (2014)Sharing Food Eating from One Plate: An Ethno-Archaeological Study, Adumatu.
  • العبادي، أحمد (1994) المناسبات عند العشائر الأردنية، دار البشير.

دراسة إثنو-أثرية: الأردنيين القدماء تناولوا المنسف قبل أكثر من 7 الآف عام

تغني النساء البدويات التهويدات لأطفالهن  ليناموا وقد يحكين أيضا بعض القصص. وهنا، سنسرد بعض القصص التي حكتها جدة المؤلفة غزوة العون  لها وهي طفلة ترجمتها إرث الأردن عن كتابها الصادر باللغة الإنجليزية “جمال جدتي البدوية”.

نصيحة أبوية من أب لابنه

نائما في خيمته، يعطي الأب الذي يعرف أن أجله قد اقترب ابنه ثابت ثلاثة نصائح: “لا تخبر سرك لامرأة، لا تكن جارا لشيخ القبيلة ولا تزوج أختيك لرجل غني”

وخلال سنة، توفي والد ثابت. لم يصغ الابن لنصيحة والده. زوّج واحدة من أخواته لرجل غني والأخرى من رجل فقير. وبعدها انتقل ليعيش بجانب الشيخ.

لاحظ ثابت أن الشيخ يمتلك نعامة. لم يكن مقتنعا بنصيحة والده بألا يجاور الشيخ، لذا سرق الطير وأعطاه لأمه لأنها كانت فقيرة ولا تملك طعاما. أخبر والدته بقوة دهن النعام على الشفاء من الأمراض وأكد عليها بأن لا تخبر أي أحد. لقد وثق بها بألا تفشي السر.

اكتشف الشيخ بأن نعامته قد سرقت، فقصد عرافة لتخبره من سرق النعامة. كانت العرافة ذكية للغاية فأخبرت الشيخ بأن ابنها مريض جدا ويحتاج دهن النعامة كي يشفى. سألت العرافة الجوار إن كان هنالك من يملك دهن النعامة وعرفت أن والدة ثابت تمتلك بعضا منه. وهكذا عرف الجميع بأن ثابت هو من سرق النعامة وأعطاها لوالدته.

رجل بدوي وجمله

حبس الشيخ والدة ثابت وقال أنها مدينة بعشرة جمال جزاء النعامة المسروقة. صاح الشيخ في ثابت وأخبره بأنه سيقتل أمه إن لم يسترد النعامة، حزن ثابت كثيرا وعندها أدرك مغزى نصيحة والده وأن تلك النصيحة كانت صادقة.

استطاع ثابت التفكير في خطة لإنقاذ أمه. أخذ واحدا من جماله وحلق وبره وصب عليه زيتا ليبدو مريضا وبهذا قد يشفق عليه أصدقاؤه والعائلة. ذهب ليزور شقيقته التي تزوجت رجلا غنيا. أما  الرجل الغني فقد صرخ في ثابت بعدما رأى جمله المريض وقال بأن عليه الذهاب وإبعاد جمله المريض كي لا يعدي باقي جماله السليمة. عاد ثابت إلى الخيمة دون جمله وأخبر الرجل الغني بما حصل وسأله المساعدة. فلم يعطه الرجل سوى ماعز نحيلة. جر ثابت  الماعز النحيلة والجمل “المريض” وقصد خيمة أخته الأخرى التي تزوجت رجلا فقيرا. في تلك الأثناء أبقى ثابت جمله بعيدا عن جمال قبيلة الرجل الفقير. وعندها سأل الرجل الفقير ثابت لم يبقي جمله بعيدا، طالبا منه أن يقرب الجمل. وعلى الرغم من فقره، كان الرجل كريما للغاية ولم يخف من أن يعدي الجمل “المريض” باقي الجمال. أخبر ثابت الرجل بقصته كلها. قال الرجل بأنه فقير ولكن قبيلته غنية، وستساعده على الحصول على عشرة جمال.

صورة تخيلية لبيوت شعر بدوية أردنية

وأخيرا عاد ثابت للشيخ ومعه عشرة جمال وماعز نحيلة. تفاجأ الشيخ وشعر بالإحراج، لذا أخذ العشرة جمال وأطلق سراح والدة ثابت. وضع ثابت حملين من القمح على رقبة الماعز النحيلة وأعادها لصهره الغني كرد للجميل. ومن ثم أعاد كل الجمال للرجل الفقير وعشيرته وقرر أن يقنع أخته بأن تطلق زوجها الغني. رحل ثابت مع أخته وأمه إلى مكان جديد، ليحظوا ببداية جديدة، كان سعيدا  لأنه عرف بأن نصائح والده الثلاثة كانت صحيحة.

الفتى المعجزة

كان البدو قديما، كباقي المسلمين، يشاركون الحج إلى مكة المكرمة. يسافرون في جماعات على ظهور الجمال في رحلة قد تستغرق ستة أشهر.

وفي سنة من السنين، قرر زوجان قد تزوجا حديثا الذهاب معا. كانت المرأة حاملا ولكنها لم تخبر زوجها أو أهلها بذلك خوفا من أن يمنعوها من الذهاب في تلك الرحلة الطويلة.

كانت المجموعة كريمة وقد عملوا معا بتعاون. وفي أحد الأيام، بدأت المرأة تشعر بآلام المخاض. نادت زوجها وأخبرته بأنها ستلد. تفاجأ كثيرا لأنه لم يعرف أصلا أنها كانت حاملا. ولمشاركتها في الحج، كانت ترتدي ثوبا أبيضا. أخذها زوجها بعيدا عن الآخرين وأنجبت طفلها أخيرا. ولكن ولادتها كانت متعسرة وأليمة لهذا فارقت الحياة. بكى الأب لأنه لم يعرف كيف سيطعم ابنه الرضيع. فوضع ابنه ف القبر الذي حفره لزوجته ظانا بأن الطفل سيموت لا محالة في هذه الرحلة الطويلة دون والدته. عندما عاد للجماعة سألوه عن زوجته. فكذب الرجل عليهم كي لا يفسد الرحلة عليهم.

أكملت الجماعة مراسم الحج وبدأت تتجهز للعودة. وعندما مروا من قريبا من المكان الذي دفن فيه زوجته، لاحظ الرجل دخانا يصعد من المنطقة وفهم أن تلك إشارة أن القبر قريب. لم يشك أي أحد بأن الزوجة كانت قد توفيت.

 وبينما كان الجميع يتناول العشاء، تسلل سرا إلى القبر. قصد القبر مع شيء من تخوف وفضول، ورأى جسد زوجته مغطى بشكل جزئي في القبر. والمعجزة كانت أن ابنه كان مسجى بجانب الزوجة الميتة، كان على قيد الحياة يرضع من  والدته. أخذ الأب طفله وعاد إلى الجماعة. وسألوه عن هذا الطفل الحديث الذي كان متسخا. نظفت واحدة من نساء المجموعة الطفل وأخبرهم هو قصة زوجته وكيف أنه دفنها ووضع الطفل بجانبها ولكنه بقي على قيد الحياة.

ألبس الأب طفله قلادة كي تحميه من الشرور. وكبر الطفل وعاش هو ووالده حياة سعيدة.

قصة الثوب

في الماضي كانت بنات العائلات البدوية الغنية يمنحن كثيرا من الأشياء عندما يتزوجن، كن يحصلن على العبيد الذين غالبا ما يكونون أفارقة. وفي يوم من الأيام تزوجت شابة رجلا من قبيلة أخرى. بعث معها والدها حارسا وجارية ليرافقاها في رحلتها. قادت رحلتها من على الهودج، وأمام الجمل كانت الجارية تقوده. أخذت الرحلة عدة أيام لتصل إلى قبيلة خطيبها. كانت الجارية تغير جدا من العروس الجديدة. وأثناء الرحلة أقنعت الجارية الحارس بأن يذهب، وقالت له بأنها تستطيع حماية نفسها والعروس. أعطت الحارس بعض النقود ووثق بها فغادر.

كانت والدة العروس قد أعطتها عقدا بقوى سحرية تمكنهما من التواصل سوية، تمتلك الأم عقدا آخر لتستطيع العروس محادثة أمها إن طرأت مشكلة أثناء الرحلة.

في يوم من الأيام ذهبت العروس والجارية إلى نهر كي تغتسلا. أسقطت العروس عقدها السحري في النهر عن غير قصد، ولم تستطع استعادته، فأكملت رحلتها. علمت الجارية أن العروس قد أضاعت العقد السحري لذا بدأت بمشاجرتها وإيذائها. استطاعت الجارية أن تبدل الأماكن مع العروس فأخذت محلها.

وفي إحدى الرحلات، قابلوا حطابا فطلبت منه أن يصنع للعروس المسكينة ثوبا من الخشب، العروس المسكينة التي كانت جارية الآن تقود الجمل. أجبرت الجارية العروس على ارتداء الثوب الخشبي. ظلوا يمشون حتى قابلوا تلا من التراب الأبيض. فاستعملته الجارية كي تبدو بيضاء.

سيدات أردنيات بدويات يجمعن الحبوب ويعملن

عندما وصلتا إلى قبيلة العريس  تزوج العريس الجارية على أنها عروسه. وكانت الجارية قد هددت العروس (كي لا تخبر الناس بالحقيقة) كان العريس غنيا لدرجة أنه لم يحتج لجارية أخرى، فعملت عنده العروس الحقيقية كراعية.

بعد فترة، بدأ الجمل الكبير والمفضل لدى الزوج بخسارة الوزن والمرض. غضب الزوج وأراد أن يعرف ماذا حصل لجمله العزيز ولام الراعية (العروس الحقيقة) على ما حصل.

بدأ الزوج يتجسس على الراعية. ورآها تتحدث إلى الجمل. وبعدها خلعت ثوبها الخشبي ولاحظ أنها ترتدي تسعة خواتم في يديها. خلعت الراعية الخواتم التسعة ووضعتهم على شجرة. كان الرجل مدهوشا من جمالها. واكتشف بأن الجمل قد خسر وزنه لأن الراعية أخبرته قصة حزينة وهو حساس للغاية فخسر وزنه حزنا. وخلسة سرق الرجل واحد من الخواتم التسعة. ونادى الراعية. وبعدها قتل الجارية الشريرة ومن ثم تزوج الراعية- العروس الحقيقة.

المصدر:

Aloun, G., Hood, K., The Bedouin beauty of my grandmother (2017) the Hashemite fund for development of Jordan Badia and Ministry of culture

قصص بدوية قبل النوم

تمثال عين غزال، العصر ما قبل الفخاري
The art of Jordan, treasures from an ancient land,edited by Piotr Bienkowski, alan sutton publishing.

مقدمة

مارس أجدادنا الأردنيون الأوائل العديد من النشاطات الاقتصادية عبر التاريخ، حيث بدأوا أولى التجارب البشرية في التأثير بالطبيعة المحيطة، والإنتاج الزراعي، ومحاولات استئناس الحيوانات، لتتطور هذه المحاولات على هيئة قرية عين غزال (العصر الحجري الحديث)، لتكون أقدم تجمع بشري زراعي معروف حتى الآن.

واستمر الأردنيون الأوائل في مراكمة تجربتهم الحضارية، وفي أحد أهم حقولها الاقتصاد، وصولاً إلى عصر الممالك الأردنية الثلاث (أدوم، مؤاب، عمون)، حيث مارس أجدادنا في تلك الحقبة شتى أنواع النشاطات الاقتصادية التي عرفتها البشرية في ذلك الوقت، واستطاعوا تسخير كل الميزات الجغرافية والطبيعية في خدمة مشروعهم الحضاري القائم على وجودهم السياسي.

وقد تميزت المملكة الأردنية العمونية برفاه اقتصادي منقطع النظير في ذلك العصر داخل الإقليم، حيث أكدت المسوحات الأثرية في مناطق نفوذ المملكة الأردنية العمونية وخاصة في العاصمة الأردنية العمونية ربة عمون، وجود بقايا منتجات رفاهية تدل على مستوى اقتصادي مرتفع، وازدهار تجاري وصل حد استيراد بعض أنواع الفخار من قبرص ومصر وغيرها.

عراق الأمير 1900 جنوب غرب عمان وهي من أهم المواقع العمونية

الرعي

كما أسلفنا في البحوث السابقة حول نشأة المملكة الأردنية العمونية، فإن المملكة نشأت من تجمع مدن وقرى وقبائل، جمعها الحس الوطني النامي والمصالح المشتركة وضرورات البقاء، في حين دعت الضرورة الأمنية، بالإضافة للظروف الطبيعية لتطور المجتمعات إلى بقاء بعض القبائل البدوية على حالها، بحيث استوطنت الحدود الشرقية للمملكة الأردنية العمونية، وحافظت على نمط عشائري رعوي، يرتبط بعلاقات وثيقة مع الريف والمدينة الأردنية العمونية، بحيث تقوم هذه القبائل على حماية المنطقة الحدودية للمملكة، وتقوم بتوفير المنتجات المرتبطة بالإنتاج الرعوي، مثل الصوف والجلود والحليب واللحوم، بالإضافة إلى المنتجات النادرة المرتبطة بصيد الحيوانات البرية.

الزراعة

سميت ربة عمون عبر التاريخ بعدة مسميات مختلفة، ومن أهمها مدينة الماء لما تحتويه هذه المدينة من ينابيع وأودية، بالإضافة إلى سيل المدينة الذي يرفد نهر الزرقاء (يبوق)، ولقد عرفت المدينة ومحيطها نشاطاً زراعيا منظماً منذ العصر الحجري الحديث (قرية عين غزال)، وكذلك الأمر فإن المنطقة الواقعة في محيط يبوق (نهر الزرقاء) والمنطقة المتوسطة الواقعة بين حافة هضاب البلقاء الشرقية، وبداية منحدرات وادي الأردن، عرفت مناخاً مشابهاً، وتربة خصبة، استغلها أجدادنا الأردنيون العمونيون في إنتاج محاصيلهم الزراعية، والتربية المنظمة للحيوانات.

ولقد تنوعت المحاصيل التي قام الأردنيون العمونيون بإنتاجها، حيث زرعوا الكرمة والبساتين، والزيتون  في المناطق الوعرة، حيث تم العثور على بذور زيتون وعنب مكربنة في أحد الأبراج العمونية، تدل على انشار زراعة الكرمة والزيتون.

في حين كانت زراعة الحبوب من قمح وشعير وبقوليات تنتشر في الأماكن الأقل وعورة، والجدير بالذكر أن ربة عمون (عمون) اشتهرت لاحقاً بأحد أجود أنواع القمح والذي كان يسد احتياج روما.

وفي معرض الحديث عن الزراعة لدى أجدادنا الأردنيين العمونيين، لابد من الإشارة إلى قارورة تل سيران، التي وجدت أثناء تنقيبات أثرية في أحد التلال داخل الجامعة الأردنية، حيث تعد هذه القارورة من أهم اللقيات الأثرية الخاصة بالأردنيين العمونيين، لاحتوائها على نص كتابي يعد الأطول من بين النصوص العمونية التي وجدت حتى الآن، وقد ذكر في هذا النص أسماء عدة ملوك عمونيين كما ورد في النص أهمية الثروة النباتية والزراعة لدى الأردنيين العمونيين حيث ذكرت الجنان والحدائق، والمياه وجرها في هذا النص، ” …  الحديقة والجنائن والقناة والخزّان يفرح ويبتهج لأيام عديدة وسنين عديدة …”، كما وجد داخل القارورة حبات من القمح والشعير التي تفحمت مع العوامل الزمنية، الأمر الذي يدل على انتاج القمح والشعير بشكل منظم في المملكة الأردنية العمونية.

صورة لتماثيل عمونية، متحف الآثار الأردني/ جبل القلعة

الصناعة

الصناعة هي قمة التطور البشري، حيث تقاس قوة الشعوب وعظمتها بناء على تطورها الصناعي، وفي حين كان الأردنيون الأوائل سباقون إلى الصناعة منذ عصور ما قبل التاريخ، في قرية عين غزال وغيرها، فقد استمر هذا التطور الصناعي بالتراكم وصولاً إلى عصر الدولة الأمة (الممالك الأردنية الثلاث)، حيث نمت الصناعات بأشكالها المختلفة، لتلبية الحاجات الداخلية، بالإضافة لدعم العملية التجارية بالتصدير لبضائع أردنية المنشأ.
وعلى الرغم من شح المعلومات حول النشاط الصناعي في المملكة الأردنية العمونية، مقارنة بشقيقاتها (المملكة الأردنية المؤابية، والمملكة الأردنية الأدومية)، إلا أننا نستطيع ذكر بعض الصناعات، مثل صناعة الفخار، وصناعة التماثيل التي وجدت بقاياها في عدة مواقع أثرية تعود للملكة الأردنية العمونية، كما أن معاصراً للزيتون والنبيذ وجدت أيضا في مواقع مختلفة تؤكد على وجود صناعات غذائية تسد احتياجات المجتمع الأردني العموني، وبالتأكيد فإن أصنافاً عديدة من الحرف، والصناعات البسيطة مورست على نطاق واسع بناءً على ثروات المملكة الطبيعية، واحتياجات الأردنيين العمونيين، مثل الدباغة والنسيج وأعمال البناء وتشكيل الجير، والنجارة، وتطويع المعادن، لسد الاحتياجات الحياتية.

والواضح أن أجدادنا الأردنيين العمونيين قد اهتموا بالنشاط التجاري بشكل أوسع اعتماداً على موقعهم المتميز، ولإحكام سيطرتهم الأمنية على الطرق والمسالك التجارية داخل مناطق  نفوذهم.

مشهد عام لربة عمون، يظهر في الصورة بقايا آثار رومانية (معبد هرقل)

التجارة

استثمر أجدادنا الأردنيون العمونيون موقعهم الجغرافي المميز، وبالأخص موقع عاصمتهم ربة عمون التي تشرف على الطريق التجاري الملوكي، وهو أهم طريق تجاري دولي في تلك الفترة استثماراً جيداً، حيث كانت حرفتهم الرئيسية والتي أسست لحياة الرفاهية التي عاشها الأردنيون العمونيون.

اعتبرت العاصمة الأردنية العمونية (ربة عمون) أحد أهم المحطات التي تمر بها القوافل التجارية على الطريق الملوكي، حيث كانت تقدم الخدمات الرئيسية للقوافل التجارية، من مسكن ومأكل، ومبيت، للتجار وللدواب التي يتم استخدامها في نقل البضائع، كما كانت المدينة سوقاً رئيسياً يبيع بها أجدادنا الأردنيون العمونيون ما يفيض عن حاجتهم من منتجاتهم، ويشترون ما يحتاجون من بضائع التي كانت في معظمها بضائع رفاهية، ومنها على سبيل المثال ما وجد في ربة عمون من بقايا فخار قبرصي متقن الصنع.

المراجع

  • كفافي ، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية والحديدية) ، دار ورد ، عمان .
  • غوانمة، د. يوسف درويش (1979)، عمان حضارتها وتاريخها، دار اللواء للصحافة والنشر، عمان.
  • الموسى، سليمان (1985)، عمان عاصمة الأردن، منشورات أمانة العاصمة، عمان.

المملكة الأردنية العمونية- النشاط الاقتصادي

مقدمة

تقدم مؤسسة إرث الأردن سلسلتها البحثية الجديدة المتعلقة بالإرث الغذائي والإنتاجي الأردني تزامناً مع افتتاح مطعم إرث الأردن والذي جاء ليتوّج جهود خمس سنوات من العمل والزيارات الميدانية لمختلف المناطق الأردنية لتوثيق الأطباق الأردنية المصنوعة من منتجات محلية، وطرق إعدادها الأصلية كما عكفت على ذلك الجدّات والسيدات الأردنيات لسنين طويلة، بشكل يضمن استدامة هذا الإرث والحفاظ عليه، من خلال حرص المؤسسة على الحصول على المنتجات من السيدات الأردنيات اللاتي ما زلن يحافظن على أصالة هذه الأطباق ويقمن بإنتاج المواد اللازمة لذلك منزلياً في تسع محافظات أردنية، تتناول هذه السلسلة البحثية كافة تفاصيل المطبخ الأردني، وما يلتصق بعملية إعداد وتناول الطعام من أبجديات الضيافة وطقوس اجتماعية تمتد لتاريخ طويل من الإسهام في الإرث الغذائي الإنساني الممتد لأكثر من أربعة عشرة ألف سنة  تاريخ أقدم بقايا خبز تم العثور عليها في العالم على الأرض الأردنية.

تمهيد

يعتبر حليب الضأن والماعز والإبل والبقر المقوّم الأساسي الثاني في الغذاء الأردني بعد الحبوب، ويندر أن يتم شربه طازجاً ولكنه يُقدّم أثناء مواسم الحلب دافئاً ومحلّى أثناء الفطور، ويخضع إلى سلسلة من التحولات في عملية المعالجة، وقد ابتكر الأردنيون عبر العصور أساليب لحفظه واستدامته لاستخدامه طوال العام، فمنه الجميد والكشك والزبدة والسمنة وغير ذلك مما سيتم تناوله في هذا البحث المفصل والذي سيتم التطرق من خلال عناوينه إلى الثروة الحيوانية وأهميتها في المجتمع الأردن وسلوكياته الإنتاجية، مروراً بطرق استدامة موارد هذه الثروة واستثمارها، وصولاً لطرق حفظ منتجاتها وتطويرها واستخدامها في الأطباق المتنوعة التي تشكّل جزءاً كبيراً وهامّاً من المطبخ الأردني الغني بالوصفات والمكونات والنكهات.

الثروة الحيوانية في الأردن

في مجتمع انتاجي مزيج ما بين الفلاحة والبداوة كما تم شرحه في بحثنا السابق: ديموغرافيا الهوية الغذائية الأردنية، يُنظر للثروة الحيوانية بأهمية توازي الأرض وذلك في مشهد آخر من تجلي قيم الإنتاجية لدى الأردنيين القدماء الذين كانوا من أوائل المجتمعات الإنسانية التي قامت بتدجين الحيوانات للاستفادة منها، وذلك في منطقة عين غزال الأردنية، والتي تعتبر شاهدة على أهم التحولات الجذرية في حياة المجتمعات البشرية والأنماط المعيشية للناس مع بداية الألف العاشر قبل الميلاد، بعد أن بلغت قرى الصيادين، وتَمثل هذا الانعطاف في الانتقال من حياة الصيد وجمع القوت والتنقل إلى التدجين والزراعة والإنتاج والاستقرار في قرى ثابتة، تعتبر عين غزال أقدمها، ويقع موقع عين غزال، الذي شهد نشأة أول مجتمع زراعي منظم عاش قبل حوالي عشرة آلاف عام، في المنطقة الشرقية من العاصمة عمّان. وتشكل هذه المنطقة نقطة التقاء بين سكان المناطق الجبلية في الغرب والبادية الأردنية في الشرق.

عمان 1936 – سوق الحلال وتباع فيه الأحصنة والمواشي والبقر

وعلى مر العصور، حافظ الأردنيون على الثروة الحيوانية وأحسنوا استدامتها واستخدامها وتدبيرها بما يلبي احتياجاتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتعلقة بالزراعة من حراثة الأرض ودراسة المحاصيل للحصول على الغذاء وصولاً للأمن والمحافظة على مناطقهم في ظل هجمات احتلالية استعمارية متتالية، وصولاً لاستخدامها في التنقل وحتى في المناسبات والطقوس الدينية قبل الديانات السماوية وما بعدها وكذلك فيما يتعلق بالمناسبات الاجتماعية من المهور وطعام الأفراح والأتراح، وحتى فيما يتعلق بالمخلّفات التي يتم استخدامها كأسمدة عضوية أو مصدراً للطاقة، ونستعرض أدناه أبرز وأهم عناصر الثروة الحيوانية في الأردن:

  1. المواشي:

تنتشر تربية المواشي في مختلف أنحاء الأرض الأردنية، وتمتاز المناطق السهلية بتربية الأغنام فيما تكثر تربية الماعز في المناطق الوعرة والجبلية لمقدرتها على التسلّق والتكيّف مع تضاريس تلك المناطق، وقد استفاد الأردنيون من المواشي بكامل تفاصيلها، فمن ألبانها ولحومها صنعوا الغذاء وطوروا منتجات الحليب بشكل يضمن إمكانية الاستفادة منها طوال العام وهو ما سيأتي ذكره لاحقاً بالتفصيل ضمن هذا البحث، واستفادوا من صوفها في لباسهم وأثاثهم المنزلي، وأما من جلودها فقد صنعوا الأحذية والفراء والأدوات المنزلية اللازمة لعمليات تحضير الغذاء.

عمان 1936 – سوق الحلال ويعج بحركة البيع والشراء للمواشي
  1. الإبل

وجدت الإبل في الأردن بأعداد كثيرة، وقد استُفيد منها في التجارة والتنقل والحرب لخفتها في الحركة وتحمّلها للمسافات الطويلة والأحوال الجوية الصعبة، ولما كانت العشائر الأردنية قديماً هي المسؤولة عن تنظيم قوافل الحج وحمايتها وتأمين الحجيج وتلبية احتياجاتهم، من خلال استلامهم من مناطق شمال حوران الأردنية وصولاً للمدينة المنورة جنوباً، في رحلة تتضمن تأمين النقل والحماية والمأكل والمشرب والإقامة في النزل التي تم بنائها على امتداد طريق الحج الملوكي التاريخي بفاصل مكاني يبلغ حوال 50 كم وهي المسافة التي تعادل مسير الإبل في اليوم الواحد، وحتى اليوم توجد فرقة خاصة من القوات المسلحة الأردنية هي فرقة الهجّانة التابعة لقوات البادية الأردنية والتي كانت نواة تأسيس الجيش الأردني.

كما استخدم الأردنيون حليب الإبل ( النوق ) ، وقدموا لحم الإبل في المناسبات الكبيرة ، وفي ولائم عزاء كبار الشيوخ، وفي استقبالهم لكبار الضيوف والوجهاء لديارهم ومضاربهم.

عمان 1941 – قوات الهجانة (فرسان الصحراء) نواة تأسيس الجيش الأردني
  1. الأبقار

اهتم الأردنيون بتربية الأبقار، للاستفادة من لحومها، وحليبها ومشتقاته حيث تمتاز الأبقار بوفرة حليبها طوال العام على عكس المواشي التي يتوفر حليبها خلال مواسم معينة، كما استفادوا من الأبقار والثيران في حراثة الأرض ودرس المحصول وجرّ العربات.

  1. الحمير والبغال

اهتم الأردنيون بتدجين الحمير والاستفادة منها لحاجتهم لها في التنقل وحمل الأثقال وخصوصاً المياه في ظل مرحلة غياب الدولة والخدمات خلال الاحتلال العثماني، كما استخدمت في بعض مجالات الزراعة حيث تتطلب بعض الأراضي حراثة خاصة باستخدام هذه الحيوانات تبعاً لحجم الأرض ومساحتها وتضاريسها ونوع المحصول، كما كانت الحمير تؤجر لنقل البضائع، وتعتبر خياراً اقتصادياً أقل تكلفة مقارنة بالخيول والجمال.

  1. الخيول

ينظر للخيل في الأردن بكونها رمز للفروسية والشهامة والشجاعة، وللخيل رمزية خاصة في وجدان الأردني وأهمية لا تقل أهمية عن الشرف والعرض، وترتبط بها الكثير من الأمثال والقصائد والقصص في الذاكرة والموروث الشعبي الأردني، وقد استخدمت الخيل في الحرب والتنقل، وكانت هناك منافسة لا تقل عما هي عليه اليوم في عمليات بيع وشراء الخيل الأردنية الأصيلة، ولم يقتصر حب امتلاكها على الرجال فقط، بل تعدّى ذلك ليشمل النساء والسيدات وفقاً لما تشير له سجلات دفاتر الضرائب العثمانية كما أن الشراء كان يتم أحياناً على جزء من الفرس أو الحصان بالشراكة مع الآخرين، وتوجد فرقة خاصة بالخيّالة ضمن تشكيلات القوات المسلّحة الأردنية حاليا.

عمان 1918 – فرسان العشائر الأردنية العمود الفقري لقوات الثورة العربية الكبرى
السلط 1920- فرسان من مدينة السلط لحظة وصول المندوب السامي البريطاني
  1. النحل

تشير الكثير من سجلات دفاتر الضرائب العائدة لفترة الاحتلال العثماني أن الأردنيون قاموا بتربية النحل في مناطق عديدة خلال العقود الماضية، وقد ورد في هذه السجلات الإشارة للقواديس والتي تعني خلايا النحل، ولأجران النحل، مما يدل على اهتمام الأردنيين بهذه المادة الغذائية وفوائدها الكثيرة.

  1. الطيور الداجنة

تنوعت اهتمامات السكّان في تربية الطيور الأليفة والداجنة، كالدجاج والأوز والحبش وغيرها، وذلك بهدف الحصول على لحومها وبيضها أو حتى لمجرد التسلية والاهتمام بها.

  1. الحيوانات والطيور البرّية

بالإضافة للحيوانات الأليفة والمدجنة، أشار الكثير من المؤرخين والرحّالة الذين زاروا المنطقة الى العديد من الحيوانات والطيور البرّية، ومنها: الغزلان، وبقر المها، والماعز البرّي (البدن)، والثعالب، والنمور، والفهود، والذئاب، والخنازير البرّية، والضباع، ومن الطيور: الحباري، والحمام، والنعام، والحجل، والقطا.

الرعي

نظراً لأهمية الحيوانات عموماً والمواشي خصوصاً في الاقتصاد الأردني الإنتاجي، أنشأ الأردنيون منظومتهم الاجتماعية الخاصة بهم لإدارة شؤونهم الاقتصادية هذه فوضعوا القواعد والمهام والقوانين والعادات التي تحكم تعاملاتهم المتعلقة بـ “الحلال” وهي لفظة أردنية تعني المواشي في إشارة لأهمية ومكانة وقداسة الثروة الحيوانية كوسيلة للعيش والبقاء، وكانت عملية تربية المواشي والاعتناء بها على شكل “قطعان” مفردها قطيع ويتكون بالمتوسط من مائة رأس يتوكل راعي بمهمة حمايتها والسير بها للمراعي الخصبة في رحلة تمتد لأسابيع، ويحرص الرعاة على إبقاء المواشي في المناطق المنخفضة والدافئة خلال أشهر الشتاء والخريف ويحتمون بالمغر من البرد القارص، وفي أشهر الربيع والصيف يخرج الناس بمواشيهم الى المناطق المرتفعة.

الطفيلة 1916 اطلالة على جبال الطفيلة وراعي غنم يعزف على المزمار
1914 – راعي شاب يعزف ألحانه بالغور الأردني 

وتعتمد عمليّة توظيف الرعاة على عدد الأغنام فإذا كثر عددها (أكثر من 150 غالباً) يتم تعيين راعيين، واذا قلّ العدد وكان متوسطاً يُكتفى براعِ واحد ويمكن ان يتشارك أبناء القرية راعِ واحد لكل مواشيهم اذا كانت قطعانهم صغيرة، ويحصل مقابل عمله لمدة عام في العادة على “فطيم – من الفطام وهو صغير الغنم حديث الولادة الذي انقطع شربه للحليب وبدأ بتناول الأعلاف  ” و 10 شياه، بالإضافة لحصوله على “منايح – من المنحة بدون مقابل” وهي المواشي التي تمنح لفترة مؤقتة لأهل الراعي بغرض رعايتها والاستفادة من حليبها ولبنها وسمنها وصوفها، ويمنح الراعي كذلك الكسوة التي تشمل اللباس والحذاء، وفي الموسم يعود الراعي بأغنامه لبيت صاحبها ليتم حلبها، أما اذا انتهى الموسم فيبقى الراعي مع الحلال في مناطق التعزيب ويتم تزويده بالغذاء والزوّادة من قبل صاحب الحلال.

أما الإبل فلا تحتاج الى الرعي بشكل عام، وكانت تسمّى “إبل همال” حيث يتركها صاحبها في المرعى ويتفقدها بين الحين والآخر وفي ذلك دليل على الثقة والأمان الذي كانت تمنحه المنظومة الاجتماعية لأفرادها، وتوسم المواشي والإبل خصوصاً بوشم العشيرة الخاص، وتمنع قيم الأردنيين الاعتداء على الابل التي ترعى بعيداً عن أصحابها، كما كان يعتبر امتلاك الإبل دلالة على الأصالة، وكانت العشائر الأردنية البدوية تتمايز في عدد الإبل التي تمتلكها، فالأسرة العادية تمتلك حوالي 10 رؤوس بينما الأسر الأقوى مكانة كانت تمتلك ما بين مئة وثلاثمائة رأس منها.

أنظمة التكافل الاجتماعي

في ظل حالة غياب الدولة خلال أربع قرون من الاحتلال العثماني أنشأ الأردنيون العديد من أنظمة التكافل الاجتماعي التي تتضمن مساعدة الفقراء والمحتاجين بطريقة تحفظ كرامتهم، وهنا نستعرض بعض هذه الأنظمة المتعلقة بتربية المواشي وآليات إدارتها واستدامتها وكيفية تشارك الموارد في الاقتصاد الأردني الإنتاجي:

  • المنايح: يعطي للشخص الميسور الفقير عدداً من رؤوس الماشية في بداية موسم الحلب (رأس أو رأسين)، وذلك للاستفادة من انتاجها من الحليب ومشتقاته، وغالباً ما تصبح هذه الأعطية دائمة ولا تسترد.
  • العدايل: وفيه يمنح الشاوي (مالك المواشي الكثيرة)، الشخص المحتاج عدداً من الأغنام يصل لعشرة للاستفادة من حليبها ومشتقاتها ومواليدها الذكور، بينما تعود المواليد الإناث إلى الشاوي.
  • شاة الوحدة: تعطى للفقير كزكاة ولا تسترد.
  • وهناك نظام الشراكة الذي يفوض فيه صاحب الحلال راعياً للاعتناء بأغنامه مقابل نصف الإنتاج من الحليب والصوف والشعر ونحوه وكذلك المواليد.
  • الفلاج / الخدامة: وهو من أساليب المشاركة الرعوية وفيه يأخذ شخص عدد من رؤوس الحلال من صاحبها ويقوم بالاعتناء بها مقابل ثلث انتاجها من الحليب ومشتقاته، بينما باقي الإنتاج من الصوف والمواليد يكون لصاحبها.
عمان 1935 – نحر الجمال وسلخها لتحضير الولائم لضيوف حفل زفاف الأمير طلال بن عبدالله ونلاحظ بالخلفية مصابيح معلقة على أعمدة لإنارة الشوارع
  • ذبائح الولائم وأنواعها

في مجتمع قائم على الاقتصاد الإنتاجي لن يكون من السهل التضحية بوسائل الإنتاج بشكل عبثي وغير محسوب وبدون ضمان الاستدامة للموارد، الشحيحة أصلاً، فكان اللحم لا يعتبر جزءاً من الوجبات اليومية للأردنيين لإتاحة الفرصة للاستفادة من المواشي كمصادر للإنتاج بدلاً من كونها موضع للاستهلاك أما طعام الولائم والمناسبات الخاصة فيتضمن اللحم كمكوّن أساسي، كما جاء في بحثنا السابق عن أبجديات الضيافة في قاموس الكرم الأردني، وفي ذات القاموس نجد أن الذبيحة لدى الأردنيين مرتبطة بِبُعد ميثولوجي صريح وحتى بالنظر في العادات الإيمانية نجد ان الذبيحة تحتل الموقع المركزي فيها قبل الصلاة والصيام ف قد تجد من هو غير ملتزم دينياً بهذه المهام والفروض لكنه يقوم بالذبح والتضحية خلال الأعياد والمناسبات الدينية، والذبيحة الدينية مرتبطة بمناسبات محددة قليلة التكرار، بينما ذبيحة إكرام الضيف هي الأكثر تكراراً واحتمالاً ولا ترتبط بمناسبة معينة أو حدث ما، بل هي جائزة للمعزبين الذين بقيامهم بواجب الضيافة المقدس يربحون مناسبة أخرى لتناول الذبيحة واللحم، وهنا نستعرض مناسبات الذبائح الأردنية التي حصرها العلّامة روكس بن رائد العزيزي على النحو التالي:

  1. المسكن: ذبيحة العقد، ولاحقاً ذبيحة الباطون، ذبيحة الصبّة (سقف البيت)، ذبيحة البيت- الدار- العتبة عند السكن في بيت جديد، ذبيحة النزل – الجيرة للجار الجديد.
  2. في الزراعة: ذبيحة الحصيدة، ذبيحة البيدر، ذبيحة الجورعة (عند نهاية الحصيدة تترك بواقي الزرع للفقراء وتذبح لهم ذبيحة)، ذبيحة الطاحونة.
  3. العرس: ذبيحة الجاهة، ذبيحة الفاردة، ذبيحة القرى، الدخلة، الزوّارة (زيارة العروس لأهلها).
  4. المولود: ذبيحة المولود ذكراً أو أنثى بدون تمييز، وتسمّى عقيقة – ذبيحة الطهور عند المسلمين، وذبيحة العماد عند المسيحيين، وبالنظر لعادات شعوب دول الجوار نجد أن هذا النوع والذبائح غير متعارف عليه لدى المسلمين والمسيحيين على حد سوّاء إلا في الأردن، مما يعني خصوصية وأردنية هذا الموروث أكثر من كونه موروث ديني، ويستدل على ذلك من خلال وجوده وذكره في سجلات الأردنيين الغساسنة مما يرجّح أن يكون هذا الفعل طقساً أردنياً غسّانياً في الأصل وحافظ عليه الأردنيون لاحقاً رغم اختلاف دياناتهم.
  5. الغنم والحليب: ذبيحة متعلقة بمواسم الرعي والإنتاج.
  6. المعاملات: ذبيحة الشراكة (في التعاملات المالية، عند القيام بصفقة او اتفاق شراكة بين شخصين على نية التوفيق) ، ذبيحة الصفاح (في التعاملات الاجتماعية تتم هذه الذبيحة بعد الاتفاق على الخطبة ومصافحة والد العريس ووالد العروس)، ذبيحة الكسب (ذبيحة ما بعد الانتصار والفوز في معركة).
  7. الدين والمعتقدات: ذبيحة الضحية (عيد الأضحى)، ذبيحة سماط الخضر (نسبة لسيدنا الخضر الموجودة مقاماته في عدة مناطق أردنية أهمها السلط والفحيص)، ذبيحة سليمان بن داهود، ذبيحة دانيال، ذبيحة الحليّة، ذبيحة النذر.
  8. الموت: ذبيحة القبر وولائم العزاء ويكون رأس الذبيحة منكّس للأسفل دلالة على الفقد والحزن.
  9. الفرس: عند شراء الفرس.
  10. الضيف: عند قدوم الضيف وهي أحد أهم أركان عملية الضيافة.

الحليب والألبان بأنواعها

يستخدم الحليب ومنتجاته بكثرة في المطبخ الأردني، وكما أوردنا سابقاً أنه قلّما يُشرب طازجاً إلا أنه يقدّم في موسم الحلب دافئاً ومحلّى أثناء الفطور، ويستهلك أكثره معالجاً حيث يخضع الى سلسلة من التحوّلات، في سياق هذه العمليّة التي سنقوم بتتبعها وتوضيحها في سياق هذا الجزء من البحث، وتعتمد وفرة الحليب على عدة عوامل، أهمها المباعدة بين الأحمال بين المواشي للاستفادة من إدرار الحليب لأطول فترة ممكنة، وعلى وفرة الرعي الربيعي، وتمارس الأسر أشكالاً متعددة من عملية الحلب، فمنها من يقوم بالحلب مرتين يوميا صباحاً ومساءاً، ومنها يكتفي بمرة واحدة يومياً، وإجمالاً يتم الحلب مرتين خلال فترة ذروة الموسم (فصل الربيع)، ثم يتم تقليل عدد مرّات الحليب فيما يليه من الأشهر، وقد يطول موسم الحليب حتى شهر تموز في أفضل الأحوال، ولا يتم معالجة حليب النوق (الجمال) إنما يشرب طازجاً أو دافئاً فلا يتم تخثيره ولا مخضه.

الكرك 1939 – صورة للثروة الحيوانية من الماشية التي اقتناها أهالي الكرك ويلاحظ القدرة على التكيف ففي الخلفية بيوت الحجر يتقدمها بيوت الشعر وأمامها يلاحظ وجود السيارة

أبرز منتجات الحليب:

  • اللبن الرائب: يُصفّى الحليب بكيس قماش ويترك جانباً حتى يخثر أو يروب فيصبح لبناً، وتختلف طرق تحضيره تبعاً للمنطقة، فيقوم البعض بغليه والآخر يكتفي بدون ذلك، وكذلك الحال فيما يتعلق بإضافة “روبة” وهي كمية من لبنة معدّ سابقاً لتسريع عملية التخثر / الترويب، ويعتمد الوقت الذي يحتاجه اللبن حتى يتشكّل على الأحوال الجوية السائدة ويستغرق ذلك أحياناً ساعات أو يستمر لنحو ثلاثة أيام.
  • اللبنة: يتم وضع اللبن في كيس من القماش يسمى “خريطة” حتى يتصفى من السوائل ويصبح أكثر تماسكاً ولزوجة وبذلك يشكل اللبنة الحامضة المميزة في المذاق وتشتهر بها محافظة جرش.
  • الزبدة: يخضّ اللبن في وعاء مخصص لهذه الغاية يسمى “السّعن” مرفوع على منصب خشبي ثلاثي القوائم “رويجة” مع إضافة الماء البارد أو الثلج إن توفّر، وتستمر عملية التحريك “الخضّ” لمدة ساعة تقريباً حتى تتشكل من الزبدة كريّات صغيرة ثم تضغط لتكوّن كتلة جامدة.
  • لبن المخيض/ الشنينة: هو السائل منزوع الدسم وهو الناتج المتبقي من عملية استخراج الزبدة ويمكن خزنه طويلاً ويستهلك شراباً أو في إعداد المنسف.
  • السمنة: هي زبدة مصفّاة يستخلص منها الماء إلى حد بعيد، ثم تمزج بالمنكهات وكلما قل مقدار الماء في الدسم زادت إمكانية خزن السمنة لمدة أطول، ويمكن ذلك من خلال سلسلة من عمليات التصفية والتسخين والتبريد والقشد وإضافة الطحين أو الجريشة، وكذلك الأعشاب التي تلوّن السمنة وتمنحها النكهة عبر عملية ( التحويج )، وتختلف هذه الأعشاب باختلاف المنطقة مما يكسب السمن خصائص وسمات إقليمية ومنزليّة، ومن أهم النباتات المستخدمة: في حواجة السمنة: الفيجن، والحندقوق، والعصفر وغيرها.
  • الجميد: يُعدّ من لبن المخيض الذي يُغلى ثم يخثّر ويصفى بكيس قماش ما بين يومين الى ثلاثة أيام، ويعجن بالملح قبل نقله إلى كيس آخر أكثر رقّة، ويثقل عليه بحجر حتى يتصفّى تماماً، ثم يجعل على شكل أقراص ويتم تجفيفه في مكان مشمس، ويحتوي الجميد على كمية قليلة من الدهن، بينما يحتوي على نسبة عالية من البروتين استناداً لتحليلات تم اجرائها على عينات من الجميد.
  • الكشك: وهو مزيج من الحبوب، ومشتقات الحليب من خلال إضافة البرغل الناعم “السميد” إلى الشنينة، وجعلها أقراصاً حتى تجف.
  • الجبنة المالحة: يستعمل الحليب مع إضافة مادة “الإنفحة” التي تؤخذ من معدة الماعز أو الخروف يوم ولادته أو من بعض المكونات النباتية مثل عصارة التين، وتساعد عند إضافتها للحليب الساخن أو الدافئ، على تخثّر الحليب بشكل سريع فيما بين 15-30 دقيقة ثم تعجن الخثارة وتوضع على قطعة قماش، وتضغط تحت أثقال لتصفية السوائل ويحفظ الجبن لاحقاً في ماء شديد الملوحة للحفاظ عليه وتخزينه.
عمان 1922 – سيدة تقوم بتحضير اللبن “خض السعن” في وادي السير

أطباق أردنية بمنتجات الحليب :

  1. المنسف
  2. الرشوف
  3. المجللة
  4. الهيطلية
  5. المحاشي البردقانية
  6. الكشكية
  7. فطائر الكشك
  8. التشعاتشيل

فرصة للتذوق

كل هذه الأطباق وغيرها يمكنكم الاستمتاع بتجربتها في مطعم إرث الأردن، والذي تم افتتاحه مؤخراً بعد رحلة بحثية استمرت لأكثر من 5 سنوات في المطبخ الأردني والهوية الغذائية تم جمع أكثر من 63 طبق متنوع من مختلف المحافظات الأردنية ويتم إعدادها بمنتجات غذائية عبر سيدات المجتمع المحلي من 9 محافظات وعلى يد أمهر الطهاة من أبناء هذه المناطق.

المراجع

  • حتّر، ناهض & أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان:الأردن
  • بالمر، كارول (2008) الفلاحون والبدو في الأردن: دراسة اثنوجرافية في الهوية الغذائية، تعريب عفاف زيادة, مؤسسة أهلنا للعمل الإجتماعي والثقافي.عمان: الأردن
  • العبادي، احمد (1979) المناسبات البدوية، عمان: الأردن
  • العبادي، أحمد (1994) المناسبات عند العشائر الأردنية، دار البشير.
  • العزيزي، روكس (2012) الطبعة الثانية، الجزء الثالث، معلمة للتراث الأردني، مطبعة السفير، عمان: الأردن
  • فريق باحثين (2013) أطلس الأردن – التاريخ، الأرض والمجتمع، المعهد الجغرافي الملكي والمعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى، عمان: الأردن

منتجات الحليب والألبان في المطبخ الأردني

حرصا من إرث الأردن على متابعة آخر مستجدات الإرث الوطني الأردني وجهود المحافظة عليه، نقدم لكم هذه الترجمة .

عقد السيد آندي فلمور السكرتير البرلماني لوزير الإرث والتعددية الثقافية الكندي اجتماعا مع سعادة السيدة ريما علاء الدين سفيرة المملكة الأردنية الهاشمية في كندا، وذلك لاستعادة مقتنيات أردنية أثرية ثقافية وإرثية مهمة. وقد عقد هذا الحدث في المعهد الكندي للحفاظ على الإرث في أتاوا.  مثل السيد فلمور عطوفة وزير الإرث والتعددية الثقافية الكندي، السيد بابلو رودريغز.

متحف أونتاريو الملكي

وقد استعادت الأردن مقتنيات إرثية هامة تتضمن  الفخار، وقوارير زجاجية، ومنحوتات ومصابيح  زيتية، يعود بعضها إلى القرن الثالث أو الرابع الميلادي والفترة الرومانية. وقد احتفظت وكالة خدمات الحدود الكندية بهذه المقتنيات منذ عام 2015.  وكان خبراء متحف أونتاريو الملكي قد عاينوا تلك المقتنيات وأكدوا على قيمتها العالية. بينما طالب الأردن  باستعادة هذه المقتنيات لكونها جزءا من  الإرث الوطني الأردني.

وقد أعادت كندا تلك المقتنيات للأردن مؤكدة على نهجها المستمر في محاربة الاتجار غير المشروع بالمقتنيات الثقافية الإرثية وتأكيد على حرصها على أن تستعيدها الدول التي تمتلكها. إنه مثال رائع على تعاون القطاعات الحكومية والوكالات معا لتطبيق قانون تصدير واستيراد الممتلكات الثقافية.

مقتطفات

“إن كندا سعيدة بإعادة هذه المقتنيات الإرثية المهمة إلى المملكة الأردنية الهاشمية، وتماشيا مع القوانين التي وقعناها عام 1970 في اتفاقية اليونسكو لمحاربة الاتجار غير المشروع للمقتنيات الأثرية. إننا ممتنون للتعاون المتواصل بين قسم الإرث الكندي وموظفي كندا لمراقبة الحدود وكذلك خبراء التاحف الكندية

وزير الإرث والتعددية الثقافية الكندي، السيد بابلو رودريغز.

إننا هنا نتشارك هذه اللحظة المهمة، والأردن يستعيد مقتنياته الإرثية. إن حكومتنا تؤمن بأهمية الحفاظ على إرثنا وجعله متاحا للمواطنين كي يتعرفوا على فنونهم وثقافتهم

– السيد آندي فلمور السكرتير البرلماني لوزير الإرث والتعددية الثقافية الكندي.

إن حكومة الأردن ممتنة لجهود وكالة خدمات الحدود الكندية وقسم الإرث الكندي، تلك الجهود التي أثمرت باستعادة الأردن  لمقتنياته التي لا تقدر بثمن. إن هذا يعبر عن العلاقات الثنائية الممتازة بين الدولتين، والتعاون متعدد الأوجه الذي نتمتع به سويا منذ عقود عديدة

– سعادة السفيرة  ريما علاء الدين، سفيرة الأردن في كندا.

حقائق سريعة

  • وقعت كندا والأردن على اتفاقية اليونسكو عام 1970 والتي تهدف لتجريم ومكافحة تصدير واستيراد ونقل ملكية الممتلكات الثقافية. وبتوقيع الاتفاقية، وافقت الدول المشاركة على مساعدة بعضها البعض بشأن الممتلكات الثقافية المسروقة أو المصدرة بشكل غير قانوني.
  • يسعى الأردن بشكل حثيث لاستعادة الآثار والمقتنيات الإرثية التي تم الاتجار بها بطريقة غير مشروعة.
  • عام 2010 استعاد الأردن حوالي 300 قطعة تم تهربيها إلى أراضي فلسطين المحتلة.
  • عام 2011 استعاد الأردن قرابة 1000 قطعة أثرية تم الاتجار بها بشكل غير قانوني وتهريبها إلى أراضي فلسطين المحتلة.
  • تعمل الجهات الأمنية الأردنية خصوصا على الحدود، على تعزيز الرقابة فيما يتعلق بتهريب الآثار والممتلكات الثقافية والاتجار بها وذلك إيمانا بحق الأردنيين وشعوب العالم في إرثهم الوطني.

 

المصدر: مقالة منشورة على موقع الحكومة الكندية https://www.canada.ca/en/canadian-heritage/news/2018/11/canada-returns-heritage-objects-to-the-hashemite-kingdom-of-jordan.html?fbclid=IwAR02gooDL6PJgLajIT1Iae9FYrVfeabHTciB-dRDq0e87i-yN1GXx_hTbbg

الخبر على موقع اليونسكو: http://www.unesco.org/new/en/culture/themes/illicit-trafficking-of-cultural-property/recent-restitution-cases-of-cultural-objects-using-the-1970-convention/

الأردن يستعيد مقتنيات أثرية من كندا

Scroll to top