تمهيد

كان الموت ولا زال لغزَ البشر المحير. فمن اللحظة التي أعلن فيها الأردنيون الأوائل في “عين غزال” ارتباطهم في الأرض ودفنهم لموتاهم ومتعلقاتهم انطلقت شرارة كل الميثولوجيا الدينية وكل الطقوس. وصحيح أن البترا تسمى المدينة الوردية إلا أنها سميت أيضا بمدينة القبور فيوجد فيها وحدها 500 قبر.

تخبرنا القبور المهيبة التي نحتها الأردنيون الأنباط في الصخر لموتاهم أنهم قدسوا هذا السر وآمنوا بحياة أخرى يبعث فيها الميت من جديد. وعلى واجهات القبور والمعابد يظهر رمز نبطي مشهور وهو رمز “خطوة الغراب” ويكون على شكل ثلاث درجات للأعلى وثلاث درجات للأسفل دلالة على وجود عالمين سفلي وعلوي، عالم الحياة وعالم الموت.

عشرة قلائد ذهبية وتسع خرزات من المقتنيات المدفونة مع الأنباط ديفيد جونسون
عشرة قلائد وتسع خرزات من المقتنيات التي وجدت في إحدى القبور النبطية. حقوق الصورة للباحث ديفيد جونسون

لقد دفع إيمان الأردنيين الأنباط بحياة أخرى لدفن الميت مع أغراضه الشخصية ليستعملها في حياته القادمة. تباينت المتعلقات بين مجوهرات وسيراميك وأحذية وجلود وعملات وصدف وغيرها، على أن قرابة 77% من القبور النبطية البارزة كانت خالية تماما من المتعلقات ويرجح ذلك لحملات السلب والنهب التي كان يقوم بها اللصوص وقاطعو الطرق.

تنقش على واجهات القبور أدعية اللعن التي تلحق اللعنة بأي من تسول له نفسه نبش القبر وسرقة متعلقات الميت. وفي نقش وجد في البترا ويؤرخ إلى 17 م.  يذكر أولاد الميت بناءهم قبرا لوالدهم (أبناء “وهب اللاهي” أقاموا لأبيهم “بيت صلما” والتي تعني حرفيا “بيت للآخرة” بمعنى قبر أو ضريح).

هيكل نبطي (3-12 سنة) برفقة تمثال صغير. من تنقيبات مقبرة مطار الملكة علياء- حقوق الصورة لإبراهيم وجوردون
هيكل نبطي يعود لطفل من عمر ثلاث إلى اثني عشر سنة، برفقة تمثال صغير. الدفن على شكل فردي. من تنقيبات مقبرة مطار الملكة علياء. حقوق الصورة للباحثة كورتني إيورت

عادات وطقوس الدفن: قداسة الموتى

كانت طقوس الدفن والجنائزيات إحدى أهم أعمدة الطقوس الدينية لدى الأردنيين الأنباط، ولا يعود هذا لقداسة الموت ورهبته فحسب، إنما لكون هذه الطقوس مَعبرا إلى الحياة الأخرى التي اعتقد الأردنيون الأنباط بوجودها. وجد الباحثون أن أجدادنا الأنباط قد استخدموا أكثر من طريقة للتعامل مع الموتى، فمنهم من دفن في مقابر حجرية ومنهم من دفن في توابيت خشبية وآخرون حرقت أجسادهم بطرق متباينة. كما شاعت عادات الدفن الفردي والدفن الجماعي إضافة للتحنيط.

يرجح العلماء أن الأردنيين الأنباط تأثروا في الحضارة الرومانية فيما يتعلق بدفن الموتى في التوابيت الخشبية. إن معظم التوابيت التي تم الكشف عنها كانت متحللة وتعود للعصرين الأوسط والمتأخر من الحضارة النبطية . وقد استخدم الأردنيون الأنباط طريقتين في تثبيت التوابيت الخشبية؛ المسامير وتعشيق الخشب وبطريقة ممتازة الصنع. وتتوزع طريقة الدفن هذه في الحميمة والبترا وفي الطرق المؤدية لميناء غزة الذي كان معبر التجارة النبطية الأردنية نحو العالم. وقد وجدت هذه الطريقة حصرا في القبور الرأسية واستدل العلماء عليها بوجود بقايا خشب إضافة لأجراس وأسرجه ومسامير.  وفي منطقة النقب التي كانت امتدادا للمملكة النبطية الأردنية فقد وجد العلماء مدافن حجرية ذات أرضية مربعة مثبتة بالطين ومغطاة بالحجارة وغالبا ما كانت الهياكل العظمية في هذه المدافن محفوظة وكانت التوابيت الخشبية مزركشة وقد توجد بعض آثار الأكاليل (المحيسن: 2009)

Renaissance Tomb- Courteny Ewert 2016
“قبور نبطية محفورة في الصخر من ضريح النهضة في البتراء. حقوق الصورة محفوظة للباحثة كورتني إيورت”

 أما حرق الموتى فيعد من أغرب تقاليد وطقوس الدفن عند الأردنيين الأنباط ورغم ذلك فقد تعددت صور هذه العادة فمن الحرق الجزئي إلى الكلي أو الحرق بالجير غير المطفأ.  وجد العلماء في مقبرة المعيصرة (قرية في محافظة حماة السورية حاليا- شمال المملكة النبطية الأردنية) على رماد لعظام بشرية وحيوانية إضافة لجماجم محروقة بشكل جزئي (الروابدة: 2008) أما الحرق الكلي والذي يسمى ” كولمباريوم” فلم يوجد إلا في مدينة البترا. حيث يكون المدفن كبيرا ومحتويا على فتحات وكوى في الجدار توضع فيها أوانٍ تحوي على رماد الجثث.

صورة أضرحة الرماد
أضرحة الرماد (أعشاش الحمام)  والحفر التي كان يوضع فيها رماد الميت. (الماجدي: 2012)

 أما استخدام الجير المطفأ فهو العادة التي انفرد بها الأردنيون الأنباط عن غيرهم. فقد وجد في مدفن ذو الشرى في البترا جماجم لثلاثة أطفال بجانب رماد لجثث أخرى وطبقة من الرمل الأسود الذي اكتشف لاحقا أنه الجير.  ويبقى سبب استخدام هذه الطريقة غامض حتى الآن على الرغم من أن بعض علماء الآثار يرجحون أنها طريقة ذكية استخدمها الأردنيون الأنباط للقضاء على الأوبئة حيث يقضي الجير على كل المواد العضوية.

لقد تأثر أجدادنا الأنباط بلا شك بالحضارة المصرية، فقد كانت علاقات التجارة بين الحضارتين قوية. يستخرج الأنباط القير(القار) من البحر الميت ويبيعونه للمصرين لأغراض التحنيط. وعلى الرغم من وجود العديد من الدلائل الملموسة على ممارسة التحنيط إلا أن الآثاريين لم يجدوا جثثا محنطة تحاكي الطريقة المصرية في تحنيط المومياوات.

وكان العلماء قد وجدوا في مقبرة خربة الذريح خصلات شعر وأجزاء جافة من الدماغ إضافة لأكفان جلدية مزركشة كما وجدت لفافات جلدية في محاجر العيون دلالة على أن إزالة العيون قبل هذه السلوكيات. وكل هذا يدل على خصوصية تعامل الأردنيين الأنباط مع الميت.

الدفن الفردي والجماعي

سادت عادة الدفن الفردي عند الأردنيين الأنباط، ففي المقبرة النبطية التي وجدت في منطقة مطار الملكة علياء كانت كل القبور فردية. استقبلت كل الجثث جهة الشرق وهي دلالة على وجود طقس جنائزي يحتفي بالشمس التي كانت تمثل الإلهين الرئيسين ذو الشرى واللات.

وعلى الرغم من شيوع الدفن الفردي إلا أن القبور الجماعية قد حضرت أيضا، ولكن بصورة تجعلها أشبه بتقليد خاص ينفذ بناء على رغبة الشخص نفسه. فقد وجدت الكثير من القبور التي خصصت لدفن فرد واحد على هيكلين يقابلان بعضهما أو موضوعان فوق بعضهما، والأرجح أن يكون هذا مقتصرا على الأزواج والعائلة. وفي البترا وجدت مدافن عديدة يحوي أحدها على رماد 30 جثة وآخر يحوي على سبع جماجم.

الجنازة النبطية: طقوس الانتقال إلى الحياة الأخرى  

يخطف الموت فردا من عائلة أردنية نبطية تسكن بيتا محفورا في الصخر. في تلك الأثناء تمسح عائلة الميت دموعها وتستعد لمنح روح الفقيد الراحة الأبدية. في المدفن، يجهز قبر محفور في الصخر بعمق 150 سم، يتلو الكاهن أدعية اللعنة على نابشي القبور، وإن كان الميت مميزا قد تلف جثته بأكفان جلدية مزخرفة وقد ترسم صورته على جدران القبر. تجمع العائلة أغراضه وجواهره ولا ينسون وضع قطع ذهبية في فمه إرضاء لصاحب العربة المسمى “شارون” والذي ينقل روح الميت من الحياة الدنيا إلى العالم الآخر، وتجر هذه العربة خيل وجمال أو حتى دلافين منقوشة على المقابر!

wadi Mataha, Petra Courteny Ewert
قبور نبطية، البتراء. حقوق الصورة للباحثة كورتني إيورت

يتوجه الجميع بعد الدفن إلى المكان المتفق عليه، “المضافة الجنائزية” شتاء داخل المقبرة وصيفا خارجها، يجلسون على المقاعد التي حفرت في الصخر أيضا وربما في مشهد شبيه في بيوت العزاء الحالية، يستقبل أهل الميت المواساة في خسارتهم. داخل المضافة تجلس تماثيل الآلهة في كل زاوية، ويحرق البخور.

تتقدم جموع المعزين من الطقس الجنائزي التالي: الوجبة الجنائزية التي كانت تقدم على موائد صخرية ملحقة في المقبرة. يجلس الحاضرون على الأرضية الرملية ويبدأ تقديم الطعام فتخرج الأطباق والكؤوس الخزفية وربما يصل الأمر إلى كؤوس ذهبية إن كانت الوليمة على شرف الإله أو شرف الحاكم.  ويكمن الأمر المثير للاهتمام بأن عادة تقديم الطعام لا تزال حاضرة كجزء من بيوت العزاء في المجتمع الأردني.

نقش على قبر
نقش نبطي يؤرخ للعام 31/23 م. في مملكة الحجر إحدى الممالك النبطية جنوب العاصمة البتراء. ترجمة النقش: هذا القبر الذي بناه حسايكو ابن حُميدو لنفسه ولذريته ولغزيعات وسلامو أختيه، ابنتا حميدو ولذريتهما. ولا يملك أي أحد حق الكتابة على هذا القبر أو شرائه أو الدفن فيه غير أصحاب الحق من الورثة. ومن يفعل ذلك فلن يكون له حق شرعي فيه. في شهر أيار، السنة الأربعون من حكم الملك الحارث، ملك الأنباط المحبوب من شعبه. روما وعبد عبادة، البناؤون.

في النهاية، تتفرق جموع المعزين وترجع الحياة إلى المضي كسالف عهدها؛ ربما يقوم أهل الميت بإحياء ذكرى سنوية بإعادة طقوس الدعاء والموائد الجنائزية ليتذكروا فقيدهم وليمنحوه الراحة في العالم الآخر.لم يغفل الأردنيون الأنباط عن كتابة اسم المتوفى ومكان وفاته ولكن كان النصب التذكاري المسمى “النفش” أمرا منفصلا عن المقبرة وقد يوجد في مكان بعيد ومنفصل عن مكان الدفن.  ويعد النقش الذي وجد في أحد اودية البترا من أهم هذه النصب التذكارية (هذا نفش بتريوس ابن تربتوس  وهو مكرم لأنه مات في جرش وهو من سكان الرقيم) والرقيم هو الاسم القديم للبترا. إن هذا النقش يوضح أن الأردنيين الأنباط كانوا يعاملون القبر وشاهد القبر (النفش) معاملة منفصلة حيث يعنى الأول بدفن الجثة والثاني بتخليد ذكرى الميت.

الطقوس النبطية: صورة دينية كاملة

بهذا رسِمت الصورة الكاملة للتوليفة الدينية النبطية الساحرة. لم يكن الأردنيون الأنباط أصحاب حضارة عادية على الإطلاق، بل كانوا شعبا ثريا روحيا ومعنويا. تمنحنا الإطلالة على طقوس الأردنيين الأنباط الدينية معرفة أعمق بمدى استقرار المجتمع الأردني النبطي ومدى تعلقه بالأرض التي عاش عليها.

احتفل الأردنيون الأنباط بآلهتهم وانتصاراتهم وكان لهم كاهن وصلوات وأدعية كما كان لهم تعبيرهم الخاص عن رؤيتهم للحياة الأخرى وعبور الأرواح إليها. لم يؤد الأنباط أي طقس من طقوسهم سوى بكثير من الحب والرغبة في الخلود، ولقد كان لهم ذلك فمدنهم التي حفرت في الصخر لا زالت تحفر في قلوب كل من يزورها الدهشة.

المراجع:

  • الحموي، خالد. (2002) مملكة الأنباط: دراسة في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية (ط1)، عمان: مشروع بيت الأنباط.
  • الروابدة، ندى. (2008)، الحياة الدينية عند الأنباط، رسالة دكتوراة، جامعة دمشق، دمشق، الجمهورية السورية العربية.
  • الماجدي، خزعل. (2012)، الأنباط: التاريخ، الميثولوجيا، الفنون، (ط1)، دمشق، دار نايا ودار المحاكاة.
  • غرايبة، هاشم. (2007)، العيد عند الأنباط، صحيفة الراي.
  • عطيوي، ف. و رشيد، ح. (2010)، الحياة الدينية عند الانباط قبل الإسلام، مجلة ديالي 45 (130-154)
  • المحيسن، زيدون(2009)، الحضارة النبطية (ط1)، عمان، وزارة الثقافة الأردنية.
  • عباس، إحسان(1987)، تاريخ دولة الأنباط (ط1)، عمان، دار الشروق.
  • عجلوني، أحمد(2003)، حضارة الأنباط من خلال نقوشهم (ط1)، عمان: مشروع بيت الأنباط

 

 

References:

  • Allpas, Peter& Jhon (2011) The Religious life of Nabatea. Doctoral thesis, Durham University.
  • Alzoubi, M., Almasri, E. & Alajloiny, F. (2012), Woman in the Nabatean Society, Mediterranean Archeology and Archaeometry, 13, No. 1, p. 153-160
  • Perry, M. (2002), Life and death In Nabatea: the North ridge tombs and the burial practices, Near East Archeology 265-270
  • Ewert, C. (2017), Nabatean Subadult Mortuary Practices. MA thesis, Brigham Young University

الطقوس النبطية : الحياة والموت

تمهيد

كانت الحياة الدينية للنبطي الأردني على قدر مثير من الغنى. فبداية من الآلهة المتنوعة التي عبدها ومن رموزها المستقاة من احتكاكه بالطبيعة الأردنية والحضارات المجاورة والتي مكنتنا من فهم مخاوفه وآماله. لقد كان أجدادنا الأردنيين الأنباط على قدر رهيب من الوعي الروحي واستطاعوا أن يصلوا لتوليفة دينية شديدة التميز تلبي جميع احتياجاتهم العميقة.

عاش الأردنيون الأنباط في مدن كالمعابد كان كل ركن منها يحوي إشارة للإله، ولكن هذا الغنى لم يقتصر على المعابد والأضرحة فحسب إنما تعدى إلى أن ينظم الأردنيون الأنباط حياتهم وفقا لطقوس تضمن لهم حب وقرب الآلهة وتبعد عنهم السخط والغضب.

وبداية من الاحتفالات الدينية والشعبية والطقوس التعبدية وصولا إلى الجنائزيات وعادات الدفن كانت الطقوس الدينية النبطية تحتل موقعا مهما انعكس على جميع جوانب الحضارة النبطية الأردنية من معمار وتجارة وزراعة وغيرها.

دائرة الأبراج النبطية والأعياد

ساهمت آثار خربة التنور في فهمنا لطبيعة التقويم لدى الأردنيين الأنباط. فقد وجد علماء الآثار عدة رموز استخدمت كدائرة الأبراج zodiac. تعبر الأبراج عن دورة الوقت عدا عن ارتباطها الوثيق بالآلهة، فالآلهة النبطية كانت مستقاة بشكل رئيس من أمرين هما السماء والدورة الزراعية. فنرى اللات شمسًا وآلهة خصب وقمح، ونرى مناة قمرا وآلهة موت وذبول ويكون ذو الشرى “آلهة الكروم”. ولهذا، كان الأردنيون الأنباط يحتفلون في مواسم معينة وفقا لما تحدده هذه الأبراج.

كانت الأبراج أمرا شهيرا وشائعا في الحضارة الرومانية، فتزدان الكنائس والقصور برسوم ونقوش لرموز الأبراج ولكن الأبراج الرومانية عكس عقارب الساعة (الحمل، الثور، الجوزاء، السرطان، الأسد، العذراء) ومن ثم (الميزان، عقرب، قوس، جدي، دلو) على أن الأردنيين الأنباط لم يأخذوا الأبراج الرومانية على هيئتها تلك إنما كانت الأبراج النبطية مع عقارب الساعة إضافة لحملها رموز الآلهة النبطية الخاصة.

zodiac2
تمثال الأبراج النبطية في خربة التنور وتظهر نايكي ( تايكي ) آلهة الحظ والرعاية تحمل اللات وتطوقها دائرة الأبراج (Nabatean.net)

وجد علماء الآثار في موقع خربة التنور تمثالا يوضح ماهية الأبراج النبطية، فربة الحظ والرعاية “نايكي/ تايكي” المجنحة والتي يرجح أنها ذات الآلهة مناة تحمل اللات آلهة الشمس والخصب على يمينها سيف أو حربة كما ترتدي اللات إكليلا.

تختلف بعض تصاوير الأبراج أيضا في الدائرة النبطية، فصوّر الأردنيون الأنباط برج القوس برامٍ شاب وفتي يحمل قوسا أو رمحا ويرجح أن هذا يرمز للآلهة الكتبا- الكتباي آلهة الكتابة والتجارة. كما صور الأردنيون الأنباط برج الجدي على شكل تمثال نصفي للإنسان على عكس التصوير التقليدي عند الرومان بسمكة أو جدي.

zodiac
(Nabatean.net)   صورة مقربة لدائرة الأبراج النبطية

 

وتتباين احتفالات الأردنيين الأنباط وفقا لهذا التقويم، فبها تحدد الأشهر الحرم ومواقيت الحج وطقوس القرابين والدعاء ولم

تقتصر على ذلك بل استخدمت أيضا للدلالة على مواعيد الحصاد والبذار.

 قداسة الأماكن العالية: حج وأعياد وقرابين

 كانت الصلاة بالنسبة للأردنيين الأنباط فعل ارتقاء حقيقي وروحي في آن واحد. فقد دفعهم تقديسهم للأماكن العالية إلى بناء أدراج تتكون من مئات الدرجات التي ترقى إلى قمم جبال جنوب الأردن؛ ومدينة البترا الوردية التي تلفها الجبال من كل جانب هي خير دليل.

في دراسة أجريت على الأماكن المقدسة في المنطقة وجد الباحثون أن 70% من هذه الأماكن قد بني على مكان مرتفع. ويعد موقع خربة التنور إضافة لخربة الذريح من أهم المعابد النبطية الأردنية التي بنيت في مكان عال والتي كان الأردنيون الأنباط من مختلف أرجاء المملكة يحجون إليها.

عرفت الأماكن العالية المقدسة عند الأردنيين الأنباط بالمعلايات. فالمعلية ساحة منبسطة مقتطعة من جبل، يبنى لها درج. لهذه المساحة المنبسطة ارتفاع بسيط وتحيط بها دكة مبنية استخدمت غالبا للجلوس، وغالبا ما يتوسط المعلية مذبح وتسمى حينها “مسجدا” والمسجدا هي محراب العبادة المقدس. وعلى زوايا المعلية، تحفر مجار للماء وأخرى للدماء. وقد وضع الأنباط داخل هذه المعلايات ما سموه “نصب” أو “مصبا” وكانت هذه الأنصاب تجسيدا للآلهة وعندها تتم طقوس الحج والعيد والقربان.  كما وضعوا قطعا صخريا مستطيلة الشكل وأكثر انتظاما سميت بالمسلات ولها أيضا دلالات دينية كالتي عند الأنصاب.

أدراج المعلية
الأدرج المؤدية إلى المعلية تشق طريقها رغم وعورة الجبل – Nabatean.net

في طقس احتفالي، يتقدم الكاهن الجموع ويصعد الدرج تاليا دعواته وطائفا حول النصب في شعيرة أشبه “بالحج”.  يجر النبطي الأردني قربانه المقدس، وعند الوصول إلى أرض “المعلية” المنبسطة يقوم الكاهن بذبح القربان وتسييل دمه على الأدراج وفي المجاري المخصصة لذلك. منذ فجر الإنسانية، كان الدم رمزا للحياة والقوة، وبه دعا الإنسان إلهه بأن يمنحه إرادة الحياة والقربان وسيلة أيضا للاعتراف بالمنة والفضل لآلهة الخصب التي ترعى الحملان كي تتكاثر. لقد كان الإنسان النبطي الأردني يقدر نِعَم إلهه وهو ككل البشر الباقين كان طامعا في رضا الرب وخاشيا من عذابه وسخطه.

AttufShrine
صورة توضح المعلية على  قمة جبل عطوف في البتراء وتظهر الأنصاب المقدسة في منتصف المعلية حيث كانت تقام طقوس الحج والقربان المقدس – موقع WonderMondo

احتفل الأردنيون الأنباط في ذلك الطقس بالآلهة اللات ربة الخصب. فأثناء موسم تكاثر الحملان يعلن الأردنيون الأنباط بدء الربيع فيكون العيد احتفالا بهبة الآلهة وبمعجزة الخلق التي يشهدونها في موسم التكاثر.  وفي هذا الصدد، كتب الأديب والكاتب الأردني هاشم غرايبة عن طقوس العيد النبطي: ” يبدأ الاستعداد للعيد عندما يهل هلال شهر العيد، وتستمر الطقوس على مدى أسبوعين. أي لحين اكتمال القمر بدرا. طقوس الاستعداد للعيد تبدأ بإعداد القربان المقدس وتنتهي بذبحه أي التضحية به “، ولكن طقوس العيد النبطي لا تقتصر على الاستعداد وتجهيز القربان والحج إلى المعلية، إنما تتعدى ذلك إلى فترة يستغلها النبطي الأردني لتطهير روحه ليبدأ في تطبيق برنامج صارم للزهد والابتعاد عن ملذات الحياة اليومية. يتابع هاشم غرايبة وصفه لطقوس التقشف النبطية الأردنية:

وخلال هذين الأسبوعين يتوقف روتين العمل اليومي، ويلتزم الناس بطقس تقشف قوامه الممنوعات: ممنوع الصيد، ممنوع إراقة أي دم. ممنوع قتل أي كائن ولو كان حشرة. ممنوع شرب الخمور أو التعاطي مع العطور. ممنوع إقامة علاقات جنسية من أي نوع، ممنوع النوم وقت طلوع الشمس ووقت غروب الشمس. ممنوع أي تماس جسدي مع أي شخص آخر، ممنوع غسل الوجه واليدين، ممنوع قص الشعر وحك الرأس، ممنوع الغناء ورفع الصوت حتى من قبل أطفال يلعبون. ممنوع الخروج للبحث عن ضآلتك فالماشية الشاردة تعد ملكا لمن يعثر عليها، خلال هذين الأسبوعين يتم إعداد القربان حيث التضحية بالقربان المقدس هي ذروة العيد وخاتمته. وبعدها تراق الخمور وتغني القيان، ويرقص الناس بالشوارع، ويصير الممنوع مباحا

ويذكر الباحثان عطيوي ورشيد (2010) أن طقوس القربان المقدس لم تكن تقتصر على الذبح أو تلاوة الصلوات إنما ” كان الأنباط يقيمون ولائم مقدسة لأكل لحوم الأضاحي إذا يشارك في أكلها موظفو المعبد والعباد في غرف خاصة. وكانت الوجبة التعبدية هي المشاركة بين الإله وعابديه في المؤاكلة”

كان لذو الشرى، الإله الأكبر، نصيب كبير من طقوس الحج النبطية الأردنية. اذ سمي نصب ذو الشرى بـ “كعبو” وكان صخرة سوداء يحج الأردنيون الأنباط إليها في الخامس والعشرين من كانون الأول، أي في يوم الانقلاب الشتوي. حيث يطوف الحجاج ومن ثم يقدمون القرابين ويحتفلون. وقد ألحقت بمعابد  ذي الشرى أرض تسمى “حمى” لأنها في حماية الآلهة فيحرم فيها قطع الأشجار أو الصيد، وقد وردت لفظة “الحرم” في كتابة نبطية في مدينة البترا حيث تقول العبارة ” حرم ذي الشرى … الإله ربنا” (رشيد وعطيوي 2010)

Dushara
تمثال للإله ذو الشرى

أما قرابين  ذو الشرى فكانت تمزج بالحليب أو الماء في بداية عبادة الأردنيين الأنباط لهذا الإله، لكنه نتيجة للتأثر بالحضارة الهلنستية وامتزاج صفاته بصفات إله الخمر ديونيسوس صارت القرابين تمزج بالخمر. كما قدمت للإله ذو الشرى القرابين من الفخار والبرونز والفضة والتي تصاغ على شكل حيوانات وجمال، أما القرابين الحية فيرجح الباحثون أنها كانت تحرق. (الروابدة : 2008)

ورغم ورود بعض النقوش التي تؤرخ لطقوس الأردنيين الأنباط، تبقى أغلبها لغزا غامضا ومحل جدل بين الباحثين، خصوصا عند المقارنة بين المعابد أو المعلايات المختلفة. فبعض الأماكن المقدسة احتوت تماثيلا أو وجوه الآلهة منقوشة على إحدى الجهات بينما لم تفعل أخرى وقد رأى آخرون أن المعليات أماكن لتقديم أعطيات المعبد لا القربان. ولذلك أدى هذا الجدل عند بعض الباحثين لاقتراح وجود فرق وطوائف دينية مختلفة لدى الأردنيين الأنباط.

وللأردنيين الأنباط أيضا مجالس ومضافات لها طقوس محددة يذكرها المؤرخ اليوناني سترابو، حيث يذكر أنهم كانوا يجتمعون في حلقات مؤلفة من ثلاثة عشر شخصا، إضافة للموسيقيين، بينما للملك قاعة كبيرة يقيم فيها الولائم وخلالها لا يشرب كل مدعو أكثر من 11 كأسًا من النبيذ، وكان الملك يشارك الناس والعامة ويقوم على خدمة الآخرين في المعبد (المزراح) ونذكر حتى اليوم المثل القائل (كبير القوم خادمهم) المستقى من هذا الطقس، وعقب هذه الطقوس تم تأليه هذا الملك وسمي “رب مرزحا” أي سيد المعبد. (زيدون: 2009)

 لقد كانت الأماكن المقدسة محل توقير كبير لدى الأردنيين الانباط، فلم تكن شاهدة فحسب على طقوس القربان والاحتفالات إنما كانت مسرحا رهيبا لتمثيل رؤيتهم للآلهة والعالم.

أعياد واحتفالات شعبية

إن كانت الأعياد الدينية تحظى بسلسلة من المحرمات وطقوس التقشف فإن الاحتفالات الشعبية على العكس تماما. تبدأ طقوس الاحتفالات بالموسيقى الرقص وكل مظاهر الابتهاج وتذكر المصادر التاريخية أن الأردنيين الأنباط احتفلوا بعيد يسمى (pentaeterigine) وكان هذا العيد يقام كل أربع سنوات ويحتفل فيه الأردنيون الأنباط المقيمون في شبه جزيرة سيناء.

كما خلد الأردنيون الأنباط ذكرى حروبهم وانتصاراتهم على جيوش كليوبترا المصرية في معركة “اكتيوم” البحرية التي حدثت في عام 31 ق.م. وكان الاحتفال بهذا الانتصار يجري في شهر أغسطس ترافقه ألعاب القوى والجري والقفز وألعاب الرهان وغيرها من مظاهر الفرح.

ويذكر المؤرخون أن الأردنيين الأنباط في مرحلة متأخرة من حضارتهم كانوا يقيمون حفلات شرب عالية المستوى، بحيث تنص الطقوس الخاصة بهذه الحفلات على شرب النبيذ على شرف الإله ذو الشرى بكؤوس ذهبية تتجدد في كل مرة من المرات الإحدى عشر المسموحة.

الصلاة والتراتيل والكهنة

لم يصلنا الكثير عن طريقة صلوات الأردنيين الأنباط أيضا، على أن الباحثين كانوا قد وجدوا نقشا في مدينة الحِجر، إحدى الممالك النبطية الأردنية، كان يحمل تصاويرا لأشخاص فسرها الباحثون على أنها أوضاع تعبدية كالركوع والدعاء برفع الأيدي. إضافة لوجود الكثير من النقوش التي تحوي كلمات “بركته” أو “بربك” دلالة على طلب البركة والعون.

وقد رافق هذا الحاجة للاغتسال والطهارة الدائمين. لقد فرضت طبيعة الآلهة على الأردنيين الأنباط ممارسات الطهارة بشكل كبير، فقد كانت الآلهتان اللات والعزى مرتبطتان بالينابيع والمياه الجارية وقد كانت اللات، إضافة لذلك، زوجة ذو الشرى؛ فنرى في المعابد المخصصة لذي الشرى أحواضا صخرية ومجار مائية على المداخل لغرض الاغتسال.

عرف الأردنيون الأنباط أيضا الدعاء، فقد خصصت أدعية لجلب الرزق ودرء السيول وحفظ الصحة والحماية من الفقر. كما عرفوا “أدعية اللعن” وهي أدعية للعن من ينبش القبور. ومؤخرا، تم العثور على بردية نبطية في بئر السبع تؤرخ بحوالي مئة سنة قبل الميلاد وهي عبارة عن تميمة لحفظ رجل ما من سيطرة امرأة وبها يتوسل بالآلهة لحمايته (الماجدي: 2012)

في سياق الحديث عن الطقوس الدينية النبطية لا بد لنا أن نتطرق لشخصية الكاهن التي لعبت دورا مهما في حياة الأنباط الدينية. أطلق الأردنيون الأنباط العديد من الأسماء على الكاهن وفقا للمهمة التي يقوم بها  فتذكر المصادر عددا من أسماء الكاهن النبطي الأردني ووظائفه؛ فيسمى الكاهن النبطي “أفكل” وتعني السادن الحكيم، وهي مقتبسة عن البابلية “أفكلو” وعن السومرية من قبلها والتي كانت تسمي الكاهن “أبكالو” وقد بحث البعض في أصل كلمة “أفكل” ووجدها متقاربة لجذر “فلك” في العربية؛ وربما كان هذا عائدا لما كان الكاهن يقوم به من تنجيم.

كان للكاهن وظائف متعددة كقراءة الفأل والتنبؤ وتفسير الأحلام وسمي عند ذلك ” كمرا” أو “فتورا” أما الكاهن المسؤول عن الطقوس الدينية وتنظيمها فهو “المرزح” وهنالك الكاهن “المبقر” والذي يكون مسؤولا عن بقر بطن القرابين وقراءة أكبادها لأغراض تنبؤية، كما سمي الكاهن المسؤول عن تقديم الأعطيات وحرق البخور “أقطيرا” استخدمت كلمتي “كهن” و “كهنا” للدلالة على الكاهن بصورة عامة. (الماجدي:2012)

منحوتة لكاهن نبطي يرتدي العمامة
منحوتة لكاهن نبطي يرتدي العمامة (الماجدي:2012)


التبرك بالغابة المقدسة

اعتقدت العديد من الحضارات القديمة بأن الأشجار مقدسة، وأن روح الرب قد تحل فيها. وقد اتخذ الأنباط حزمة القمح رمزا للآلهة اللات كما قدموا الحبوب والقرابين النباتية للإله شيع القوم.

تذكر بعض المصادر أن الأردنيين الأنباط كانوا يحجون إلى غابة نخيل مقدسة قرب البحر الأحمر. وكان في هذه الغابة معبد له كهنة وكاهنات. يحجون إليها كل خمس سنين فيتعبدون ويذبحون القرابين ومن ثم يجلبون المياه منها للبركة والعافية. وقيل إن الحج إلى الغابة كان مرتين في السنة. شهر واحد أول السنة وشهرين بداية الصيف وتكون هذه الأشهر أشهر حرم يمنع فيها الصيد أو القتال (رشيد وعطيوي: 2010)

المرأة وقداسة المعبد  

 حضرت الأنثى وبقوة كمعبودة وراعية وجالبة للحظ، متحكمة بالخصب والموت والقدر؛ حتى أن الأردنيين الأنباط نحتوا وصوروا آلهتهم الأنثى على شكل المرأة الحسناء، فقد صوّرت اللات مثلا كامرأة جميلة جزؤها العلوي مكشوف، كما ركزت التماثيل على أماكن الخصوبة كالثديين والأرداف وقد صور بعضها المرأة-الآلهة تقوم بإرضاع وليدها أو حتى إنجابه! لم يكن جسد المرأة سوى كيان مقدس، يرى النبطي فيه فتنة وعظمة إعادة الخلق وهبة الحياة.

 كذلك كانت المرأة النبطية الأردنية على قدم المساواة في الطقوس الدينية النبطية.  يذكر المؤرخ Glueck جلوك  أن المرأة النبطية شاركت بكل الطقوس التعبدية، فكانت تشارك في احتفالات الخصب وتقدم القرابين والأعطيات. كما كانت تشارك الرجال في العزف أثناء الاحتفالات الدينية ربما كمتعبدة أو كراهبة في المعبد. وقد ترك لنا أجدادنا الأردنيين الأنباط تماثيل فخارية تصور فرقة موسيقية مكونة من امرأتين ورجل.

تمثال المرأة العازفة
تمثال فخاري نبطي لفرقة موسيقية تتكون من امرأتين ورجل

وكشفت التنقيبات عن وجود نقوش للآلهة النبطية “العزى” وهي حزينة بسبب زوجها، حيث كانت من إحدى الآلهة التي وجدت نقوشها وتماثيلها على واجهات المعابد النبطية، وقد يلمح هذا لنا بقدسية رباط الزواج وبقدسية الأنثى كذلك، فربما اعتبر الأنباط أن حزن الأنثى من زوجها هو حزن للآلهة ذاتها.

تابعوا الجزء الثاني من البحث ( الطقوس النبطية : لغز الموت والحياة ).

المراجع :

  • الحموي، خالد. (2002) مملكة الأنباط: دراسة في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية (ط1)، عمان: مشروع بيت الأنباط.
  • الروابدة، ندى. (2008)، الحياة الدينية عند الأنباط، رسالة دكتوراة، جامعة دمشق، دمشق، الجمهورية السورية العربية.
  • الماجدي، خزعل. (2012)، الأنباط: التاريخ، الميثولوجيا، الفنون، (ط1)، دمشق، دار نايا ودار المحاكاة.
  • غرايبة، هاشم. (2007)، العيد عند الأنباط، صحيفة الراي.
  • عطيوي، ف. و رشيد، ح. (2010)، الحياة الدينية عند الانباط قبل الإسلام، مجلة ديالي 45 (130-154)
  • المحيسن، زيدون(2009)، الحضارة النبطية (ط1)، عمان، وزارة الثقافة الأردنية.
  • عباس، إحسان(1987)، تاريخ دولة الأنباط (ط1)، عمان، دار الشروق.
  • عجلوني، أحمد(2003)، حضارة الأنباط من خلال نقوشهم (ط1)، عمان: مشروع بيت الأنباط

References:

  • Allpas, Peter& Jhon (2011) The Religious life of Nabatea. Doctoral thesis, Durham University.
  • Alzoubi, M., Almasri, E. & Alajloiny, F. (2012), Woman in the Nabatean Society, Mediterranean Archeology and Archaeometry, 13, No. 1, p. 153-160
  • Perry, M. (2002), Life and death In Nabatea: the North ridge tombs and the burial practices, Near East Archeology 265-270
  • Ewert, C. (2017), Nabatean Subadult Mortuary Practices. MA thesis, Brigham Young University

الطقوس النبطية : توليفة دينية ساحرة

Scroll to top