حملت تجارة الأردنيين الأنباط معالم الإبداع الاقتصادي الذي نتج عن العديد من العوامل منها موقع الأردنيين الأنباط الجغرافي و السياسي بين حضارات العالم القديم بل وطبيعة المنطقة التي حكمها الأردنيون الأنباط، اذ اهتم الأردنيون الأنباط بطريقة النقل إسوة بإهتمامهم بطرق النقل فاهتموا بالجمال وتوفير ما تحتاجه من المسكن و التزود بكل ما يمكن على توضيب البضائع على ظهر الجمال وترتيبها وتصنيفها عدا عن تجهيز ما يلزم للموانئ لبناء السفن وتخزين البضائع ونقلها وتحميلها وتنزيلها .

ولم يكن الإنتاج النبطي الأردني بطبيعة الحال أيضا قائماً على الاكتفاء الذاتي فحسب بل قاموا بإنتاج ما تحتاجه الشعوب الاخرى واحتاج هذا الامر إلى مخازن بنوها خارج المدن في البارد في البترا (1) .

كانت الطرق البرية للأردنيين الأنباط قد اخترقت النقب شمالاً و غرباً و كانت لهم طرق رئيسية لذلك و طرق فرعية أيضاً و عبروا الأردن و سيطروا على الطريق السلطاني الممتد بين شمال حوران الأردنية والبحر الأحمر ؛ أما جنوباً فقد عبروا الحِجر الذي مكنهم من الوصول إلى الطرق الرئيسية في معظم الجزيرة العربية وامتلاكهم لزمام التجارة عبر مدينة الحوراء على الساحل الشرقي للبحر الاحمر للوصول إلى الهند حتى انهم سيطروا على النقل البري الآتي من ميناء الجرها على الساحل الغربي لشبه الجزيرة العربية ، كان لامتداد طرق تجارتهم عبر النقب الأثر الواسع لانفتاح طرقهم التجارية إلى غزة والعريش وسيطرتهم على موانئها مما فتح لهم الطريق إلى مصر عبر سيناء (2).

كانت جميع هذه الطرق تحت نطاق حكمهم ، فبراعة الأردنيين الأنباط في التجارة و جودة قوافلهم وأساليب نقلهم مكّنتهم من السيطرة على أكثر الطرق التجارية القديمة و تعزيزها ، ففي الجزيرة كان هناك الطريق المار باليمن بمكة  وتيماء مروراً بالعلا فأيلة العقبة، وفي الشرق كان الخليج فتيماء فوادي السرحان، و إلى الغرب كانت الاسكندرية فالعريش و غزة فالنقب و من ثم عصيون جابر فالعقبة ، وإلى الشمال فالبترا ومن ثم طريق تراجان المعروف بالسلطاني فبصرى أو طريق الملوك عبر مدن الديكابوليس فجرش من ثم بصرى؛ أما على الصعيد البحري فميناء العقبة كان يصدّر ويستورد من وإلى اليمن وإلى الهند جنوباً وإلى مصر ومن ميناء غزة إلى روما والغرب (3) .

NabateensRoutes_ar

هذا الموقع المميّز مكّن الأردنيين الأنباط من احتلال مركز الصدارة في التجارة في المنطقة فكان اليمنيون يسلمون بضاعتهم إلى تجار النقل النبطي الأردني ليصار نقلها إلى الشمال أو الغرب، أما الى بلاد الرافدين فكان الأردنيون الأنباط يتبعون طريق حائل- بابل لتجنب مصاعب الصحراء قدر الامكان؛ و من الجدير بالذكر هنا أن الأردنيين الأنباط كانوا قد استخدموا الكتبة بنظام أشبه ما يكون بالجمارك اليوم لتحصيل نسبة مناسبة من عائدات النقل والتمرير حتى على القوافل غير النبطية .

وقد عثر على آثار تجارتهم في مناطق مثل سلوقية و الاسكندرية و رودس و مليتوس و ديلوس و موانئ سورية و مصب الفرات حتى، و كان محصلة هذه الرفعة والتقدّم الاقتصادي في الفترة بين 100ق.م و 100 ب.م ؛ أن الأردنيين الأنباط اهتموا بتوفير المياه على طول الطرق التجارية والأمان الموفّر و المرشدين و الأدلاء ومزودي الأعلاف و الغذاء و الخدمات الأخرى على الطرق التجارية مما أدى إلى تفضيل التجار عموما للتعامل مع الأردنيين الانباط بدلاً من غيرهم من شعوب المنطقة . (4)

وبالرغم من التنوع الصناعي و الزراعي لدى الأردنيين الأنباط إلا أن موردهم الأساسي ودخلهم الرئيسي كان يتمثل في تأمين القوافل التجارية وغيرها من الخدمات، ففي بعض الأحيان كانت تصل قيمة ما يعود عليهم من رسوم إلى ما يقرب ربع قيمة البضائع، و هذا ما أثّر على شكل انتشار الأردنيين الأنباط وتوسعهم السياسي – التجاري فسيطروا على ما بين البحر الأحمر وشمال حوران الأردنية و البحر الأبيض عبر بئر السبع و غزة جنوباً .

أما بحريا، فقد كان الأردنيون الأنباط كباقي الشعوب المطلة على السواحل والبحار ؛ ذات إرتباط بالبحر لوجود عدة مسطحات مائية تحيط بهم فلم يكن من الجديد او الغريب ركوب البحر عندهم، فكان لهم موانئ متعددة مثل أيلة، ولوكي كومي، وأكرا كومي، أو الموانئ الأخرى الواقعة على ساحل البحر المتوسط، مثل غزة، ورفح، والعريش أو الجرها على الخليج العربي. وشارك الأردنيون الأنباط، مثلهم مثل التجار الإغريق والرومان، في نقل التجارة من الموانئ الشمالية إلى الموانئ الجنوبية في البحر الأحمر، ليتم نقلها من هناك بوساطة التجار المحليين إلى المناطق البعيدة، مثل شرق أفريقيا والخليج العربي والهند والصين  ، وبالرغم من قرب الموانئ الواقعة على ساحل البحر الابيض المتوسط للمملكة النبطية الأردنية إلا أن الأردنيين الأنباط لم تكن لديهم سيطرة مباشرة على هذه الموانئ القريبة إلا لفترات متقطعة إذ أن تسيير الشؤون التجارية للأردنيين الأنباط كان يسير بأطر دبلوماسية أكثر من الحاجة للجوء للخيار العسكري ما حقّق نفوذا تجاريا نبطيا واسعا (5) .

أما ميناء أيلة العقبة فقد تأسس في القرن الرابع لما قبل الميلاد ، حيث كانت العقبة مدينة تجارية نبطية فاعلة وقد اهتم الأردنيون الأنباط بتخطيط الميناء و بناء المستودعات حتى كان أفضل من الموانئ الرومانية حينها (6) ، إلا أنه لم يكن الميناء الرئيس للأردنيين الأنباط على البحر الأحمر بالرغم من أهميته ، اذ غلبه في الأهمية لاحقا ميناء لوكي كومي بالقرب من وادي عينونة في شمال شبه الجزيرة الأكثر أهمية حينها ، فقد كان يتسع  لـ 200 سفينة و محوّط بالجبال و كان الميناء يشكل نقطة تفرع بين المضي بحراً إلى الاسكندرية و برا إلى البترا بشكل كبير كأنها حركة جيوش ضخمة اذ أن حركة النقل التجاري كانت تصل إلى 7-10 آلاف جمل في السنة ، من ثلاث جهات كما أن الأردنيين الأنباط كانوا قد أجروا المياه العذبة إلى الساحل لبناء ما عرف بالـ”مدينة البيضاء” بسبب طلاء مبانيها بالجبس الابيض (7) .

لم تكن هذه الموانئ هي الوحيدة على ساحل البحر الاحمر فقد كان هناك ميناء ثالث يسمى اكرا كومي جنوب من مدينة الوجه- شمال شبه الجزيرة –  بـ 45 كيلو متر ، و كان مجهزاً بكل ما تحتاجه السفن حتى أنه كان مزوداً بطرق معبدة (8)، و كان للنيل المصري حصته من الاهتمام فقد كان يزخر بالنقوش النبطية التي وجدت هناك أكثر من أي مكان آخر بل ووجد معبد نبطي كان يشرف عليه كاهن نبطي بالقرب من تل الشقافية في منطقة شرق الدلتا كدلالة على كثرة استخدام الأردنيين الأنباط للنيل و عمق تواجدهم التجاري في مصر (9) .

red sea

أما البحر المتوسط فيمثل أفضل نموذج يمكن من خلاله توثيق صلات الأردنيين الأنباط البحرية بمناطق شرق البحر المتوسط وآسيا الصغرى؛ وذلك لتوافر الأدلة المتعدّدة من آسيا الصغرى أو من المناطق النبطية. فقد عثر في خربة الذريح وفي المدن النبطية، مثل البترا وعبدة، على العديد من البضائع المستوردة من آسيا الصغرى، التي تعود الى فترة تمتد من القرن الثاني قبل الميلاد وحتى الأول الميلادي، كما عثر على الرخام وكسر الفخار المزجج والسرج الفخارية من مدينتي أفسوس وإسكندرونة (10) ، في مدن آسيا الصغرى والجزر المقابلة لها، مثل ميلتوس  Miletus  وكوس Cos ورودس Rhodes  وديلوس Delos ،وغيرها من المدن والجزر على عدد من النقوش التذكارية النبطية التي كان الأردنيون الأنباط يشكرون فيها آلهتهم على الأغلب (11) .

mid sea

وبالإضافة إلى الإمتداد شرقي المتوسط فقد ترك الأنباط مجموعة من النقوش ومعبداً للإله ذي الشرى في ميناء بوتيولي Puteoli ، ونقشان باللغة اللاتينية في روما، و قد عثر على المعبد النبطي في المنطقة المعروفة باسم Lartidianus vicus ،وهي الحي السكني الخاص بالتجار والمسافرين الأجانب ويقبع تحت الماء حالياً. وربما شكل ميناء بوتولي ، أكبر مستوطنة تجارية نبطية أردنية في البحر المتوسط ، و يعتقد أن المعبد لم يكن قاصراً على العبادة فقط، بل كان مقراً لاجتماع الجالية النبطية الأردنية وعقد الصفقات، مثل معابد الجاليات الأخرى . (12)

  • المصادر و المراجع :
  1. عباس ، إحسان (1987) ، تاريخ دولة الانباط ، ط 1، عمان : دار الشروق للنشر و التوزيع ، ص 107-108 .
  2. المطور ، عزام ابو الحمام (2009) ، الأنباط تاريخ و حضارة ، ط1 ، عمان : دار أسامة للنشر و التوزيع ، ص 167-170 .
  3. المصدر السابق نفسه
  4. المصدر السابق نفسه
  5. العبدالجبار ، عبداالله بن عبدالرحمن (2011) ، تجارة الأنباط البحرية بين القرنين الرابع قبل الميلاد والثاني الميلادي . المجلة الاردنية للتاريخ و الاثار ، المجلد 5 (العدد 3) .
  6. Strabo, OP.Cit., pp16, 4, 18 ;Diodorus, OP.Cit.,pp 3, 43, 3, Alexandra Retzleff, “Nabataean and Roman Domestic Area at the Red Sea Port of Aila,” Bulletin of the American Schools of Oriental Research, 331 (2003) p. 45.
  7. المصدر السابق نفسه , p44
  8. .علي إبراهيم الغبان، “معطيات أثرية جديدة حول تحقيق موقع مينائي أكراكومي ولوكي كومي ومستوطنة أمبلوني في ساحل البحر الأحمر بالمملكة العربية السعودية،” الندوة العالمية لعلاقات الجزيرة العربية بالعالمين اليوناني والبيزنطي، .م٢٠١٠/١٢/٩-٦ الرياض
  9. عبدالمنعم عبدالحليم سيد، “النشاط البحري للعرب القدماء خارج الجزيرة العربية،” ندوة طرق التجارة العالمية عبر العالم العربي على مر عصور التاريخ، القاهرة ٢٠٠٠م
  10. Retzleff, “Nabataean and Roman Domestic Area,” pp. 61-62, Parker, “THE ROMAN AQABA PROJECT,” p. 391, Negev, Nabatean Archaeology Today, p. 93.
  1. David Hanson, NABATAEAN TRADE: INTENSIFICATION AND CULTURE CHANGE, PhD Dissertation University of Utah 1987, pp. 127
  2. العبد الجبار ، المصدر نفسه.

الطرق البرية و البحرية عند الأردنيين الأنباط

 مقدمة تاريخية

   يقال في اللغة: نَبْطُ العلم أي بثه ونشره، ونَبَطُ الماء أي أخرجه والنّبِطُ أول ما يخرج من ماء البئر، ونَبَطَ الأرض أي نقّب فيها وأخرج المعدن ولا يوجد ما يصف حضارة عظيمة كحضارة الأردنيين الأنباط أكثر من هذه الخصائص الثلاثة: العلم والماء والمعدن. ورد ذكر الأردنيين الأنباط في الكتاب المقدس بقوله “أهل الجنوب” كما ورد ذكرهم في النقوش الآشورية العائدة إلى القرن السابع قبل الميلاد.

 ارتحل الأردنيين الأنباط في الصحراء الأردنية وتنقلوا فيها وتجذرت في نفوسهم حياة البداوة على أن هذا لم يمنعهم أبدا من استيعاب الحياة الزراعية واستيعاب الحضارات الأخرى رومانية وهلنستية ومصرية، حتى وصلوا وبشكل مدهش إلى التفوق على هذه الحضارات في بعض المجالات. إن المميز في حياة البداوة النبطية التي عاشها هذا الشعب هو انفتاحهم على التجارة فكانوا رغم حياتهم البدوية يجهزون القوافل التجارية ولم يتوقفوا عند ذلك بل طوروا أساليب لاستخراج القار[1] من البحر الميت وبيعه للمصريين آنذاك، وكان كل ذلك في المرحلة الأولى الممهدة لقيام حضارتهم.

بعد الاستقرار النبطي وتحوله عن التنظيم البدوي ومزاحمتهم للأردنيين الأدوميين في التجارة والزراعة سادوا المنطقة وأخذوا بالتوسع ومد نفوذهم أكثر وأكثر وطوروا أساليب بديعة في الري والعمارة والتي لا زلنا نرى أمثلة عليها من أول خطوة نخطوها في السيق نحو مدينة البترا، عاصمة الدولة النبطية الأردنية. تلا هذه المرحلة استقرار أكبر وتنظيم مدني حيث ظهرت الملَكية وأخذت المدن النبطية الأردنية معالمها الحضارية من تطور صناعي وزراعي وثقافي يشمل الفنون والدين والخط وامتدت ممالكها من العراق (مملكة ميشان) والأردن (البترا) وصولا إلى شمال الجزيرة العربية (الحِجر).

بدأت الحضارة النبطية الأردنية بعد شدة الاتساع تثير مطامع الممالك والإمبراطوريات المجاورة، فطوال تاريخها عانت كثيرا من محاولات الغزو والاحتلال. اذ كانت مستهدفة من قبل السلوقيين والبطالمة والرومان والإغريق وصولا إلى اليهود المكابيين الذين نازعوا الأنباط الأردنيين على تجارتهم مع المصريين. ولكن حضارة الأنباط صمدت قرابة الأربعة قرون أمام كل هذه المحاولات مرسخة حب الحرية والاستقلال في نفوس أبناء هذه الأرض، وعقب زوال المملكة النبطية بدأت القبائل النبطية الأردنية بالاختلاط مع الشعوب المجاورة. وقد خلّف الأردنيون الأنباط بعد زوال مملكتهم الآثار المعمارية العظيمة والخالدة إضافة للخط واللغة النبطية، وكذلك الآلهة النبطية التي قدستها قبائل الجزيرة العربية واقتبستها عنهم إضافة لما أخذوه عنهم من مظاهر حياة سياسية واجتماعية واقتصادية أخرى.

منذ خطواتنا الأولى في السيق وحينما تبرز لنا الخزنة من بين الشقين الجبليين الهائلين تتراءى لنا عظمة الإنسان النبطي الأردني وغنى مخيلته ووجدانه، ولا يتوقف الأمر عند بناء الخزنة إنما يمتد للمسلات والأضرحة والمذابح والنقوش؛ فكل زاوية تقع عيون الناظر عليها كانت ذات دلالة عميقة للنبطي الأردني آنذاك. فإنسان تلك الفترة كان إنسانا عطشا للروحانيات ولهذا صارت الديانة والمعبودات والطقوس معبره نحو إشباع هذه الرغبة. في خضم التفاعل الحضاري الذي ساد المنطقة آنذاك، صاغ الأردنيين الأنباط قيمهم الدينية ومعبوداتهم ورموزهم الخاصة التي وبلا شك تأثرت وأثرت في ميثولوجيا المنطقة عامة.

Petra_,_Al-Khazneh_2
الخزنة في البترا

الآلهة الأنثى  

Uzza, Manat, Latt
(صورة توضيحية تمثل اللات والعزى ومناة إضافة لرموزهن من الكواكب –الشمس، الزهرة، القمر- ورموزهن الأرضية حزمة القمح- السيف والقطة- كأس البخور- من اليسار إلى اليمين)

العزى  ( ذات القناع )

 اختلف الباحثون في أصل اسم هذه الآلهة الأنثى فقيل أنها آلهة سريانية (هن- عزى) أي ذات العزة وقيل أنها من أصل سينائي (عبدت في سيناء/ النقب) ورأى  آخرون أنها من أصل سومري وتعني (العارف بالماء) وكان يطلق على الطبيب، وارتباط العزى بالماء والخضرة حاضر في الأذهان (الماجدي:2012) وقيل أيضا أنها عبدت في مدينة العز (الخلصة حاليا في النقب). تم تمثيل العزى بامرأة جميلة ووراءها أشجار وخضرة وتمسك في يديها سيفين وأمامها قطة أو أسد. ولهذا قيل إنها قد تمثل آلهة الحرب.

يرمز لهذه الآلهة بالقمر وبنجمة الصباح أي كوكب الزهرة. وهي آلهة للقوة والخصب وتقابل في صفاتها الآلهة الرافدية عشتار والآلهة السورية أرتاقتس وآلهة الجمال اليونانية أفروديت. وسميت العزى في البترا الآلهة (ذات القناع) ولها منحوتات ونقوش عديدة داخل المدينة الأثرية.

That Al Qenaa
منحوتة للآلهة العزى (ذات القناع) في البترا

اللات

عُدّت اللات أكبر الآلهة الأنثوية والذكورية على حد سواء أي أنها “أم الأرباب” وكانت من أهم المعبودات في المنطقة وذكرت في كثير من نقوش وأدبيات الحضارات الأخرى كالبابلية والفينيقية واليونانية وبتسميات شبيهة باسمها “اللات”. ويدور الجدل فيما إذا كانت الأم العذراء للرب الأكبر “ذو الشرى” أم كانت حبيبته وزوجته.

يُرمز للات بصخرة مربعة بيضاء مزينة بالزخارف وتلقب “كعبو” وربما تكون هذه الكلمة أصل الكلمة العربية ” كاعب” وهي وصف للمرأة الحسناء التي ربما ما كانت سوى الآلهة اللات. أما إذا صارت الصخرة سوداء فترمز حينها للإله ذو الشرى نفسه. كما يرمز لها بالشمس وبحزمة القمح كذلك وبالماء الجاري والينابيع. أما في تدمر فقد رمز لها بأسد يقف بين قائمتيه غزال.

Al lat lion
الأسد الذي كان يزين معبد اللات

بالنسبة للأردنيين الأنباط، كانت اللات من أهم معبوداتهم فقد بنى “الملك رب أيل الثاني” معبدا في وادي رم وسماه “معبد اللات”. كما بني لهذه الآلهة معبد في تدمر سمي بمعبد الشمس ووجد على مدخله كتابة تفيد بأنه بني بأموال الربة اللات، وفي عام 1957 وجد تمثال من المرمر للآلهة اللات كما وجد لاحقا تمثال لأسد على قائمتين في مدخل المعبد.

Tadmor temple
بقايا معبد الشمس في تدمر  1900- 1920 من مجموعة صور مكتبة الكونغرس الأمريكية

مناة

إن كانت العزى هي آلهة الخصب والعطاء والولادة الجديدة فإن مناة هي وجهها الأسود. تعتبر الآلهة مناة آلهة الموت وقد عبدت على نطاق واسع جنوب المملكة النبطية الأردنية وتحديدا في الحِجر. سماها الأردنيون الأنباط “مناتو أو مناواة” وهي ترمز للموت أو القدر، فمن ناحية لغوية اسمها مشتق من كلمة “منية” والتي تعني الموت، وقد اقترح بعض العلماء أن اسمها مرتبط بالحظ والأماني أي أنها “آلهة الحظ والرعاية” لدى الأردنيين الأنباط. تتحكم مناة بالأرواح والعالم السفلي وغالبا ما يرمز لها بالقمر وبكأس بخور ويقترن ذكرها بذو الشرى. ويرجح علماء الآثار أن تكون الخزنة المنحوتة في الصخر بيتا للآلهة مناة بصفتها حامية وراعية العاصمة النبطية الأردنية ( البترا ). كما يذكر أنها ارتبطت بالاستمطار والسحب والمطر.

لقد أرخ الباحثون لهذا “الثالوث الأنثوي” الذي ظل مقدسا حتى عهد طويل. إن هذا الثالوث يفصح لنا عن مدى قدسية الأنثى وارتباطها بالسماويات عبر جعل كل آلهة ذات رمز كواكبي يعكس معناها. لقد عبد الإنسان النبطي الأردني آلهة أنثى أغنت حياته الدينية وجانبه الروحاني وصبغت جميع جوانب حياته بالموسيقى والفن والنقش والعمارة.

الوجه الذكوري من الآلهة

ذو الشرى

ذو الشرى أو وذ شرا أو دوسر كلها أسماء تدل على هذا المعبود النبطي العظيم. يكمن تميز هذا الإله من كونه الوحيد الذي لا يخرج من سياقه النبطي الأردني فلا نكاد نجد له أي أثر خارج حدود المملكة النبطية الأردنية على عكس كل الآلهة الأخرى. ربما يعود هذا التميز إلى كون هذا الإله مرتبطا بالسلالة الحاكمة وراعيا لها حيث جاء ذكره في نص بعنوان “رب الملك” كما ذكر نص آخر تحت اسم ” فاصل الليل والنهار” وفي نصوص أخرى باسم “سيد العالم والإله المنير”.

اختلف الباحثون عن سبب تسمية ذو الشرى باسمه، فبعضهم قال إنه يعود لمنطقة جبال الشراه جنوب الأردن التي لا تزال تحمل ذات الاسم، ويقترح أحد الباحثين أن اسم “شرى”  لا يرتبط بجبال الشراه بل  يُعنى بالزراعة الكثيفة ، ويرى آخرون أنها قد تكون مشتقة من العبرية بمعنى “سعير”.  وبوصفه أكبر الآلهة حظي باحترام وتقدير عظيمين حتى حمله التجار الأنباط في رحلاتهم، ففي ميناء بوتسوولي جنوب إيطاليا وجد نقش طيني بالخط النبطي يحمل اسم ذو الشرى.

 رُمز لذي الشرى بعدة رموز أهمها الشمس وهي ذاتها رمز زوجته أو أمه اللات وهي دلالة الخير عند الأردنيين الأنباط ولهذا اتجهت أنصابه نحو الشرق دوما، إضافة لعدة رموز أخرى كالصقر والأسد والثور والأفعى وكروم العنب. كما رمز له بكتل صخرية عالية الارتفاع وأنصاب سوداء على سطوح المنازل يحرق لها البخور وأخرى سوداء مربعة بارتفاع أربعة أقدام. كان ذو الشرى مرتبطا بكل ما هو طاهر بدلالة أن بجانب كل معبد من معابده مكان للاغتسال والطهارة قبل أداء الصلوات.

والناظر لطبيعة المدينة النبطية الصخرية  يجد أن كل جزء منها هو جزء من جسد الإله ذو الشرى واللات (التي رمز لها بالماء) تجري في عروق هذه الكتل الصخرية كما يجري الدم في جسد الإله ذو الشرى. إن هذا يعطي بعدا “طبيعيا” للميثولوجيا الدينية النبطية فلم تكن تستمد المعابد والهياكل قيمتها من ذاتها إنما من الطبيعة المنحوتة منها  (الماجدي: 2012).

Dushara
تمثال للإله ذو الشرى

أما عن مصير هذا الإله فقد ارتبط بعد مجيء الرومان بالإله ديونيوس (إله الخمر) وفيما بعد ارتبط بالإله زيوس الإغريقي ومن ثم أخذه العرب عقب انهيار الدولة النبطية وقدسوه حتى جاءت المسيحية ومن ثم الإسلام.

 

شيع القوم

 بتصويره على شكل محارب، حضر الإله شيع القوم في النقوش التدمرية النبطية على وجه خاص، فلم يكن حضوره قويا في البترا العاصمة. إله المحاربين وحامي القوافل، يتقرب له التجار بالنذور والقرابين ويمتنعون عن الخمر من أجله لأنه إله كاره للخمر. يرى الدارسون بأنه أقدم من الإله ذو الشرى لأن الأردنيين الأنباط عرفوا بزراعة الكروم وصناعة النبيذ في مراحلهم المتأخرة.

 

 

الكتبا

 كان الإله الكتبا راعيا للعلوم والكتابة والتجارة النبطية الأردنية. ورغم أهميته الكبيرة إلا أن المعلومات تتضارب بخصوصه، فبعض الباحثين يرجح أنه أنثى وأنه اسم آخر للعزى. وآخرون يرجحون أنه ذكر أو أنه في أحسن الأحوال الوجه الذكوري للآلهة العزى.

لقد تم الكشف عن هذا الإله لأول مرة على يد العالم ج. ستراغنل عام 1959 باكتشافه نقشا يحمل اسم “الكتبا” إضافة لاسم “العزى” على جبل في وادي رم. وجدت نقوش أخرى في مدن نبطية كمدينة جايا وكان النقش يقول “الكتبا.. الرب الذي في جايا” كذلك ذكر الإله في نقش في وادي صياغ وكان النقش يقول ” في حضرة الكتبا.. الإله ربنا”

ويرجح أن الأردنيين الأنباط قد نقلوا عبادة الكتبا إلى مصر القديمة في سياق علاقتهم التجارية القوية والممتدة آنذاك؛ فقد تم الكشف عن معبدين نبطيين في منطقة قصر الغيط وقد نقش على أحد المعبدين “من هاويرو ابن جيرام إلى الكتبا” يحاكي المعبدان معبد الأسود المجنحة ومعبد خربة التنور وغيرها من المعابد النبطية الرئيسة إلى حد كبير.

لقد وجد تمثال في نبع عين الشلالات في البترا وكان بطول 15-30 سم. وقد حفظ في كوى في الحائط. إن تمثال الكتبا خال من أي نحت لمعالم الوجه فيما عدا محجر العينين والذي غالبا ما تم حشوه بأحجار كريمة. فيما بعد، تأثر الكتبا بالحضارة الهلنستية واتصل بالإله هرمس-مركوري الذي وجدت له عدة آثار في خربة التنور.

آلهة الخصب النبطية

بعدما استقر المجتمع النبطي الأردني ودخل مرحلته الزراعية، شهد تطورا كبيرا في أساليب الزراعة والري. ولكن تلك الأساليب لم تقتصر على الجانب العملي إنما كان لها خلفيتها الميثولوجية القوية. فعندما ينحبس المطر وتتأخر المواسم كان الإله حدد  أو هدد هو سيد طقس الاستمطار ويوازي اليوناني جوبيتر وزيوس ويتشارك الثلاثة بقدرتهم على التحكم بالعواصف والبرق.  تبعا لأهمية هذا الإله سمي الملك الأدومي حدد بن بدد باسمه، ولقد ذكر في الكتاب المقدس[2] وفي تفسير القرآن[3].

حدد هو إله من أصل آرامي كنعاني قديم، تم تقديسه في شمال المملكة النبطية الأردنية (سوريا حاليا- حلب  وبصرى وحوران الأردنية على وجه التحديد) وقد كان الجامع الأموي معبدا للإله حدد قبل أن يصير كنيسة ومن ثم مسجدا. لقد لعب الإله حدد دورا مهما في الحياة الزراعية النبطية، وكان يرمز له بصاحب عرش مجنح بالثيران (الماجدي: 2012) أما الإله قيس أو قوس أو قيسو فهو إله من أصل أدومي مرتبط بقوس قزح وقد كان إضافة لحدد إلها تقدم له القرابين النباتية والنبيذ وعبد في منطقة التنور.

الإله حدد 2

(إذا سرق الحاكم ثيران الشعب وأخفاها أو عاث بحقولهم وزرعهم أو أعطاها إلى الأجنبي فإن أدّاد (حدد ) سيكون له بالمرصاد، وإذا استولى على غنمهم فإن أداد ( حدد ) ساقي الأرض والسماء سيبيد ماشيته في مراعيها وسيجعلها طعامًا للشمس ) نقش طيني على أحد معابد الإله حدد.    (الصورة للإله حدد من موقع pinterest)

في مرحلة لاحقة انسجمت صفات حدد وقيس وتداخلت مع ذو الشرى الإله الأكبر. كما تداخلت الآلهة “أترعتا” زوجة الإله حدد مع صفات اللات والعزى لتحولهما من آلهة صحراوية الطباع إلى آلهة زراعية خصيبة.

تأليه الملوك

لقد كانت عادة تأليه الملوك عادة شائعة في الحضارات القديمة. فكان الملك يؤله وترتبط صفاته بصفات الإله الجديد. فيذكر لنا الباحث زيدون المحيسن أن أحد الملوك كانت له مضافة وكان يجمع الناس ويقيم لهم الولائم ويشرف على خدمتهم بنفسه، كانت تلك المضافات تسمى “مرزحا” أي المعبد أو المجلس، ويذكر أن الأنباط قد ألهوا هذا الملك وسموه “رب مرزحا” أي سيد المرزاح.

إلا أن الأردنيين الأنباط عرفوا شكل أكبر وأعمق من تقديس الملك فحسب. فحسب الأدلة الكتابية عبد الأردنيين الأنباط الملك “عبادة ” (7 ق.م -125 ق.م.) وقدسوه بعد موته، ويرى الباحثون أنه قدم شيئا مميزا لشعبه جعلهم يقدسونه ويستعينون بذكره على المصاعب التي قد تلحق بسلالته الحاكمة؛ حتى وجدت بعض النقوش التي تحمل تسميات مثل “عبد عبادة ” وتشير النقوش في مدينة عبدة جنوب فلسطين إلى أن عبادة هذا الإله قد استمرت حتى 193 ق.م بدلالة وجود نقش على واجه المعبد يربط اسم الملك باسم الإله زيوس. وتقول بعض النقوش الأخرى التي وجدت في المعابد النبطية “ذكرى طيبة لمن يقرأ أمام عبادة الإله”.

كما قدس الأردنيون الأنباط ملوك آخرين على الرغم من كون عبادة أهمهم. فقد كان اسم الملك الحارث الرابع تتقدمه كلمة “عبد – الحارث” للدلالة على التبرك. كما عبدوا الإله مالك ( ا ل ه م  ل ك و)، يقول الباحثون بأن تعظيم وتقدير الأبطال وحبهم هو ما دفع بالأردنيين الأنباط لعبادة الملوك والأسلاف بحيث جُعل الملك البطل رمزا تحتذي به سلالته من بعده.

المدينة المعبد

عبد الأردنيون الأنباط هؤلاء الآلهة وكان لهم معبودات أخرى ثانوية الأهمية، فقد ذكرت النقوش العديد من الآلهة مثل هبلو وربة هيرابولس ولكنها لم تكن بأهمية الآلهة الرئيسة السابق ذكرها، كما أنها وفدت من حضارات أخرى كالرومانية والإغريقية في وقت متأخر نسبيا من تاريخ المملكة النبطية.

 ارتبط بعض هذه الآلهة الثانوية بالزراعة وبعضها بالعلم وآخر بقضاء الحاجات. وخضعت الديانة النبطية الأردنية لتحولات عديدة وفقا لتأثيرات البيئة المحيطة بها من محاولات الغزو والاحتلال والتلاقح الحضاري الحاصل بسبب اتساع النفوذ والتجارة.

كانت الميثولوجيا النبطية الأردنية بداية تفجر طاقات الإنسان النبطي فمنها استلهم النحت في الصخر، فجعل ذو الشرى الصخري يعانق اللات المائية عبر نظام مائي/صخري متفرد لا يتكرر، ومنها نرى أدراجا عملاقة للرقي لآلهة السماء ومذابح وقصور وأضرحة وتماثيل وكأن المدينة النبطية بأكملها معبد مقدس فأينما أقبلوا كان الإله حاضرا. وبهذا ترسم لنا كل زاوية من زوايا المدينة النبطية ملامح الحياة التي عاشها أجدادنا عامرةً بالفن والجمال والتدين.

المراجع

  • راسكين، س. (2009) المدن المنسية في بلاد العرب، ترجمة عبد الله الملاح، (ط1). أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث.
  • الماجدي، خزعل. (2012)، الأنباط: التاريخ، الميثولوجيا، الفنون، (ط1)، دمشق، دار نايا ودار المحاكاة.
  • الحموري، خالد. (2002)، مملكة الأنباط-دراسة في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، (ط1)، عمان، بيت الأنباط للتأليف والنشر.
  • الروابدة، ندى. (2008)، الحياة الدينية عند الأنباط، رسالة دكتوراة، جامعة دمشق، دمشق، الجمهورية السورية العربية.
  • المحيسن، زيدون.(2009)، الحضارة النبطية (ط1)، عمان، وزارة الثقافة الأردنية.
  • معبد اللات في تدمر، موقع اكتشف سورية.

English References 

 Allpas, Peter& John (2011) The Religious life of Nabatea. Doctoral thesis, Durham University

Nabatean Pantheon. Nabatean.net

 

الهوامش

[1] الزفت أو الأسفلت أو القير أو الحُمًر مادة نفطية ذات لزوجة عالية ولون أسود

[2] (سفر أخبار الأيام الأول 1: 46) وَمَاتَ حُوشَامُ فَمَلَكَ مَكَانَهُ هَدَدُ بْنُ بَدَدَ الَّذِي كَسَّرَ مِدْيَانَ فِي بِلاَدِ مُوآبَ، وَاسْمُ مَدِينَتِهِ عَوِيتُ.

[3] في تفسير الآية الكريمة :وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا”  واختلف في اسم هذا الملك فقيل : هدد بن بدد/ تفسير القرطبي

آلهة الأردنيين الأنباط والمدينة المعبد

1

عاش الأردنيين الأنباط في بيئة يغلب عليها الطابع الصحراوي جنوب الأردن، فقد كانوا في بداياتهم يعيشون حياة البداوة المبينة على الرعي والتنظيم البدوي البحت ، بعد ذلك و نظرا لأعداد السكان التي كانت بتزايد عال، فقد تنامت حاجتهم لوجود مصدر آخر لتلبية احتياجاتهم فقد عقدوا العزم على تطوير الأراضي الواقعة ضمن حدود دولتهم ليتمكنوا من القيام بأعمال الفلاحة فأصبحت من أهم أعمالهم و مصدرا رئيسيا للحصول على طعامهم و تأمينه و بذلك كانت المملكة النبطية الأردنية مركزا متقدما يجمع الأنماط الزراعية السائدة في ذلك الوقت وتلك المتقدمة عن الأمم التي عاصروها.

وبالرغم من أن معظم الأراضي الواقعة ضمن حكم الأردنيين الأنباط كانت غير صالحة للزراعة وتحتاج لحلول مبتكرة لتطويرها زراعيا فضلا عن قلة الأمطار أيضا ، إلا أنهم تمكنوا من حل العديد من المشاكل التي واجهتهم في ذلك فقد نجحوا بخلق وسائل زراعية مبتكرة فعمدوا إلى الزراعة في الجبال و التلال و اعتمدوا لها أنظمة تتلائم و طبوغرافيتها فضلا عن وسائل منع التربة من الإنجراف فقد أسسوا الأسيجة الحجرية و الجدران الاستنادية، وبذلك قام الأردنيين الأنباط بتوسيع مدى زراعتهم في الصحراء وتحولوا ليكونوا أكبر منتجي القمح و الشعير و أنواعا أخرى من الحبوب في المنطقة بالإضافة إلى زراعة الزيتون و البلسم و الكروم و كان ذلك في القرن الثاني قبل الميلاد، اذ أطعم الأردنيون الأنباط شعوب الشرق القديم من مزروعاتهم، ولم تقتصر البترا العاصمة على كونها مدينة تجارية لاستقبال القوافل من الشرق الأدنى بل تميزت بكونها مركزا للأنماط الزراعية المتقدمة، وهذا ما أوضحته العديد من الوثائق التي أورثها لنا أجدادنا الأردنيين الأنباط فيما يتعلق بالوسائل التي تم اعتمادها لتوسيع الرقعة الزراعية في الأراضي الصحراوية

و لعل التوسعات التجارية التي خاضها الأردنيين الأنباط هي من دعت إلى ظهور التوجه الوطني الذي دعا إلى قيامها بإتقان الزراعة وتطوير أدواتها في عهد الملك الحارث الرابع (9 ق.م – 40 م) أو كما يُلقب باسم “المحب لشعبه”  فقد شهدت فترة حكمه ازدهارا زراعيا على كافة الأصعدة .

2

و من باب انسجام الأردنيين الأنباط مع الحياة الزراعية، وانسجام ثقافتهم مع كون الزراعة نمطا حياتيا ليدهم، فقد تم اكتشاف مخربشة جدارية في إحدى المدن النبطية المعروفة بالحجر و التي كانت مأهولة آنذاك و تم قرآتها بـ ” السلام ، أكور بن يقوم ” حيث ظهر الاسم ” أكور ” من الفعل ” أكر ” و يعني ” زرع ” باللغة السريانية و قد اُختلف على دلالة هذا الاسم إلا أنه يشير عموما إلى وجود نشاط زراعة و فلاحة أو أن صاحب الاسم ينتمي إلى عائلة تعمل في الزراعة .

تمهيد الأراضي الزراعية عند الأنباط

شرع الأردنيين الأنباط في استصلاح الأراضي و تنظيف التربة من الزوائد  قبل غرس الأشجار وقذف البذور فيها، وقد استحدثت عدة طرق لتتماشى وطبيعة الأراضي التي سيُزرع فيها فقد استعمل الأردنيين الأنباط أساليب التمديد والحرث البدائية في الأراضي ذات المساحات الصغيرة كـ ( المعوَل ) الذي استخدم لتكسير الحجارة، و( المسحاة ) التي يُعمل بها في حراثة الأراض الطينية (المشبعة بالماء) و( المعزقة ) أو كما هو متعارف عليها باسم ( الفأس ) ، و من الأساليب التي استُخدمت لحراثة الأراضي ذات المساحات الواسعة كانت تلك الآلآت التي تجرها الحيوانات كـ ( الفدان ) و هي آلة الحراثة التي يجرها ثوران أو كالكراب الذي يستخدم أيضا للحراثة و تجره بقرة .

و بعد حراثة الأرض ينشغل الفلاح النبطي بنثر الحبوب بطريقة متساوية ومنتظمة ويستخدم لأجل ذلك بعض الآلآت كـ ” المالق” أو ” المملقة” وهي خشبة عرضية يجترها ثور أو ثوران لتملس التربة المزروعة  أو “المجز” و لعل شكلها كان كالأسنان و تنعقد من الأعلى بثوران فيجراها ثم تنغرس أسنانها في الأرض إلى أن تصل إلى قاع الأرض المحروثة و تقلب التربة على الحب لتضمن دفنه و طمره.

وقد استخدم الأنباط السماد لتقوية الأرض وإستعادة حيويتها حيث استخدموا فضلات الحيوانات و الزبل أو تدبيل الأرض باستخدام السرقين أو السرجين.

الأنماط الزراعية عند الأردنيين الأنباط

استخدم الأردنيون الأنباط نظام المدرجات أو المصاطب لزراعة الأشجار في المرتفعات الجبلية وعملوا على إسناد جوانبها بالصخور والحجارة تجنبا لإنجراف التربة وانهيار المزروعات فيها وتنبع أهمية هذا النظام  بأنه يعمل على إبطاء جريان المياه مما يساعد في ترسيب أكبر كمية من المياه والمواد العضوية في التربة المزروعة  فقد قاموا بزراعة العديد من المزروعات التي تقوم بامتصاص الرطوبة ككروم العنب وهذه الأنماط لا تزال ظاهرة للعيان في منطقة الجي و براق و عيلمون بالقرب من البترا و من الجدير بالذكر أن الأنباط كانوا يقومون بزراعة الأشجار من النوع الغير صالح للأكل أو السام على هذه المدرجات من أجل ترتيب التربة وتثبيتها وتقليل جريان المياه.

و قد كان نظام “تليلات العنب” أو ما يعرف بـ “أكوام الكروم” و هو أحد الأنماط الزراعية المتطورة التي استخدمها الأردنيون الأنباط للتحكم بالمياه واستصلاح الزراعة في سفوح التلال فقد كانت على شكل أكوام من الحجارة مرتبة هندسيا وقد ظهرت عدة نظريات تفسر الغاية من وضع الأكوام الحجرية فقد كانت النظرية الأولى تتحدث عن التقليل من عملية التبخر في التربة ولأجل تجميع قطرات الندى أما النظرية الأخرى فكانت تتحدث عن أن هذه الحجارة كانت قد أزيلت عن الارض لتنظيم عمليات التعرية و جعل الوديان أكثر خصوبة .

المزروعات والمحاصيل النبطية و مواطنها

 

تعد عمليات التبادل التجاري عاملا أساسيا في ازدهار الزراعات النبطية ولاعتبار الزراعة أيضا منحى من مناحي اقتصاد الدولة النبطية الأردنية ولهذا عُدت عملية استصلاح الأرض بما يتماشى مع نوعية المحاصيل وطبيعة التربة أحد أهم الخطوات التي تسبق الزراعة، و بذلك قاموا باستغلال ما يمكن استغلاله من الأراضي التي كان من المجدي استصلاحها، فكانت منطقة جبال الشراه موطنا لزراعة الفواكة كالكرمة و الرمان بالإضافة إلى الزبيب ومنقوعه اللذان كانا يعتبران مادة مناسبة لاستهلاك المهاجرين والتجار كما كانت هذه المنتوجات أحد عناصر صناعة الخمور في الحضارة النبطية باعتبارها أحد الطقوس الدينية والاجتماعية عدا عن أهميته كمنتج تجاري مهم في ميزان الصادرات النبطي، فقد تم اكتشاف معصرة للعنب في خربة ذريح إلى الجنوب الشرقي من المعبد، كما توسع الأنباط في زراعة الفاكهة كالتين الذي يعد من المنتجات المناسبة صيفا و شتاءا فضلا عن تصديره للتجار بعد تجفيفه.

اعتبرت زراعة البلسم من أكثر الزراعات الأهمية لمكانته الاستراتيجية في التجارة و البلسم هو أحد أنواع الصمغ الذي يستخرج من شجرة البلسان أو البيلسان و يعتقد أن زراعة البلسم قد توطنت في المناطق الواقعة على الضفاف الشرقية لنهر الأردن.

و قد توسع الأردنيون الأنباط في زراعة الحبوب تبعا للزيادة السكانية الحاصلة فقد توسعوا في سهول حوران الأردنية الشمالية وصولا إلى جنوب دمشق وأجزاءا من سهول مؤاب بالإضافة إلى الصحراء النبطية المحيطة بجبال الشراه فزراعة الحنطة تمت بالتحديد في منطقة الحميمة و منطقة عبده لتوفر المياه والتربة الخصبة فيها بالإضافة إلى زراعة الشعير فضلا عن اتباع الأساليب الزراعية ذاتها في كلا المنتجين.

و تجدر الإشارة إلى إلى أن الأنباط كانوا يصدرون الزيت المستخرج من السمسم (زيت السيرج) باعتباره بديلا مهما وأكثر رواجا من زيت الزيتون .

و من المحاصيل الزراعية التي اهتم الأردنيون الأنباط بزراعتها شجر الزيتون حيث أنها كانت أنسب المزروعات التي تتم على الجبال بالإضافة إلى أنها لا تحتاج للرعاية والري الدائم  فعلى الجهة الجنوبية الغربية من المعبد بنيت معاصر الزيتون، و يعد وجود مصنع النبيذ و معصرة الزيتون أحد أهم الدلائل على تقدم الأردنيين الأنباط في مجال الانتاج الزراعي و قد ذكر بعض المؤرخين ومنهم  “بليني” و “سترابو” أن بداية العمل في المعصرة كانت في نهاية القرن الأول قبل الميلاد و قد ثار الجدل بين  بعض الباحثين على تاريخ عصر الزيتون عند الأردنيين الأنباط لوجود أكثر من معصرة داخل حدود الأنباط  بالأخص في جبال الشراه النبطية و وادي موسى.

ونتيجة للانفتاح النبطي الأردني على الحضارات والممالك المجاورة، وامتدادا لعمليات التبادل التجاري البينية مع هذه الحضارات فقد جلب التجار القادمين من بلاد الرافدين إلى المملكة النبطية شجر النخيل الذي زُرع في المناطق الغورية لتناسب زراعته مع مناخ الغور الاردني .

ويعتقد بعض الباحثين بأن شجرة الصنوبر كانت ذات قيمة رمزية مهمة للأردنيين الأنباط وذلك لقداسة الشجرة في طقوسهم الدينية فزينوا منحوتة الإله Eros بثمار نبتة الصنوبر.

كما قام الأنباط بزراعة الأصطفرك – وهو نبات معمر يستخدم لتثبيت العطور – والزعفران و نبتة “costas” المعطرة بالإضافة إلى زراعة الفلفل الأخضر.

الميثولوجيا الزراعية عند الأنباط

انفتحت الآفاق الروحانية لدى الأنباط بما يخص العبادات والطقوس الروحانية على كافة المجالات الحياتية فقد اندمج الأردنيون الأنباط مع مجامع الحضارات التي كانت متواجدة في تلك الحقبة ليصيغوا من هذا الخليط آلهة متعددة  عكست جمالية الطقوس الدينية وحولت انجازات الأردنيين الأنباط وتقدّمهم إلى رموز دينية، و على أثر هذا الانخراط الحضاري الحاصل، تشبّع الأنباط بالعقائد الدينية الزراعية مما حفّزهم على إنشاء المعابد و تقديم القرابين النباتية وتقديس الكروم باعتبارها رمزا للإله ذو الشرى ولقد تعددت مسميات الآلهة وارتباطاتها الزراعية كالآله “بعل” وهو امتداد للآله  “حدد” والذي يرمز له بإله المطر والصواعق، وتقول الميثولوجيا بأن الأنباط استطاعوا أن يضفوا عليه طابعا وتقديسا زراعيا ليتماشى مع حياة الأردنيين الأنباط و زراعتهم الصحراوية.

الإله حدد 2
الإله حدد

و من الآلهة النبطية المرتبطة بالزراعة أيضا الإله “قوس” أو “قيس” أو “قيسو” أو كما وجد على خربة تنور بـ “قس إله حورا” قد عُرف ارتباط هذا الإله بالمطر و قوس قزح، و قد أدى ارتباط الآلهين “حدد ” و “قيس” إلى التحامهما بإله ” ذو الشرى”  وإعطاءه طابعا زراعيا. ويقترح أحد الباحثين أن اسم “شرى”  لا يرتبط بجبال الشراه بل يُعنى بالزراعة الكثيفة. في المرحلة المتأخرة من الحضارة النبطية وتأثره بالحضارة اليونانية  أصبح ذو الشرى يوازي الأله “زيوس” في اعتباره إلها للخمر والكروم وانتشرت فيما بعد عادات تقديس الكرمة وعادة إراقة الخمر على القرابين إضافة إلى ما تذكره المصادر من أن الأنباط كانوا يحجون إلى غابة ويتبركون بمائها وأشجارها.

Dushara
الإله ذو الشرى حاملا قطف العنب

أما الآلهة الأنثوية النبطية فلم تعبد إلا بوصفها آلهة للخصب، فاللات والعزى ذوات رموز زراعية كحزمة القمح والخلفية شديدة الخضرة وأعيادهما مرتبطة بمواعيد الحصاد والبذر وتكاثر الحملان. كما وجدت الآلهة “اترعتا” أو “اتر- تا” حيث كانت زوجة الإله “حدد” فقد كان عرشها مجنحا بالأسود على غرار عرش زوجها المجنح بالثيران.

و على ضوء هذا كان الأردنيون الأنباط سباقين لاستصلاح الأراضي فضلا عن تحسين التربة والمحافظة على المياه لأغراض الزراعة في بقاع عديدة من دولتهم لا سيما في وادي عربة الذي كان القسم الخصب للزراعات النبطية، إضافة إلى منطقة مؤاب في جنوب الاردن التي كانت موردا زراعيا لا مثيل له للملكة النبطية الأردنية لقرنين من الزمان.

لقد مرت الحضارة النبطية بمرحلتي البداوة والترحال إضافة لمرحلة ازدهرت فيها الزراعة ازدهارا عظيما. لقد أدى هذا الانتقال إلى ثورة نبطية في النظم المائية رافقتها ثورة أخرى على صعيد الميثيولوجيا والعبادات. كانت حياة أجدادنا الأنباط عبارة عن نظم رائعة متداخلة أفضت إلى حضارة في غاية التعقيد والجمال.

 

المراجع :

عباس ، إحسان ، تاريخ دولة الأنباط ،الطبعة الأولى ، 1987 ، (بيروت – لبنان)

المحيسن ، زيدون ، الحضارة النبطية ، وزارة الثقافة ، الطبعة الأولى ، 2009 ، (عمان – الأردن)

الحموري ، خالد ، مملكة الأنباط : دراسة في الأحوال الإجتماعية والإقتصادية ، الطبعة الأولى ، 2002 ، بيت الأنباط ، (البتراء – الأردن)

سورية الجنوبية (حوران) ، بحوث أثرية في العهدين الهلليني و الروماني ، ترجمة أحمد عبد الكريم ميشيل عيسى سالم العيسى ،1988 ، – كتاب مترجم عن الفرنسية –

حضارة الأنباط من خلال نقوشهم ، أحمد العجلوني ، الاردن ، 2003

الفلاحة النبطية لابن وحشية ، ترجمة أبو بكر أحمد بن علي بن قيس الكسداني ، القرن العاشر الميلادي

الماجدي ، خزعل ، الأنباط (التاريخ ، الميثولوجيا ، الفنون) ، الطبعة الأولى ، 2012 ، دار النايا و دار المحاكاة للدراسات والنشر والتوزيع ، (سوريا- دمشق )

الأنباط : تاريخ و حضارة ، عزام أبو الحمام ، 2009، عمان

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (الجزء السابع) ، جواد علي ، ط 2 ، 1993 ، بغداد

تاريخ سورية و لبنان و فلسطين ، فيليب حتي ، ط 3 ، 1957 ، بيروت

أنظمة الزراعة عند الأردنيين الأنباط

Scroll to top