مقدمة

بات من الواضح للمؤرخين بأن نضال الأردنيين نحو الاستقلال بحكم مركزي  قد بدأ منذ فترة طويلة خاصة بعد أن أثبت أنه الأفضل في ترجمة تطلعات وطموحات الشعب بمختلف الحقب الإسلامية، وقد امتدت سلسلة  الثورات الصغرى  في تاريخ الاردنيين النضالي لأمد طويل، واندلعت الثورات بتسارع  وظلت مستمرة ومتقطعة جيلاً بعد جيل، وتارة لاستعادة الاستقلال الذي ظل حلماً قريباً تحول دونه قوى خارجية. وبعد كل ثورة كان تخضع قوى الحكم الخارجي للإرادة الأردنية أو يتم كبح جماح الثورات الأردنية عبر إبادات جماعية و بسط للسيطرة و النفوذ بقوة الجيوش الجرارة التي تم توجيهها على العشائر الأردنية لمرات لا يمكن حصرها .

لكن رغم كل هذه الظروف و التحولات التاريخية القاسية ظلت النزعة الاستقلالية موجودة وبعثت العشائر الأردنية ما مفاده أن الأردن لن تحكم من خارجها واستمرت العشائر الأردنية بمقاومة السلطة الخارجية من الثورات الصغرى و الوسطى حتى كللّت طموحها الجمعي بالاستقلال عبر الثورة العربية الكبرى .

 

قدمنا في البحث الماضي سردا تاريخيا موجزا واضاءة معرفية على واحدة من الثورات الأردنية الصغرى (ثورة الأردنيين عام 1670 )، في هذا البحث نستكمل مسيرة توثيقنا واستعراضنا للثورات الصغرى بالحديث عن ثورة الزعيم الأردني كليب الفواز ومعركة الجابية.

السياق الاقتصادي السياسي

 كانت الأردن تعيش حالة من الحكم الذاتي المستقل لأغلب الحقبة الاسلامية المتوسطة (الأيوبية المملوكية) وعند خيانة ولاة المماليك وتسليمهم الولايات للعثمانيين التي كانوا يحكمونها مما أدى لتبلور الخيانة في معركة مرج دابق، وجد العثمانيين رفضاً لحكمهم بالأردن وما عرف بثورة 1519 التي نشرنا تفاصيلها سابقاً، فما كان من العثمانيين الا أن نقلوا طريق الحج من الطريق الملوكي الى الشرق منه في خطة تهدف لكسر البنية الاقتصادية الحاضنة للنزعة الاستقلالية الرافضة للهيمنة الخارجية. وبالتفاصيل فان الخط القديم كان يحوي على محطات خدمات للحجاج كل 50 كيلو متراً (وهي مقدار المسافة التي تسيرها الابل في يوم واحد) على الخط، فكان الحجاج والتجار والرحالة يستأجرون الابل ويطعمونها ويبيتون في هذه المحطات التي كانت تسمى مفردةً بالخان، وكان الأمن مستتباً في ظل توازن واستقرار المصالح الاقتصادية والروابط الاجتماعية والتاريخية بين الأردنيين على طول الطريق الملوكي. أما خطة العثمانيين فكانت تهدف لأن يتم تقليل عدد هذه الخانات من  فتتحارب العشائر الأردنية فيما بينها على الفرق ويضيع الأمن وتسخر الثروة في الحروب البينية. لكن خطة العثمانيين بائت بالفشل الى حد كبير حيث أن الزعامات الأردنية كانت تخرج بعد كل فتنة كان يخلقها العثمانيون فتقوم هذه الزعامة على عمل تحالف عشائري تضمن زعامة محلية وتوزيع عادل للاقتصاد بين المناطق.

لكن هذا النموذج من ريادة الأعمال والاستقلالية الاقتصادية لا يتماشى مع عقلية الباب العالي حيث كانت الاستراتيجية تتلخص بالنقاط التالية:

– تحويل بؤر الانتاج الخدمية على طريق الحج والتجارة الى مراكز تحصيل ضريبة جائرة تجبر الأردنيين على انتظار المعونة من وزير الحج لتعويض النقص. ومن ثم  تحويل الأردنيين من مقدمي خدمات الحجاج الى موفرين للأمن من أردنيين آخرين خسروا مهنتهم المتوارثة على طريق الملوك قبل نقله وتقليص عدد مراكزه عام 1519 وهذا ما عرف لاحقاً بنظام “الصرة”

  • خلق حالة نزاع دائمة بين عشائر وصلت لتفاهمات على مراكز خدمات الحجاج لآلاف السنين.

– تفتيت التمثيل من تمثيل كامل مناطق الأردن لتمثيل منطقة محددة أو قبيلة بعينها بحيث يسهل الاستفراد بها.

  • الضرائب الجائرة والتي تبتدأ ب25% على الدخل و10% على المبيعات في خانات الحج

ولكن وما إن تستقر هذه الزعامة حتى يعمل العثمانيين على تدميرها لأن استقرار الأمور كان يعني نمو قوة الأردنيين وقدرتهم على الاستقلال. وبالتالي تتكرر الفتن والثورات المناوئة على طول الأربعمائة عام من الاحتلال العثماني المباشر وبالوكالة للأردن وكما حصل غير مرة مع زعامة الفواز للثورات الأردنية الصغرى.

ثورة الزعيم كليب الفواز ومعركة الجابية

بعد سلسلة الثورات الصغرى التي استعرضناها سلفا جاء الشيخ كليب بن حمد بن إرشيد الفواز خلفا لوالده الشيخ حمد، واعتبر الشيخ كليب كواحد من أقوى الزعامات الأردنية التاريخية، من حيث قوة شخصيته وقوة جيشه وزعامته ومكانته، ويعود أول ظهور له  في المراجع لعام 1690.

استمرت زعامته لعشيرة السردية وتحالفها مع باقي العشائر الأردنية حتى عام 1709، حيث امتدت زعامته لتحالف العشائر الأردنية من المزيريب شمال درعا وصولاً للمناطق الشمالية من المدينة المنورة ومن الجوف شرقاً وحتى الشريعة (نهر الأردن) غرباً، وقد امتلك كليب الفواز كافة أسباب المنعة والقوة من جيش قوي وشخصية مهابة وتحالفات قوية، وهو جزء مما ورثه عن والده حمد الذي قتله الوالي العثماني، وجده ارشيد الذي عرف أنه أشهر من قام بالتحالفات العشائرية الأردنية في ذلك الوقت، كل هذه الأسباب جعلت منه خصماً ونداُ قوياً للعثمانيين ومصدر قلق ورعب وإزعاج لولاتهم وسلاطينهم.

حاول الفواز عام 1700 المضي بنموذج العثمانيين الاقتصادي المعتمد على توفير الأمن بعيداً عن دور الأردنيين التاريخي بتقديم خدمات النقل والمبيت فجهز قوة كبيرة من العشائر الأردنية واختار خيار السلم مع العثمانيين على أن تبقى الأردن تحكم محلياً وتورد منها الضرائب بالوكالة بحسب تقدير أبنائها. لكن مخطط العثمانيين كان يهدف بالدرجة الأولى لتفتيت قوة المنطقة ولذلك وحتى عندما قبل الأردنيين بدفع الضرائب الجائرة  والتحول لدور توفير الأمن منه للانتاج الزراعي والاقتصادي الخدمي، تخلف العثمانيون عن الوفاء بجزئتهم من الاتفاق ولم يرسلوا “الصرة” للفواز لينفقها على كوادر الأمن من فرسان العشائر الأردنية فما كان من الفواز الا تعليق الاتفاق واعلان الطريق عبر الأردن غير نافذ. وقد كان اغلاق الطريق وسيلة احتجاجية ناجعة حيث أنها غير مكلفة، وتوقف دفع الضرائب، وتستدعي رداً عسكرياً أو مالياً مكلفاً للخصم العثماني المعتمد على الاتجار بالدين لتخدير الشعوب عن المطالبة بحقوقهم الاقتصادية والسياسية. .

 وفي عام 1701 اقتنع العثمانيون بأن صف الأردنيين كان مرصوص ولا مجال لاختراقهم بفتنة، وأن قوة الأردنيين بزعامة الفواز لا يمكن هزيمتها عسكرياً، فأرسلوا بطلب الفواز وهادنوه وتم صرف المستحقات المالية لكوادر الأمن وخيلهم وعتادهم فخرج الفواز على رأس قوافل الحجاج عام 1702 وعاد بها سالمة، كما استطاع تخليص جردة الحج عندما تعرضت للهجوم في ذاك العام[1] ، وفي العام التالي 1703 عادت قوافل الحج سالمة بفضل كليب الفوّاز الذي تكفل هو والعشائر المتحالفة معه بحماية الحج. وفي عام 1704، أتت سنة محل على المناطق الأردنية المتخمة بالضرائب الجائرة والتي أضعفت بها قطاعات الاقتصاد الخدمية التي خلقت استدامة بالسنوات العجاف زراعياً فحاول الشيخ كليب الفواز تخفيف العبئ الضريبي الذي تم تحميله للأردنيين لتلك السنة خاصة وأن الضرائب كانت بمقدار 25% على الدخل و10% على خانات الحج. لكن العثمانيين تعنتوا وحاولوا ارسال حملة عسكرية لجلب الضرائب بالقوة، لكنها لم تستطع دخول حدود الزعامة الأردنية على حدود درعا. وعند وصول الخبر للسلطان تبدى له أنه يستطيع تعيين حاكم للمنطقة من خارجها واعلان الشيخ كليب الفواز “باغي على شرع الله وحكمه” لترويج أحقاده من خلال الستار الديني. وعلى اثر ذلك أعلن الشيخ الفواز نهاية الاتفاق السابق وبدأ الثورة. وقد تم الوصول لـ 23 وثيقة عثمانية تعود لعام 1704 يكتب فيها السلطان العثماني بكامل “قوته وعظمته”، ويوجه جميع الحكام والقادة الموجودين في المنطقة الممتدة من شمال حلب وصولاً لغزة، يناشدهم فيها القضاء على ما وصفه بـ “الباغي كليب”.

kleeb0001

kleeb0002

kleeb0004

kleeb0003

جانب من الوثائق الـ 23 التي وجهها السلطان العثماني في حينه الى الولاة في مختلف المناطق المجاورة تنص معظمها على :

“أمير أمراء الشام محمد دام إقباله مأمور بهذه الخدمة الجلية، ولقد أمرت والي الرقة وزيري يوسف باشا بأن يودع أمر ونظام ولايته لكتخداه ويتوجه هو مع كامل رجال قصره الى مناطق جنوب الشام لدفع شر الباغي كليب، الذي كان شيخاً لها، وسلك طرق العصيان والتمرد مع أشرار العشائر الذين هم على هواه وشاكلته، ويسعى الآن للإضرار بقواتنا في المنطقة، وليقوم الوزير المشار اليه بحماية مناطق الشام، كما أمرنا والي صيدا بيروت وزير محمد باشا بارسال خمسمائة من الرجال، وأمرنا مصطفى متصرف نابلس على وجه التخصيص التوجه بنفسه مع أعداد وفيرة من رجالك الى حيث يوجد الوزير المشار اليه وتكون من جردته لتبذل كل ما في وسعك لتحقيق خدماتي العلية وفق رأيه الصائب في دفع شر كليب والبغاة، ولتبذل كل جهدك لتحقيق خدمتي العلية على أحسن وجه، وهذا أمري عالي الشان في كل ذلك”

 

معركة الجابية : الأردنيون يقتلون الوالي العثماني

وفي 1705 كان الوالي العثماني على دمشق وهو حسين باشا الفراري مصراً على القضاء على الأردنيين، رغم نصح مستشاريه له بأن يتخلى عن استخدام القوة ضد الشيخ كليب وجيشه من فرسان العشائر الأردنية أحفاد القوات المقاتلة التي أذاقت المماليك الويلات سابقاً. قام الشيخ كليب الفواز بارسال كلمته المشهورة ان ” احقنوا دماء أهالي المنطقة” لخطباء المساجد ليحثوا أبناء دمشق وجوارها على أن لا يلتحقوا بالحرب على جيرانهم الأردنيين منبهاً أن هذه الحرب هي مع الأتراك العثمانيين وأعوانهم فقط، وقد كان لدى كليب من الحكمة اللازمة لأخذ المبادرة في ذلك، وهو يواجه السلطة العثمانية الراغبة بكسر قوة العشائر الأردنية في المنطقة المتمثلة في كليب والملتفة حوله في ذلك الوقت. حشد كليب جيشاً من العشائر الأردنية المساندة له كان قوامه 20 ألف مقاتل من فرسان العشائر الأردنية بينهم 4000 فارس على خيول، منهم 700 فارس من أرباب الدروع المصفحين، وسار لملاقاة جيش الاحتلال العثماني الذي وصل تعداده لـ 30 ألف مقاتل، عندها أرسل الوالي العثماني إلى أمير الجردة حسين باشا بن القواس الذي كان مخيماً بالقرب من قرية شقحب ومعه حوالي عشرين بيرقاً لمعاونته على قتال كليب، لكنه بقي مكانه لأنه كان قد تعاهد مع كليب على حقن دماء أبناء المنطقة، وكان كليب يتقدم كل يوم نحو معسكر الوالي العثماني وقواته، وبنفس الوقت يرسل إليهم من يناشدهم حقن دماء الناس، فكان الوالي يقوم بسجن رسل كليب وزجهم في قفص حديدي، وكان الجميع في دمشق ينصح الوالي بالصلح، إلا أنه رفض ذلك غير آبه بمصير الآلاف من جيشه وما تم جمعه من مرتزقة لمعاونته . [2]

وقد طلب كليب من قاضي دمشق التوسط بحل هذه القضية وبقي ينتظر رده فلم يرد له جواب، وكان مضمون رسالة كليب لهم: “إن قتالي كان على وجه شرعي لأني أطالب بحقوق شعبي، وإني سوف أقاتلهم، أرجوا أن تبينوا لي فأنتم علماء وأهل فتوى، أو اسعوا في الصلح لحقن دماء أهل المنطقة”.[3]

وقد كان كل هذا في إطار المحاولات الدبلوماسية لتدارك الأمور قبل أن تصل لحد القتال وقد قام علماء دمشق وقاضيها بعرض هذه الدعوة للصلح على الباشا فلم يوافق عليها وكان قاضي دمشق يميل للصلح وأرسل جماعته ليرسلوا له عرضاً مكتوباً في صلح كليب، وقالوا : “نريد اجراء الصلح وحقن الدماء” وكان كليب ينتظر الجواب الا أن أتاه رد الوالي العثماني بأن خيول جيش العثمانيين ستعود لاستنبول وبأرجلها رؤوس جيش كليب. فما كان من جيش الأردنيين أمام هذه العجرفة المعتدة بالعدد وسواد الخنوع في مناطق أخرى الا أن تزحف باتجاه معسكرات الجيش العثماني، حيث أرسل كليب نذره إلى الوالي يتوعده في الصباح. وكان بعض مرافقي الوالي أشاروا عليه بمهاجمة كليب قبل أن يقوم بمهاجمتهم، إلا أنه رفض. وفي الصباح أرسل كليب ثلاثة آلاف جندي الى معسكر الوالي المتخم بثلاثين ألف فقاموا بالهجوم على عسكر الوالي وأخذوا أحمالا لهم فقام العسكر والوالي باللحاق بهم، فلما وصلوا إلى جبل خرج عليهم كليب وقواته من بين ثنايا الوديان، فقتلوا منهم الآلاف وأسروا الكثير بحثاً عن الوالي الذي توعد الأردنيين بجر رؤوسهم بأرجل الخيل الى استنبول. كان الوالي في المؤخرة، فتم الهجوم عليه وقتله ورميه أرضاً ووضعه برجل جمل، وتعرض العسكر العثماني إلى قتل شديد وتم تجريدهم من كل شيء معهم، فلم يرجعوا إلى دمشق بشيء من الجمال والخيول والدواب، وبقيت جثة الوالي معلقة بقدم أحد الجمال لمدة ثلاثة أيام بالقرب من قرية الجابية وهي منطقة قرب درعا شمال حوران الأردنية دون أن يتمكن أحد من الجنود العثمانيين من أخذها، فقد فر معظمهم مشياً على اقدامهم لدمشق وقد كان ذلك رداً على توعد الأردنيين بالاذلال وربط رؤوس قادتهم بحواف الخيل. صعق السلطان العثماني من نبأ قتل واليه وأغلب جيشه ووصل حقد العثمانيين على العشائر الأردنية وعلى كليب الفواز خاصة الى حدود غير مسبوقة حيث أن خبر كسر هيمنة السلطان بدأ يثير طموحات الشعوب المحتلة الأخرى على الثورة.

غضب عثماني وانتقام من حلفاء كليب

ونلاحظ مما سبق أن كليب حاول حل الموضوع دبلوماسياً خلال كافة المراحل التي سبقت القتال وقد استمرت المناوشات لمدة ثلاثة أيام، وحتى مع بداية القتال نفسه، فقد أرسل الرسل قبل وصوله، وأرسل الرسل ليلة المعركة، وإمكانية تدارك ذلك إلا أن الوالي العثماني أخذه الغرور والتعنت ولم يرتدع وقرر جعل الأردنيين عبرة لمن يفكر بالثورة على الاحتلال العثماني، وكان ما كان من نصر لكليب والأردنيين، نتيجة للحنكة العسكرية الواضحة في إدارة المعركة، بل حتى في الاستعداد الاعلامي الاستراتيجي لها، فما كان لأحد أن يجمع هذا العدد من الجيش لو لم يمتلك الأسباب العادلة والكافية لذلك، وهي التي دفعت معظم عشائر الأردن للتحالف معه بالاضافة لتمكنه من استمالة العلماء والتجار في دمشق. وبعد الهزيمة النكراء حاول العثمانيون الانتقام من المتحالفين مع كليب ومن لم يتحالفوا معهم ضد كليب، فقد قاموا بنهب قرية “شقحب” والتنكيل بأهل القرية الموالية لابن قواس جزاء رفضه المشاركة في محاربة العثمانيين للأردنيين، بينما المفارقة أن كليب المنتصر قام بالعفو عن من خانه وتحالف مع العثمانيين، فقد خرج حاكم القدس لمساندة قوات حسين باشا، وتحصن في مكان يسمى الخربة، بها عمارة وعليها حصن وفيها بئر ماء فتحصنوا بها، وأخذت قواته تضرب قوات الشيخ كليب التي كانت تحاصرهم، وقد حاول هؤلاء المحاصرين طلب الإمدادات من العثمانيين، فلما وصلتهم الأنباء أن الوالي العثماني قتل، عرضوا على كليب أن يطلق سراحهم ففعل على أن يتعهدوا بعدم موالاة أي غازي عثماني على الأردن، ذلك لأن رجولته وملامح شخصيته الأردنية لم تكن لتسمح له بالاستقواء على المهزوم فاتخذ العفو بدلا عن سياسة التنكيل العثماني.

أسباب ومبادئ تحالف الأردنيين وثوراتهم المتتالية ضد العثمانيين

تشكل معركة الجابية التي شارك بها الأردنيون تحت قيادة الزعيم كليب الفواز، إلى جانب غيرها من الثورات التي سبقت ذلك والثورات اللاحقة، حالة أخرى من النزعة الوطنية التاريخية نحو الاستقلال والتحرر من أي سلطة خارجية تحاول أن تمارس الوصاية على أسلوب الحياة الاقتصادي والاجتماعي، ورفض الاتجار بالدين لتسويق الظلم، الأمر الذي يدفع كل المكونات الاجتماعية للوقوف في صف واحد، سيما مع إهمال العثمانيين للمنطقة والتعامل معها كمزرعة لجمع الضرائب فقط.

وكانت العلاقة السائدة في تلك الفترة هي علاقة تحالفات، فطريق الحج الممتد من جنوب دمشق حتى أطراف المدينة يستحيل على قبيلة واحدة أن تشرف عليه بمفردها فقد كان عدد الحجاج في الموسم يتراوح ما بين 13-14 ألف حاج، كل منهم بحاجة لجمل أو اثنين مع المتاع، فعرفت عن العشائر الأردنية قدرتها الكبيرة على إقامة التحالفات لضمان مصالحها ووجدت عدة مراكز لإدارة وحماية طريق الحج أهمها عجلون، والسلط، والكرك، إلى جانب العقبة، وعملت على تأمين الجمال للحجاج الذين كانت تستلمهم قرب نبع ماء في منطقة المزيريب شمال درعا، وتضمن حماية قوافلهم وصولاً للمدينة المنورة، وتعدى ذلك لسن مواثيق وعهود تنظم عملية الإشراف على طريق الحج حتى أن توزيع الخانات بما تشمله من مرافق وأسواق كان منظماً بحيث يقام خان كل 50 كم وهي مسافة سير الجمل لمدة نهار كامل، وكان من ضمن تلك التحالفات قبائل أردنية أخرى منها على سبيل المثال لا الحصر : العمرو، وبني عطية وغيرها، وقد كان من أشهر الأمثلة على تلك التحالفات ما عرف بحلف الفحيلي الذي كان يتكون من السرحان والسردية والعيسى، ثم تشكل لاحقاً حلف جديد يضم العشائر المنطوية في حلف الفحيلي وصار يعرف بحلف أبناء الشمال بعد انضمام بني صخر، ونرى أثر هذه التحالفات في معركة الجابية، فيستحيل على كليب الفواز جمع 20 ألف مقاتل من قبيلة واحدة فذلك يعني أن عدد أفراد تلك القبيلة سيكون 100-200 ألف على أقل تقدير ولم تكن تتواجد قبيلة بهذا العدد في ذلك الوقت مما يثبت أن القوات المحاربة مع كليب الفواز كانت من أبناء كافة العشائر الأردنية المنضوية في الحلف ، حيث يذكر المؤرخون أن العشائر المتحالفة مع كليب كانت تسير باتجاهه ثلاثة أيام للوصول اليه والانضمام لقواته ودعمه في الوقوف بوجه العثمانيين في ذلك الحين[4].

 

 

الحقد العثماني على الأردنيين ما بعد ثورة الجابية :

لم ينسَ العثمانيون ثأرهم، وبقيت منطقة الأردن تعاني مزيداً من الإهمال والتهميش، بعد مقتل حسين باشا الفراري على يد كليب الفواز وقواته عام 1705 ، تم تعيين والي جديد هو سليمان باشا الذي عُرف عنه أنه رجل غير متطرف وليس قمعيا واستجاب لنصح مشايخ دمشق وعلمائها وأصدر عفواً عن كليب الفواز نتيجة حاجة العثمانيين لمن يستطيع ضمان حماية قوافل الحج والتجارة، فقد قام الوالي الجديد بزيارة كليب الذي كان قد تولى درك الحج (حمايته) في عدة مرات سابقا مقابل الحكم المحلي، وأرسل سليمان باشا عرضاً للحكومة بحسن حال كليب وأنه طاهر المجلس، وفي السادس عشر من ذي الحجة ورد فرمان بالعفو عن كليب، وذلك بعرض من والي الشام، فقد كان حماية طريق الحج مقياساً لنجاح الولاة أو فشلهم، ذلك أنه كان يضفي طابعاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وكانت الطريق على درجة عالية من الأهمية الاقتصادية، ذلك أن الكثير من أبناء المنطقة وتجارها، يعملون على توفير متطلبات هذه القافلة لمدة تزيد على شهرين، واجتماعياً حيث تعقد الأفراح عند عودة القوافل والحجاج المهملين بالهدايا والبضائع وغيرها، وسياسياً كانت المناصب والترفيعات تعلن بعد عودة القافلة، وعليه فقد كان هذا الفيصل في نجاح أو فشل الولاة والمناصب الأخرى.

لقد كان سليمان باشا من النوع الدبلوماسي وهو ما يبدو أنه كان سبباً في إنهاء خدماته خلال وقت قصير واستبداله بوالٍ آخر من النوع المتسلّط المفضل للعثمانيين وهو الوالي “نصوح باشا” كما صدرت الأوامر بأن يصبح  والي الشام هو أمير الحج وأن يترأس الحج الشامي الذي تمر طريقه بالأردن فعمل  نصوح هذا على استمالة “محمد الفواز” الابن الثاني لكليب الفواز وأغدق عليه من الهدايا والعطايا، واصطحبه معه في رحلات الحج.

كليب الفواز شهيداً برصاص الغدر العثماني بعد دعوته لخيمة الوالي

 وفي عام 1709 يوافق كليب الفواز على تلبية دعوة الوالي بإلحاح من ابنه محمد الذي تمكن من إقناعه، ويذهب برفقة 40 فارس من السردية، وفور دخوله خيمة الوالي يرديه شهيداً برصاص الغدر والخيانة، فنحروا عنقه وأرسلوا رأسه للقسطنطينية، ومن هنا جاء المثل الشعبي القائل : “جايب رأس كليب” و الدال بالطبع على القيمة العالية جدا لرأس كليب لدى العثمانيين وأهالي بالمنطقة مع اختلاف المشاعر بالطبع، وتقول الوثائق أن نصوح باشا لم يجرؤ على النظر نحو رأس كليب خشية النظر في عيناه، ولم يرد أي ذكر تاريخي لمحمد بن كليب الفواز بعد ذلك، وأغلب الظن كما تشير الروايات الشفوية أنه قضى غدراً إلى جانب والده في تلك الخيمة ذلك اليوم، فقد غدر به الوالي العثماني صديق الأمس وجز رقبته كما جز رقبة أبيه بعد أن غرّر به لاستقدام  والده الشيخ كليب الفواز.

عندما قام العثمانيون بتعيين نصوح باشا الوالي الجديد على بلاد الشام، حاول كليب تحريك حلفائه ضده، بل حاول قتل الوالي الجديد ، واستطاع دخول دمشق سراً وقابل حلفاءه التركمان، الذين لم يستطع نصوح باشا الحاق الأذى بهم مقابل تحالفهم هذا، خوفاً من بطش كليب ، إلا أنه نكل بهم وشتتهم وهدم بيوتهم بعد قتله لكليب عام 1709.

وقد انخدع محمد الكليب الفواز بالقناع الذي يرتديه الوالي العثماني بينما بقي الأب كليب الفواز يشعر بالمؤامرة التي يحيكها العثمانيون ضده للانتقام منه، وظل حذراً في التعامل معهم وكان على وشك القيام بثورة أخرى ضد نصوح باشا وقتله لولا أن ابنه أقنعه بأن الوالي لا يحمل ضده أي ضغينة، فقد عمل نصوح باشا على استمالة ابن كليب وضمه لحاشيته المقربة، وقد كانت هذه الخطة بداية لمقتل كليب، وقد دفع كليب حياته نتيجة لهذا، فقد تزامن هذا الكرم مع استصدار فرمان قبل ذلك بالعفو عن كليب من استنبول، وكانت هذه الخطوة الثانية التي انطلت على كليب واستبعاده لفكرة الغدر والخيانة من الوالي العثماني خاصة بعد صدور العفو، كما أن الأسباب التي دعت كليب  إلى الأمان تتعدى ابنه والعفو، فيضاف لها عامل ثالث هو طول المدة نسبيا بين معركة الجابية ومقتل الوالي العثماني عام 1705م، وبين استشهاد كليب وارسال رأسه إلى اسطنبول عام 1709م، وقد يضاف إليها شخصية كليب نفسه، ذلك أن قوته وكثرة جيشه قد أعطته الثقة بأن الوالي لن يقوم بالمخاطرة بمهاجمته وقتله، و لقد كان كليب الفواز مرهوب الجانب ونداً للعثمانيين بل أنه كان أقوى منهم بتحالفاته واستطاع هزيمتهم في معركة الجابية، بينما لم يقوَ العثمانيين على القضاء عليه إلا بالخيانة والغدر ولو كان في مواجهتهم وجهاً لوجه لاختلفت خاتمة المشهد.

نهاية نصوح باشا بنفس الطريقة التي اختارها لكليب

بقي نصوح باشا في مركزه والياً على دمشق عام 1714 حتى بلغه أنه قد سلبت منه مناصبه، وأن العساكر العثمانية قد وصلت لدمشق لقتاله، فهرب ولحق به العسكر، فقتلوه، ثم جزّوا رأسه، وسلخوه، وأرسلوه إلى أسيادهم، كما أرسل رأس كليب، مع الفارق أن كليب استشهد بطلاً، فقد قضى دفاعا عن الأردنيين وهمومهم ومعاناتهم تحت الاحتلال العثماني، بينما عاش نصوح باشا مجرماً وعميلاً لسلطة ظالمة وفُتك به وهو كذلك.

المراجع :

[1] ابن كنان ، يوميات ، ص 61

[2] ابن كنان  ، يوميات ، ص90-91

[3] ابن كنان ، يوميات ص 92-93

[4] ابن كنان ، يوميات ص 100

مخطوطة تحت النشر لتاريخ عشائر السردية، تأليف و إعداد المؤرخ كليب الفواز ، ص ( 161-179)، 2016.

الثورات الصغرى – معركة الجابية 1705

Scroll to top