مقدمة

بات من الواضح للمؤرخين بأن نضال الأردنيين نحو الاستقلال بحكم مركزي  قد بدأ منذ فترة طويلة خاصة بعد أن أثبت أنه الأفضل في ترجمة تطلعات وطموحات الشعب بمختلف الحقب الإسلامية، وقد امتدت سلسلة  الثورات الصغرى  في تاريخ الاردنيين النضالي لأمد طويل، واندلعت الثورات بتسارع  وظلت مستمرة ومتقطعة جيلاً بعد جيل، وتارة لاستعادة الاستقلال الذي ظل حلماً قريباً تحول دونه قوى خارجية. وبعد كل ثورة كان تخضع قوى الحكم الخارجي للإرادة الأردنية أو يتم كبح جماح الثورات الأردنية عبر إبادات جماعية و بسط للسيطرة و النفوذ بقوة الجيوش الجرارة التي تم توجيهها على العشائر الأردنية لمرات لا يمكن حصرها .

لكن رغم كل هذه الظروف و التحولات التاريخية القاسية ظلت النزعة الاستقلالية موجودة وبعثت العشائر الأردنية ما مفاده أن الأردن لن تحكم من خارجها واستمرت العشائر الأردنية بمقاومة السلطة الخارجية من الثورات الصغرى و الوسطى حتى كللّت طموحها الجمعي بالاستقلال عبر الثورة العربية الكبرى .

 

قدمنا في البحث الماضي سردا تاريخيا موجزا و اضاءة معرفية على واحدة من أولى الثورات الأردنية الصغرى ( ثورة الأردنيين عام 1519 )، في هذ البحث نستكمل مسيرة توثيقنا و استعراضنا للثورات الصغرى بالحديث عن ثورة الأردنيين عام 1557م .

 

ثورة الأردنيين عام 1557 :

شهدت الفترة ما بعد 1519 والصلح المزعوم مداً وجزراً في العلاقة ما بين الأردنيين والعثمانيين، وقد كان آخر ظهور مسجل ومدوّن للزعيم الأردني سلامة بن فواز في عام 1523 في منطقة سيل الزرقاء، ثم ظهر ابنه نعيم الذي خلفه في زعامة الفواز بينما ظلت العشائر الأردنية تتأرجح بين حلفي الغزاوية والفواز. شهدت الفترة الأولى من الحقبة العثمانية مناوشات متعددة ما بين العشائر الأردنية وقوات العثمانيين خلال الأعوام (1530) و (1545) و (1548) وذلك في محاولة من العثمانيين لسلب الأردنيين حكمهم الذاتي ونتيجة استمرار النهج العثماني بفرض الضرائب (25% على الدخل وبمعدل 10% على المبيعات بدون تمثيل سياسي أو مردود خدمي) والتضييق على الأردنيين والذي تسبب بانخفاض أعداد السكان ودفعهم للتحول من حياة الاستقرار إلى التنقل ـ إضافة إلى التراجع على الصعيد الاقتصادي والتجاري جراء نقل طريق الحج والفتن التي حاول العثمانيون بثها بين العشائر الأردنية ومكونات المجتمع، وذلك ضمن سياسة ( فرّق تسد )، حيث كان الحلف العشائري الأردني المتماسك في ذلك الوقت يشكل هاجسا للسلطة العثمانية العاجزة عن فرد نفوذها بشكل  كامل.

كانت الدولة العثمانية تتصالح مع مراكز الحكم الذاتي المحلي الأردنية حسب تنفيذ مصالحها، وكانت تتعارض معها عندما تشكل خطراً عليها، وقد كانت هذه المراكز، تلعب دور توفير الأمن لطريق الحج الشامي والمصري الماران من أراضيها التاريخية وذلك لضمان استمرارها على البقاء عبر ما تقدمه من خدمات تجارية و أمنية و لوجستية متنوعة في ظل سياسة اقتصادية عثمانية مجحفة و مدمّرة. وقد أراد العثمانيون استمرار دور الموفر للأمن لطريق الحج الشامي و المصري لكن بشروطهم وسياستهم، فلم يكن للعثمانيين حكم أو سلطة على المنطقة بل كان حكماً بالوكالة، حيث يتم تقسيم المنطقة لقطع عبارة عن ولايات وسناجق ومدن وتيمارات، فكل مدينة و قرية لها حاكم يشتري منصبه بمبلغ مرتفع ويفوض بتجميع الضرائب لاستعادة ما دفعه ومرابح تعود له بالمنفعة مما اشتراه، ومحاولات تأجيج الفتن والصراعات ما بين العشائر الأردنية، وإهلاك الناس بالضرائب التي تجاوزت طاقة السكان وأصبحت مضاعفة، فقد كان النظام العثماني يتاجر ويبيع ويشتري بالسكان من خلال بيع المناطق لسماسرة جباة يتولون مهمة جمع الضريبة مقابل مبلغ يدفعونه للعثمانيين ، فعلى سبيل المثال يشتري أحدهم ( وكالة جمع الضرائب ) في منطقة معينة بـ 100 ألف يوردهم للسلطان العثماني ليصرفها على جواريه في قصوره باستنبول، ولقاء ذلك هو يقوم بجمع 150 ألف لمنفعته الشخصية ولرشوة والي دمشق وغيره ممن يفصلون بين السلطان وجامع الضرائب على الأرض. يذكر أن الضرائب كانت تتجاوز 25% . (المزيد حول هذه الضرائب في بحث الحقبة الاسلامية المتأخرة).

%d8%a7%d8%b1%d8%ab-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b1%d8%af%d9%86-%d8%b6%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%ab%d9%85%d8%a7%d9%86%d9%8a%d9%8a%d9%86

حاول العثمانيين إحداث الفوضى عام 1551 بالتظاهر بالرضوخ لمطالب الأردنيين وتعيين الشيخ قانصوة بن مساعد الغزاوي أميراً للأردن من الكرك، أما باطن الأمر فكان لضرب العشائر الأردنية ببعضها بين زعامة الفواز والغزاوية. لكن العشائر الأردنية تحت قيادة الغزاوي كانت واعية لخطط العثمانيين فانتشرت الأسلحة التقليدية من الخناجر والسيوف والرماح والأسلحة النارية، لدرجة لم يعد بإمكان العثمانيين تحصيل الرسوم والضرائب من السكان الذين كانوا في حالة غليان، وتسببت الصراعات والفتن بين القوى المحلية في الحاق الأذى والخراب بالقرى والمزارع .

وفي عام 1557 بلغت حالة الغضب الأردني أوجها جراء إصدار العثمانيين أوامرهم بالقبض على نعيم بن سلامة الفواز الذي صد هجماتهم المتتالية المحاولة فرض سيطرة خارجية على الأردنيين، وأثناء واحدة من محاولات اعتقاله المتكررة قام بقتل بعض أفراد الجيش العثماني الذين أرسلوا لإلقاء القبض عليه نتيجة رفضه الانصياع لأمر السلطنة العثمانية، واحتجاجاً على العمليات العسكرية العثمانية لللقبض عليه ومحاولة اغتياله عمد نعيم بن سلامة بن فواز لإغلاق طريق الحج ووضع العوائق الصخرية في أحد الممرات الضيقة قرب منطقة الأخيضرة، وذلك لاستدراج القوات العثمانية، التي وقعت في الفخ والحق بها نعيم وفرسانه من العشائر الأردنية الهزيمة وسيطر على أسلحتهم. وكما عادتهم باللجوء للأساليب الخسيسة، تم إلقاء القبض على قريبه الشيخ نصر الله الفواز بدلاً منه وذلك لابتزازه للحصول على هدنة، وبعد فشل محاولة الابتزاز كما حصل عام 1519قام العثمانيون بإصدار فرمان العفو عنه لتجنب إثارة غضب العشائر الأردنية الملتفة حوله.

وبعد عامين وفي عام 1559 تعمد نعيم الفوّاز حشد قواته في نواحي حوران الأردنية، وأعدّ عدته وأقام الخيام وأحضر اللوازم الأخرى، والذخيرة التي تكفي لمدة شهر، وأعلن استعداده لنقل الحجاج وحمايتهم وتأمينهم مما اضطر الوالي العثماني لمحاولة التفاوض معه وشراء وده ومحاولة اغراءه بالمال الذي يعرف بـ “الصرة”  ومحاولة طمأنة نعيم في رسالة جاء فيها “كن في حال سبيلك فإن زعامتك لن تنتزع منك وسنعطيك صرتك”، وهو الأمر الذي رفضه نعيم فاستمر نعيم وقواته والمزيد من العشائر الأردنية في إقامة معسكراتهم على طريق الحج وذلك لإيصال رسالتهم للوالي بأنهم لم يقوموا ضد الحج وإنما ضد السلطة العثمانية وأنهم مستمرين في تأمين طريق الحج ورفض مرور أي قوات عثمانية عبره، رافضين العروض السخية التي قدمها الوالي والاغراءات المالية، مؤكدين على أن ما يدافعون عنه هو المبدأ وحقهم في سيادة أرضهم ورفضهم للحكم الخارجي.

فاستعان الوالي العثماني في دمشق بوالي حلب وطلب نجدته وارسال المزيد من الإمدادات والخيالة، بحيث طلب منه ارسال 50 سباهياً زيادة على المائة سباهي الذين يرسلون كل عام وطلب منه العمل على تهيئتهم (والسباهي هو الجندي الخيال، وأحد أفراد القبوقولي الخيالة، وصاحب الرتبة الدنيا في القوات التيمارية في الولايات الخاضعة للحكم العثماني) إلا أن الحملة فشلت في تحقيق أهدافها وتصدت لها العشائر الأردنية.

 فلجئ الوالي العثماني لتعيين الشيخ قانصوة بن مساعد الغزاوي أميراً للحج من عشيرة من خارج تحالف العشائر الأردنية، وكانت هذه محاولة عثمانية لضرب العشائر فيما بينها وإشاعة الفتنة، وذلك من خلال نقل الصدام ما بين الأردنيين والوالي العثماني، ليصبح بين العشائر فيما بينها، الا أن الشيخ نعيم الفواز والشيخ قانصوة بن مساعد الغزاوي أدركا تلك المكيدة التي حاول الوالي العثماني تدبيرها ولم ينجرا للصدام مع أبناء وطنهم.

فعمد السلطان سليمان (القانوني في توثيق العثمانيين والمعروف محلياً بسليمان الرهائن تبعاً لقصة ثورة 1519 المنشورة سابقاً) في ذات العام 1559 إلى بناء مزيد المخافر العثمانية في عجلون والقطرانة ومعان وضاحية الحج وتبوك، وزودها بقوات من الجنود للتحكم بالمنطقة والتنكيل بأهلها لتخويف العشائر من أي محاولة لاستعادة السيطرة على طريق الحج.

وكذلك أصدرت القرارات بمنع صناعة الأقواس الكبيرة والسهام المسطحة والخناجر المعروفة بـ “اقفه عقفه” والتي كانت تستخدمها العشائر الأردنية، وتم جمع كل ما يتوافر منها في الأسواق وحفظها في الحاميات العثمانية كمحاولة لتجفيف كل مصادر الدعم و الدفاع التي يحصل عليها فرسان العشائر الأردنية، وذلك يدل على حجم الرعب والقلق الذي كان يسببه تحالف العشائر الأردنية للعثمانيين.

وبالرغم من كل القمع والحلول العسكرية إلاّ أن السياسة العثمانية كانت تلجئ في بعض الأحيان للحيل الدبلوماسية بعد أن تفقد الثقة في الحلول العسكرية والقمعية التي كان يقاومها الأردنيون بشراسة وكثيراً ما كانت تزيد من صلابتهم على مواقفهم وتمسكهم بحقوقهم مفعمين بالبطولة والإباء ضاربين المثل في التضحية بكل ما هو غال ونفيس، تجسيداً لقيم التحرر والانتماء للأرض، والمترسخة فيهم جيلاً بعد جيل.

 قام الغزاوي بتوسيع تحالفه العشائري فضم الحويطات وبني عطية وبني لام (الفواز) وبدأ نفوذه يتعمق ويزداد قوة نتيجة استعادة العشائر الأردنية لتحالفهم التقليدي. وفي عام 1567 قام العثمانيين بعزل الشيخ الحكيم الغزاوي الذي اختاروه أساسا نكاية بالشيخ نعيم بن سلامة الفواز قبل أن يعود  الغزاوية والفواز للالتقاء على التحالف ضد العدو المحتل، ومن ثم قاموا بتلفيق التهم الباطلة له بسرقة المؤن الغذائية المخصصة للرعايا العثمانيين بالمخافر. فقاموا بحبسه في قلعة دمشق، وأصدروا فرماناً بتعيين سلامة بن نعيم الفواز أميراً بتاريخ 7/8/1567 الذي استمر على النهج الاستقلالي فعاد إلى باقي العشائر الأردنية الذين طالبوا باطلاق سراح الشيخ الغزاوي وعند تعذر الاستجابة قام فرسان العشائر الأردنية بسد الطرق ضمن أراضيهم حتى تم اطلاق سراحه وهذا ما كان عام 1570 قبل أن يؤول التحالف العشائري لقيادة الغزاوي بالتراضي وليقوم بتسيير أكبر حملة حج حتى وقتها.

لم تكن آلة جني الضرائب في الحكم العثماني تكف عن فرض المزيد من الضرائب على الأردنيين بدون أي مقابل على صعيد الخدمات، ففي عام 1570 فرض العثمانيون على العشائر الأردنية أن تدفع لهم 800 جمل و30 رأس خيل لقاء انتفاعها من عشب البلاد ومياهها، وهو ما استدعى من سلامة بن نعيم الفوّاز أن يأخذ على عاتقه مهمة التحرك لمحاولة وضع حد لهذا التغول من السلطة العثمانية التي لم تكن أطماعها تتوقف فأخذت تفرض الضريبة تلو الأخرى، وذلك من خلال مطالبته بحكم ذاتي للمنطقة بعد التشاور مع العشائر والتباحث معها، فأرسل سلامة بن نعيم الفواز رسالة إلى السلطان العثماني يبلغه فيها أن صلخد وعرب الجبل وعرب القصيم عهدت له بطريقة السنجق، طالباً منحه إمارة العشائر الأردنية، وقد تضمن هذا الطلب إجابة مسبقة على كافة الحجج التي قد يتخذها السلطان لمواصلة الحكم العثماني الجائر على المنطقة، فقد تعهد سلامة بن نعيم بإيلاء الاهتمام بحفظ الحجاج وتعويضهم بضعف ما يفقد من مالهم وحيواناتهم الأخرى أو ما يفقد من أموالهم،  كما تعهد بأن يقوم إلى جانب العشائر الأردنية، بتطهير بركة القطرانة بأحسن مما يقوم به الحاكم العثماني الذي منح (15000) ذهب ميري مقابل هذا الغرض، على أن يوفر هذا المبلغ، وأن يقوم بتطهير البركة بدون مقابل،  كما أنه سيقوم بإحياء وإعمار 31 قرية وخربة في حوران الأردنية على أن تلحق بلوائه، وأن يمنح التيمار ( والتيمار هو الإسم العام للإقطاعات المختلفة من : خاص ، زعامت، تيمار، وهو الإقطاع الذي يتراوح ريعه بين 3000 – 20000 آقجة ويمنح لشخص أو أكثر وفق شروط معينة محددة، أما الزعامت أو الزعامة فهو الإقطاع الذي يتراوح ريعه بين 20000 – 99999 آقجة ويسمى صاحبها المتصرف بها زعيم أي صاحب زعامت بالتركية)، وقد تمت الموافقة على ذلك لمدة عام واحد إلا أن العثمانيين انتبهوا أن ذلك أفقدهم السيطرة على المنطقة فقد توقف ابتزازهم للناس وفرضهم للضرائب، وقمع العشائر بحجة حماية طريق الحج وبدون تقديم أي خدمات فالبرك ظلت بحاجة لتطهير والقرى خربة بدون صيانة، فما لبثوا أن عادوا لعادتهم في إثارة الفتن وتحريض العشائر ضد بعضها وقاموا بإسناد إمارة الحج لوالي دمشق، إلاّ أن ذلك  كله تسبب في بروز التحالفات العشائرية وزيادة دورها كلاعب أساسي في الحركة السياسية في قيادة المنطقة وهو ما كان وبالاً على العثمانيين  في فترات لاحقة.

المراجع :

Hütteroth, Wolf-Dieter and Kamal Abdulfattah (1977), Historical Geography of Palestine, Transjordan and Southern Syria in the late Sixteenth Century, Erlanger geographische Arbeiten 5. Erlangen: Palm und Enke. PP. 169-71

Bakhit, M. Adnan and Nufan R. Hmoud (1989), ed. and trans., The Detailed Defter of Liwā Ajlūn (The District of ?Ajlūn). Tapu Defteri No: 185, Ankara. A Study, Edition and Translation of the Text. Amman: The University Of Jordan Press (Arabic and Ottoman). PP.44-48.

Marcus Millwright, Karak in the Middle Islamic Period (1100-1650), Boston, 2008. P.108

الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة للغزي 1 / 455
Marcus Millwright, Karak in the Middle Islamic Period (1100-1650), Boston, 2008. P.49

Marcus Millwright, Karak in the Middle Islamic Period (1100-1650), Boston, 2008. P.48

الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة للغزي 1 / 455

Heyd, Uriel (1960), Ottoman Documents on Palestine, 1552–1615: A Study of the Firman according to the Mühimme Defteri. Oxford: Oxford University Press. vol. xiv, no. 973, p. 675; no. 1152, p. 794; no. 1692, p. 1149)

Abu Husayn, Abdul-Rahim (1985), Provincial Leaderships in Syria, 1575–1650. Beirut:

American University of Beirut Press.

Heyd, Uriel (1960), Ottoman Documents on Palestine, 1552–1615: A Study of the Firman according to the Mühimme Defteri. Oxford: Oxford University Press. Pp. 54-5, no.8, pp.77-8,no. 30, p.53, no.2 p.76, no. 28.

Heyd, Uriel (1960), Ottoman Documents on Palestine, 1552–1615: A Study of the Firman according to the Mühimme Defteri. Oxford: Oxford University Press. Pp. 54-5, no.8, pp.77-8,no. 30, p.53, no.2 p.76, no. 28.

مخطوطة تحت النشر لتاريخ عشائر السردية، تأليف و إعداد المؤرخ كليب الفواز ، ص (52- 74 )، 2016.

مقابلة لفريق ارث الأردن مع المؤرخ كليب الفواز في منزله 6/2016.

 

الثورات الصغرى – ثورات الأردنيين 1557 – 1570

مقدمة

بات من الواضح للمؤرخين بأن نضال الأردنيين نحو الاستقلال بحكم مركزي  قد بدأ منذ فترة طويلة خاصة بعد أن أثبت أنه الأفضل في ترجمة تطلعات وطموحات الشعب بمختلف الحقب الإسلامية، وقد امتدت سلسلة  الثورات الصغرى  في تاريخ الاردنيين النضالي لأمد طويل، واندلعت الثورات بتسارع  وظلت مستمرة ومتقطعة جيلاً بعد جيل، وتارة لاستعادة الاستقلال الذي ظل حلماً قريباً تحول دونه قوى خارجية. وبعد كل ثورة كان تخضع قوى الحكم الخارجي للإرادة الأردنية أو يتم كبح جماح الثورات الأردنية عبر إبادات جماعية و بسط للسيطرة و النفوذ بقوة الجيوش الجرارة التي تم توجيهها على العشائر الأردنية لمرات لا يمكن حصرها .

لكن رغم كل هذه الظروف والتحولات التاريخية القاسية ظلت النزعة الاستقلالية موجودة وبعثت العشائر الأردنية ما مفاده أن الأردن لن تحكم من خارجها واستمرت العشائر الأردنية بمقاومة السلطة الخارجية من الثورات الصغرى والوسطى حتى كللّت طموحها الجمعي بالاستقلال عبر الثورة العربية الكبرى.

في هذا البحث نقدم سردا تاريخيا موجزا و اضاءة معرفية على واحدة من الثورات الأردنية الصغرى بالحقبة الإسلامية المتأخرة وأولى الثورات الأردنية على العثمانيين ( ثورة الأردنيين عام 1519 ).

تمهيد

  كنا قد نشرنا عن انتزاع الأردنيين للحكم الذاتي في الحقبة الإسلامية المتوسطة (الأيوبية والمملوكية)  وقد ظلت الثورات مستمرة ومتقطعة، منها مثلاً عندما ثارت العشائر الأردنية فقتلت نائباً معيناً من خارجها عام 1453م. أو ما وثق في عام 1462 عندما تم بعث جيش جرار من مصر المملوكية لقمع ثورة أردنية اتخذت من آيلة وقلعتها معقلاً لها وبقيادة زعيم العشائر الأردنية وقتها مبارك العقبي (بني عقبة أجداد العديد من العشائر الأردنية اليوم). وحتى بعد قمع ثورة ال1462 ظلت النزعة الاستقلالية موجودة وبعثت العشائر الأردنية ما مفاده أن الأردن لن تحكم من خارجها وعند استهتار السلطان المستمر خرجت بعض العشائر بقيادة بني لام (أجداد عشائر المفارجة ومن ثم السردية ومن ثم الفواز اليوم) فصادروا قافلة حكومية متجهة لمصر مكونة من ثلاثة عشر ألف من الابل بعام 1494م وذلك كوسيلة أخيرة للاحتجاج وتحقيق المطالب المشروعة بالاستقلال والحكم المحلي.

قلعة الزعيم الجغيمان
قلعة الزعيم الجغيمان

إمارة بني لام في الأردن

أسست إمارة بني لام على يد الزعيم الأردني للعشائر الأردنية في حينها الأمير حسان بن المفرج وامتدت من جنوب غرب الأردن وصولاً لشمال منطقة حوران الأردنية واستمر نفوذها لمائة عام وضمت تحالفاً بين عدد كبير من العشائر الأردنية، قامت هذه الإمارة بما فيها من تحالفات للعشائر الأردنية وفرسانها بالإضافة لدورها بانتزاع الحكم المحلي (كما نشرنا ببحث سابق تحت مسمى “المفارجة”) بمحاربة غزو الفرنجة للمنطقة، فعلى سبيل المثال فإن أسامة بن المنقذ ومعه 18 شيخاً من قبيلة بني لام قضوا في يوم واحد دفاعاً وصداً لغزو الفرنج وذلك في عام 1070 تقريباً، وهو نهج ثابت لأبناء المنطقة في وقوفهم ضد كافة الأطماع ومحاولات الحكم الاستعماري المتستر والمتاجر باسم الأديان أمسيحية كانت أم إسلامية. إمارة بني لام استفادت من التحالفات التي كانت تقوم بها مع العشائر الأردنية الأخرى من جهة، ومع الفاطميين في القاهرة والمماليك في دمشق من  جهة اخرى، وبعد انهيار الإمارة ارتدت بني لام نحو جبال الشراه النبطية وأقاموا فيها. ومن شراه الأنباط أعاد حفيد إمارة بني لام “حسان بن المفرج” التموضع وأسس لاحقاً إمارة أخرى اتخذت من حوران عاصمة لها وعرفت بإمارة آل مرَا واستمرت متقطعة من عام 1300 ولغاية 1550 تقريباً. وما زالت آثار آل مرا في الأردن ماثلة حتى يومنا الحالي حيث شواهد القبور التي تحمل أسماءهم في البادية النبطية بجنوب معان.

الأردنيون يتمسكون باستقلالهم وارثهم رغم محاولات الحكم الخارجي لهم

 كان الأردنيون يلتفون حول زعيم تحالف العشائر الأردنية في وقتها الشيخ سلامة بن فواز الذي تذكره الوثائق خلال الفترة من 1490 ولغاية 1523. وفقا للوثائق فقد كان لتحالف سلامة بن فواز ثلاثة عشر ألف قوس (كناية عن عدد المحاربين تحت إمرته )، من بني لام وبني تميم والعمرو وبني عطية وعباد والعدوان وبني حميدة وغيرهم من بقية العشائر الأردنية، وكانت سيطرتهم تمتد من حوران وحتى جنوب البادية النبطية شرق البحر الأحمر لتصل لمشارف تبوك. وفي السرد التاريخي لقوة هذه الإمارة و اتساعها يذكر بعض المؤرخين عبارة تقول : “لقد دوّخ بني لام دولة الشركس” والمقصود بهذه المصادر هي دولة المماليك الذين تفاوضوا مع سلامة الفواز واتفقوا أن يدفعوا لتحالف العشائر الأردنية بقيادته ما مجموعه ألف دينار ذهبي مقابل البقاء في مناطق سيطرته وعدم التعرض لقوات المماليك أثناء مرورها من المناطق المجاورة له، حيث بني في عهده قلعة الجغيمان سنة 1495، وهي نفسها قلعة المدورة القديمة، التي تبعد عن المدورة الحالية نحو 4-5 كم وهي مهملة الآن للأسف ولكن لهذه المعلومة مدلول تاريخي حيث لا يعقل لشخص أن يبني قلعة وتسمى باسمه ما لم يكن لديه سلطة سياسية وقوة ومال، وتشير الوثائق إلى أن هذه القلعة كانت أحد المراكز الرئيسية لإدارة طريق الحج والتجارة الذي رعته العشائر الأردنية لآلاف السنين، حيث تشير الوثائق العثمانية بالنص الصريح مبدوءة بـ “إلى جغيمان” ، وقد ذكرها ابن بطوطة في رحلته حيث تعرض للمنطقة والسكان الموجودين فيها.

وخلال تلك الفترة شهدت المنطقة نوعا من الاستقرار النسبي في العلاقات ما بين تحالف العشائر الأردنية والسلطة الحاكمة ممثلة بالمماليك،  وذلك من خلال الاتفاقات على حماية خطوط الحج التي تمر بمناطق سيطرة تحالف العشائر الأردنية وترأس نعمان بن سلامة بن فواز الحج الشامي عام 1502.

أدناه بعض الصور لقلعة الزعيم الجغيمان ويلاحظ أنها مهدمة وبحاجة للترميم

 

 

الثورة الأولى على العثمانيين 1519 – ثورة الجغيمان

نجحت الثورة الأردنية بقيادة زعيم العشائر الأردنية مبارك العقبي كما أسلفنا بالوصول لانعدام السلطة الخارجية بين عامي 1502-1505م، وبالتفاصيل فان الثورة وصلت لمحاصرة الحاكم المعين بدون توافق الأردنيين في قلعة الكرك وتكللت بالوصول لاتفاق بحيث يستسلم ويخرج آمناً الى مصر المملوكية. عيَن جان بردي الغزالي حاكماً للأردن من الكرك عام 1509م فلم يرضوا به وثارت عليه العشائر الأردنية فطرد منها وعاشت الأردن مرحلة ” لا حكم ” أخرى وتم تعيينه لحكم فلسطين من صفد.

 قاد قايتباي الخصاكي جيشا ضخما من دمشق بعام 1512 لإعادة السيطرة على الأردن بعد طرد جان بردي من أراضيها ولكنه فشل وعادت غزوتين لاحقات حتى غلب عدد العسكر كافة المطالب الاستقلالية للأردنيين بعام 1513. خان جان بردي الغزالي المماليك وتحالف مع السلطان سليم العثماني وانضم لخيانته خاير بك، والذين وعدا بالحكم مقابل تحييد القوات التي يأمرون عليها فسقطت سوريا بيد العثمانيين بسهولة في مرج دابق. مرج “دابق” كانت موقع المعركة التي سقطت فيها سوريا بيد الأتراك العثمانيين بعام 1517م وعلى اثرها انتقل صراع الأردنيين مع الحكم الخارجي من مصر المملوكية الى استنبول العثمانية، ومما يستوجب ذكره و الالتفات له بنظر ثاقب و لمرات متعددة أن اسم المعركة “مرج دابق” هو نفس الإسم الذي يستخدمه تنظيم الدولة الإرهابية في العراق والشام في أدواته الإعلامية المتشابهة.

تم تعيين جان بردي الغزالي والياً على الشام والأردن كمكافأة لخيانته للمماليك، جان بردي الغزالي ذاته الذي طرده الأردنيين سابقاً والذي خان المماليك، كان أول والي يعيَن لحكم منطقة شاسعة تضم الأردن بعام 1517م من دمشق، واستمر نضال الأردنيين ضد الحكم الخارجي فكل ما تغير هو انتقال القطب الآخر وعاصمة الخصم من مصر المملوكية إلى استنبول العثمانية؛ فلم يعترف الأردنيون بولايته خاصة أنهم قد طردوه قبلها، وقد اصطدم والي دمشق الغزالي بالعشائر الأردنية التي لم تعترف بولايته نتيجة ما كان له معها من تاريخ أسود وطردهم له قبل ذلك في عام 1509. لم ينسَ الغزالي ما فعله الأردنيون به في عهد المماليك فحاول التنكيل بهم والتضييق عليهم بشتى السبل، فلجأت العشائر الأردنية لاستخدام ورقة سياسية ذكية رداً على سياسة الغزالي القمعية، فعمدت العشائر لإيقاف الحماية التي كانت توفرها على طريق الحج وذلك كوسيلة للاحتجاج السلمي والضغط على سلطات الحكم الخارجي لإرغامها على التفاوض معها والاستجابة لمطالب أهل المنطقة التي كانت تعاني من التهميش المتعمد جراء رفض أهلها الخنوع والخضوع للسلطة الخارجية، ونظراً لما له من باع طويل في الخيانة فقد انقلب جان بردي الغزالي من جديد ولكن هذه المرة ضد العثمانيين أنفسهم، حيث ارتدت بضاعة الخيانة على العثمانيين وأعلن جان بردي الغزالي الاستقلال عن العثمانيين عام 1518م فنزلت عليه كافة الجيوش العثمانية للإطاحة والتنكيل والبطش به، حيث تم تعيين إياس باشا خليفة له وواليا على الشام مكانه بعد أن قتل جان بردي (تعددت الروايات عن تاريخ وطريقة قتله هل كانت من قبل الشعوب المقاومة له وللأتراك العثمانيين أم باغتيال سياسي، أو كلاهما). أول قرار أخذه اياس باشا هو قمع ثورة كانت في نابلس فاتخذها ككبش فداء ليظهر بأسه فشرد الكثير من أهلها وهدّ بيوتهم، قبل أن تتحد معها مناطق فلسطينية أخرى وتدحره خائباً. ثم وصل اللجون فذبح أربعة من أبناء آل طرباي حكام اللواء وأرسل رؤوسهم إلى السلطان سليم في بادرة لإظهار الولاء للحاكم العثماني. وفي خطوة هوجاء تهدف بالمنظور قصير المدى إلى تجفيف المصادر الاقتصادية المتأتية للأردنيين من أسواقهم على طريق الحجاج المسلمين والمسيحيين والمعروف بالطريق الملوكي، قام إياس باشا وبتوجيه من السلطان العثماني سليم الأول (أو ما بات يعرف لاحقاً بسليم المتآمر) عام 1519م بنقل الطريق شرقاً ونصب المخافر عليه بعيداً عن التجمعات السكانية المعادية لوجوده والمستخدمة لأداة ” ايقاف الطريق ” كأحد أدوات الضغط نحو الاستقلال، ثم قام بفرض ضريبة على ما يعرف ببازارات الحجاج، فتسبب القراران بانهيار المنظومة الاقتصادية للتجار الأردنيين والتي نجت لآلاف السنين حتى بعهد الرومان والفرس والفراعنة ولكنها لم تنجُ من العبث السياسي بحقبة العثمانيين. أما سياسياً فقد عمد الأردنيون على انشاء تحالفات عشائرية بإمارات تنتزع الحكم المحلي لهم وتراعي احتياجتهم.

بدا واضحاً أن الأردنيين بزعامة الجغيمان لن يقبلوا باستبدال حكم خارجي من مصر بآخر من دمشق فدأب السلطان على بعث قوة تلو أخرى لاخضاع الأردن لحكمه من مركز خارجي لكنها باءت بالفشل الذريع حيث أنهم لم يجدوا أمثال جان بردي الغزالي ليخون ويسلمهم الأرض لقاء منصب ومال كما حصل في مرج دابق.

وبعد مناوشات جسيمة بين جيش العثمانيين والقوات المقاتلة الأردنية في الفدين (المفرق) لجأ العثمانيون لحيلهم القبيحة حيث تسلل ليلاً بضعة أفراد من قواتهم لخطف أبناء الجغيمان شيخ الفواز وزعيم تحالف العشائر الأردنية بوقتها، وإرسالهم للسلطان سليمان “القانوني” حيث عرف حينها بسليمان “الرهائن”، ليتم بعدها مفاوضة الأردنيين على تسليم الرهائن وتولية حكام من الأردنيين مقابل السلم وانهاء الثورة عام 1519، وبعد هذه المفاوضات تم تولية الغزاوي (بتسكين الغين) كما أوردنا في بحث سابق لكن العثماني استمر برفع الضرائب في تصاعد كبير حيث توزعت ما بين ضريبة دخل تبدأ من 25% وأخرى على مبيعات الحجاج ومثلها على الأنعام من الإبل والمواشي ، وكذلك على المحاصيل الزراعية، فأتت ثورة الغزاوية بشكل طبيعي عام .

 

  • المراجع :
  • ابن تغري بردي، الجزء 7، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة صفحة 232-377
  • ابن تغري بردي، الجزء 7، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة صفحة 749-50
  • Johns, Jeremy (1995), ‘The Longue Durée: state and settlement strategies in southern Transjordan across the Islamic centuries’, in eds. Eugene Rogan and Tariq Tell, Village, Steppe and State. The Social Origins of Modern Jordan. London and New York:
  • British Academic Press: 1–31. P23
  • زين العابدين ابن اياس الحنفي، بدائع الزهور في وقائع الدهور، القاهرة، الجزء 4، صفحة 94
  • Johns, Jeremy (1995), ‘The Longue Durée: state and settlement strategies in southern Transjordan across the Islamic centuries’, in eds. Eugene Rogan and Tariq Tell, Village, Steppe and State. The Social Origins of Modern Jordan. London and New York:
  • British Academic Press: 1–31. P94
  • Marcus Millwright, Karak in the Middle Islamic Period (1100-1650), Boston, 2008. P.48
  • زين العابدين ابن اياس الحنفي، بدائع الزهور في وقائع الدهور، القاهرة، الجزء 3، صفحة 433
  • Laoust, Henri (1952), trans. and ed., Les Gouverneurs de Damas sous les Mamlouks et les premiers Ottomans (658–1156)(excerpts from works of Ibn ?ūlūn and Ibn Juma?ā). Damascus: Institut Français de Damas. P.124
  • تاريخ جبل نابلس والبلقاء، احسان النمر، 1938، دمشق صفحة 15
  • Marcus Millwright, Karak in the Middle Islamic Period (1100-1650), Boston, 2008. P.48
  • زين العابدين ابن اياس الحنفي، بدائع الزهور في وقائع الدهور، القاهرة، الجزء 3، صفحة 382-83
  • Laoust, Henri (1952), trans. and ed., Les Gouverneurs de Damas sous les Mamlouks et les premiers Ottomans (658–1156)(excerpts from works of Ibn ?ūlūn and Ibn Juma?ā). Damascus: Institut Français de Damas. Pp.151-59, 171-74.
  • تاريخ جبل نابلس والبلقاء، احسان النمر، 1938، دمشق صفحة 25
  • تاريخ جبل نابلس والبلقاء، احسان النمر، 1938، دمشق صفحة 61
  • Marcus Millwright, Karak in the Middle Islamic Period (1100-1650), Boston, 2008. P.256
  • مخطوطة تحت النشر لتاريخ عشائر السردية، تأليف و إعداد المؤرخ د. كليب الفواز ، ص ( 8-16 ) – ( 33- 50)، 2016.
  • بحث مؤسسة ارث الأردن (الأردن بالحقبة الإسلامية المتأخرة – الجزء الأول: 1389م-1656م ) للاطلاع على البحث انقر هنا .
  • بحث تاريخي موجز منشور بعنوان (ثورات وانتفاضات الاردن عبر العصور ) ، المؤرخ الدكتور محمد المناصير ، 2011 .

الثورات الصغرى – ثورة الأردنيين 1519

Scroll to top