lawrence
تمهيد

قدم الباحثان الدكتور بكر خازر المجالي وقاسم الدروع في كتابهما  التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية “ ملخصاً عاماً عن لورنس وحقيقة دوره في معارك الثورة بالاستناد إلى مذكرات قادة الثورة والضباط العرب المشاركين في عملياتها ، و بالإعتماد على كتاب المؤرخ الأردني الأستاذ سليمان الموسى (لورنس وجهة نظر عربية ( ، إضافة إلى عدد كبير من مؤلفات الكتاب و علماء النفس و المؤرخين من الغرب.

في هذا الجزء نقدم استعراضاً عاماً لمجموعة من المفاصل التي تضع شخصية لورنس على محك التحليل النفسي من وجهة نظر المؤلفين و علماء النفس الغرب، و يتبعها في الأجزاء البحثية القادمة مزيد من التفاصيل التي تكشف الكذبة السينمائية التي ارتبطت بعمليات الثورة العربية الكبرى وساهم بها مؤلفون و مسرحيون وكتاب غربيون و على رأسهم لورنس نفسه بخياله الواسع، فعرفت لجمهور المتنورين بــ كذبة لورنس .

 

نظرة جديدة في لورنس[1]

ما تزال سيرة حياة الكولونيل لورنس – الذي اشتهر في بلاد الغرب باسم لورنس العرب –  تثير اهتمام الكتاب والباحثين وتجتذب أنظار القراء، وعلى الرغم من مرور اكثر من نصف قرن على ذيوع شهرته بُعيد الحرب العالمية الأولى فإن الكتب التي تبحث في مختلف جوانب حياته ما تزال تصدر تباعاً، وما يزال كل مؤلف في هذا الموضوع يعلن أنه عرض تلك الجوانب من نوايا جديدة وعلى ضوء وثائق جديدة، وأنه فسر الغامض منها تفسيراً أقرب ما يكون إلى الصواب.

ونعرض هنا تسليطا للضوء على الكتاب الذي أتى من تأليف المستعرب دزموند ستيوارت، الذي قضى سنين عديدة من حياته في بلاد العرب، وخاصة في مصر والعراق، والذي صدرت له نحو عشرة مؤلفات عن قضايا العرب والشرق الاوسط، وقد أفاد المؤلف في بحثه هذا من المصادر العربية ومن معرفته بالعرب وعاداتهم، ولكنها لم تكن الإفادة الكافية الشافية.

وقد يتساءل المرء عن الحافز وراء كل هذه الكتب عن لورنس، ما دام أن خطوط سيرة حياته أصبحت معروفة للجميع : خاصة بعد صدور كتابه الشهير ( أعمدة الحكمة السبعة ) وبعد صدور الكتب الإنتقادية التي كشفت النقاب عن شطحات خياله في اختراع القصص والروايات عن نفسه و أهمها كتاب ريتشارد الدنجتون وكتاب الصحفيين نايتلي و سمبسون, ولكن على الرغم من كل التساؤلات، نرى أن الموضوع ما يزال يلهب مخيلات القراء وما يزال يمثل تحدياً مثيراً بالنسبة للمؤلفين، حتى وصل الأمر الى أن ورثة لورنس اختاروا الكاتب الشاب جريمي ولسون لوضع كتاب جديد عن حياة لورنس يعتمد على وثائق ومراسلات ظلت إلى يومنا هذا في طي الكتمان.

وإذا عدنا الى كتاب دزموند ستيوارت ألفينا أنه ينحو وسطاً بين مدح المادحين وقدح القادحين، فهو يتتبع حياته خطوة خطوة منذ أن ولدته أمه من زواح غير شرعي, الى دراسته فى اكسفورد إلى رحلته الأولى في بلاد الشرق، إلى عمله في حفريات كركميش، الى اشتراكه في الثورة العربية ودخوله في معترك الصراع السياسي بين العرب والانكليز ثم ما حدث بعدها عندما ألقى المنصب جانبا ودخل في قوة الطيران برتبة نفر عادي.

 والمنحنى الوسط الذي يسير عليه المؤلف هو انه يتتبع الاحداث محاولاً اكتشاف الحقائق من بين القصص والأساطير العديدة التي حيكت حوله، والتي نبع أكثرها من شطحات مخيلة لورنس.

لقد احرز لورنس شهرته الواسعة نتيجة اشتراكه في الحرب مع العرب, وفي هذا الصدد علينا أن نقدر لـ ستيوارت موضوعيته التي أبت ان يسير مع الفكرة القائلة بأن لورنس هو الذي قاد العرب وهو الذي وضع الخطط لهم وهو الذي كان يحلم منذ نعومة اظفاره بتحريرهم من ربقة الأستعباد، وأنه هو الذي دخل دمشق فاتحا على رأسهم, انه لا ينكر عليه جهده الذي بذله في ميدان الحرب، ولا ينكر ذكاءه وشجاعته، ولكنه يضعه في في مكانه الطبيعي دون مبالغة أو انتقاص, ومن جملة استنتاجات هذا المؤلف ان لورنس لم يكن يهتم بحرية العرب إلا في حدود ولائه الشخصي للزعماء الذين عمل معهم واعجب بهم.

ويرى ستيوارت ان النقطة الحاسمة في حياة لورنس تنطلق مما حدث له في تشرين الثاني عام 1917 عندما ذهب مع الشريف علي الحارثي من العقبة إلى نهر اليرموك لنسف أحد الجسور المهمة في خطوط مواصلات الاحتلال التركي العثماني كضابط استخبارات بريطاني مختص بعمليات التفجير, وأخفق لورنس في تنفيذ المهمة، ولكن ذلك الاخفاق ساق لورنس الى السقوط في زلة اكتشف من خلالها حقيقة ميوله الجسدية، ومن رأي المؤلف أن السقطة التي وقع فيه لم تحدث في درعا ولم تحدث قهرا كما قال في كتابه وفي رسائله بل حدثت في واحة الأزرق أثناء الأيام العشرة التي قضاها هناك مع الشريف علي، ودفعه عذاب نفسه و شعوره بالخزي الى أن يطلب من الشريف أن يجلده بالسياط.

 وينطلق دزموند ستيوارت من هذا الى حل لغز آخر حير الباحثين من قبله، الا وهو اللغز المتعلق بالأسم الذي اهدى لورنس إليه كتابه الشهير ( أعمدة الحكمة السبعة )، فقد اكتفى لورنس بوضع حرفي ( S.A. ) وترك للقراء مهمة تفسير اللغز الكامن وراءهما، بل أنه ساعد على تعميق اللغز باجوبته المتناقضة لمن سألوه ، وذهب أخرون الى القول انهما يرمزان الى الجاسوسة اليهودية سارة ارونسون وذهب آخرون الى القول انهما يرمزان الى سوريا العربية، أو الى الشيخ احمد صديق لورنس في حفريات كركميش, ولكن دزموند ستيوارت يرى أن الحرفيين يرمزان الى الشريف علي صديق لورنس وموضع اعجابه واحترامه.

ولايعطي ستيوارت رأياً جديداً فيما يتعلق بانصراف لورنس عن سلك المناصب الرفيعة في الخدمة الحكومة, وتبديله اسمه ودخوله في الجيش برتبة نفر عادي, فهو يرى أن ذلك حدث بفعل سيطرة الرغبة في تعذيب الذات على نفسه، وفي هذا النطاق، نراه يهمل قول بعض الكتاب أنه فعل ذلك تكفيراً منه على الخداع الذي مارسه مع العرب.

ويستبعد المؤلف أن يكون لورنس قام بتلك المغامرة الفريدة، التي زعم لورنس كاذبا انه قطع خلالها مسافات شاسعة ابتداء من وادي السرحان الى تدمر وبعلبك ودمشق وجبل الدروز، كما أنه لا يعطي الفضل للورنس في قضية تحرير العقبة كما أدعى لورنس نفسه و سرقته المتكررة لانجازات الأمير زيد بن الحسين و الشيخ عودة أبو تايه تحديدا, وكذلك عند دخول العرب الى دمشق.

ومن مطالعة هذا الكتاب يتضح لنا أكثر واكثر أن لورنس كان يتميز بتلك الموهبة النادرة التي لا يتصف بها إلا القلائل من الناس، ألا وهي قدرته على اقناع الناس بالأفكار التي يحملها، وعلى اقناعهم بأنه يكن لهم الاحترام والتقدير والولاء حتى و هو يضمر عكس ذلك.

لورنس على محك التحليل النفسي[2]

 من الكتب العديدة التي وضعت عن لورنس والتي ترجمت وانتشرت في معظم أرجاء العالم، ومن بينها كتاب نشر في امريكا وبريطانيا في آن واحد، وهو من تأليف الدكتور جون ماك أستاذ علم النفس في احدى الجامعات الامريكية, وقد جاء نشر هذا الكتاب في الذكرى الأربعين لمصرع لورنس في حادث دراجة نارية، ونتيجة لعشر سنوات من البحث والدراسة قضاها المؤلف وهو يتابع موضوعه ويجمع مصادره، وينقب عن الجوانب الغامضة في حياة هذا الرجل الذي يعتبره المؤلف واحداً من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في القرن العشرين.

 يرى جون ماك أن الناس عموماً يعجبون بأصحاب المواهب الفائقة الذين حققوا لأنفسهم ما نحلم كلنا بتحقيقه، وكتابه هذا دراسة من الناحيتين التاريخية والنفسية لشخصية مرموقة أثرت قراراتها واعمالها في حياة ملايين الناس في حينها، واذا كان الجانب التاريخي قد أصبح معروفاً، فإن قصد المؤلف من البحث في الجانب النفسي كما يقول – هو أن يظهر كيف يستطيع الشخص المؤمن بهدفه أن يؤثر في مجالات الأحداث التاريخية، ثم كيف تعمل تلك الأحداث بدورها على التأثير فيه.

 ولا يكتم ماك انه تأثر تأثراً عميقا بما عاناه لورنس، وانه تعرف تدريجياً على اسباب تلك المعاناة، ثم قادته دراسته للصراع الداخلي في نفس لورنس، الى تقدير انجازاته حق التقدير، بل ان المؤلف يصرح علناً ” انه لم يكن حيادياً في تناول موضوعه “، لأنه يعتبر لورنس حسب رأيه رجلاً عظيماً وشخصية تاريخية مهمة، وأنه أثّر تأثيراً قوياً في مجرى الأحداث العسكرية والسياسية في بلاد العرب.

من هذا المنطلق يضع خبرته كعالم نفسي على محك تفسير التناقضات العديدة في اقوال لورنس, فهو يخفي احيانا جزءاً من حادث معين وأحيانا أخرى يعطي صورتين متباعدتين لقضية واحدة، احيان يفتح قلبه تماماً ثم يعود إلى التراجع, ولكل ذلك اسباب ومبررات عند المؤلف الذي يبدأ موضوعه من منطلق التأثير الذي تركه في نفسه كونه وُلد من زواج غير شرعي، ثم ما كان لأبيه وأمه من تأثير عليه, وبذلك نراه على هذا الأساس وجد لكل علة سبباً ولكل قضية تعليلا.

يتتبع المؤلف سيرة لورنس مثل من سبقه من المؤلفين، ولكنه يضع معلوماته على محك النظريات النفسية, وهذه هي الميزة الرئيسية التي ينفرد بها عمن سبقه من مؤلفي الكتب في حياة لورنس, وهو يعالج موضوع شعور لورنس بالخدعة التي تعرض لها على أيدي والديه، وهي خدعة خلقت عنده فيما بعد شعوراً بأنه خدع العرب بدوره، وهو يرى أن مقدرة لورنس على ” اختراع ” الحوادث انما تنبع من شعوره بأنه ابن غير شرعي.

وتمر سنوات الطفولة والدراسة، كما تمر بعدها سنوات الرحلة إلى سورية والعمل في آثار كركميش, ثم تبدأ الحرب العالمية الأولى فيقضي لورنس السنتين الأولى والثانية منها في القاهرة ( التي كانت يومذاك مركز القيادة البريطانية في مصر ), ثم تبدأ الثورة العربية في حزيران 1916 ولا يلبث لورنس يلتحق بها، ويقضي أهم سنتين في حياته كما يقول المؤلف – في صفوفها, إذ لولا اشتراكه في تلك الثورة لما كان هناك ” لورنس العرب “، ولما كانت الأسطورة التي حيكت حوله.

 لقد وفرت الثورة – في رأي المؤلف – فرصة فريدة لإبراز مواهب لورنس المتعددة- ومنها نسج القصص و الحكايات – ولذيوع شهرته.

يتحدث المؤلف باسهاب عن المعارك التي اشترك فيها لورنس، وهو يتبع في ذلك خطى اكثر المؤلفين من الغرب الذين كتبوا عن لورنس واعربوا عن اعتقادهم بأنه هو الذي قاد تلك المعارك وخطط لها, وهو يرى أن لورنس كان يملك مقدرة عجيبة على التأثير في رؤسائه من امثال الجنرال اللنبي وونستون تشرشل، إذ كان يقنع اولئك الرؤساء بوجهة نظره فيعملون على تنفيذها.

وهنا نرى المؤلف يستشهد بقول لورنس أنه كان يتخذ مع العرب دور ” العراب “، وأن هدفه كان دائما ان يجعلهم يقفون على اقدامهم، وهو ينفي التهمة القائلة بأنه جعل نفسه في خدمة الدوائر الاستعمارية، ويقول أنه خدم العرب وخدم الانجليز سواء بسواء، وانه من خلال ذلك حاول ان يحل الصراعات الشخصية في داخل نفسه، حتى اصبح يعتقد بصورة لا شعورية أنه قائد العرب, ويرى المؤلف أن من بين مواهب لورنس ذاكرة متفوقة وذكاء حاد ومرونة وخيال عالٍ وشجاعة شخصية عظيمة ويذكر اعجاب لورنس بمزايا الشريف فيصل، ويذكر رأي المندوب السامي البريطاني ( ريجنالد ونجت ) من أنه يرجح ان الشريف فيصل بن الحسين قد استخدم لورنس لتحقيق اهدافه وليس العكس.

 وفي حديث الدكتور جون ماك عن تحمل لورنس ما يسميه ” مسوؤلية ضخمة ” في اثناء الثورة, وعن كيفية نشوء الأسطورة سيرى أن قيامه بدور الوسيط بين الشريف فيصل واللنبي يمثل ذروة المسؤولية, وهو يخالف القائلين بأن الصحافي الأمريكي لوسل توماس هو الذي خلق تلك الاسطورة, على أساس ان الاسطورة نمت وترعرعت من عناصر نفسية لورنس وشخصيته، تلك العناصر التي برزت في أعماله وفي كتاباته, ومن هنا فهو يرى ان ظهور اسم” لورنس العرب ” كان مسألة حتمية، ويستدل على ذلك باستمرار جاذبية الاسطورة طوال هذه السنين رغم كل الخيال الذي يعتريها.

ويحاول الدكتور جون ماك تفسير ذلك الجانب الغريب من حياة لورنس بعد أن اعتزل الحياة العامة، وترك الوظائف الكبيرة وبدل اسمه وانضم الى قوة الطيران برتبة ” نفر “،  ألا وهر اتصاله بشخص يدعى ( بروس ) وإقناعه بأن يجلده بالسياط فى فترات متباعدة على ظهره العاري, ومن رأيه أن ذلك يعود إلى أسباب عدة منها إحساسه العميق بالخطيئة التى ارتكبها والده ونتج عنه ولادته من زيجة غير شرعية، وأن شعوره بتلك الخطيئة حال بينه وبين الزواج, وان اختياره تعذيب نفسه بتلك الطريقة كان ينبع في كسر حدة الرغبات الجنسية في جسده والبحث عن تطهير نفسه.

ويرى الدكتور جون ماك في ذلك دليلا على الصراع الداخلي الذي كان يعاني منه والذي دفعه الى إيذاء جسده كما كان يفعل الأولياء والقديسين, ويرجح المؤلف في تفسيراته ان لورنس تأثر الى حد كبير بما حدث له في درعا على يد الضابط التركي، وأن ذكرى تلك الحادثة كانت مبعث عذاب دائم له، حتى انه كان يود لو يقضي على قدرته الجنسية, كما أنه يضيف الى كل ذلك شعور لورنس بالذنب ازاء العرب في اثناء الثورة, ومن الغريب ان المؤلف يرى ان الطريقة التي سلكها لورنس لإيهام ( بروس )  ودفعه الى جلده بالسياط – تدل على مقدرة لورنس الفائقة على خلق التصورات واختراع الحكايات، ولا ندري كيف لم يتبادر الى ذهن المؤلف الدكتور جون ماك ان حادثة درعا كانت من أولها الى يائها اختراعاً في اختراع ولم تحدث على أرض الواقع ، ما دام انه يرى فيه تلك المقدرة على تلفيق الحكايات.

 ومن الواضح أن الدكتور جون ماك بذل ما بذل من جهد لكى يفسر حياة لورنس على ضوء معطيات علم النفس، فلم يترك شاردة ولا واردة إلا وناقشها واعطلى تفسيراً لها، ولكنه بلا شك وقع فيما وقع فيه معظم الذين كتبوا عن لورنس؛ أكثرهم كال له المديح وأسرف في اعلاء شأنه وتمجيد مواهبه، وبعضهم تتبع سقطاته وهفواته وحاول الحط من قدره دون مبرر.

ولايشك أحد في أن الرجل كان كثير التناقضات، وأن هذه التناقضات وما أحاط بها من غموض، هي التي زادت من انتشار اسطورته, والمؤلف لا يرى ضيراً في تأكيد هذا على اساس أن تلك التناقضات لم تحل بين لورنس وبين تحقيق الإنجازات التي وضعها نصب عينيه.

المراجع

  • [1] التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية , بكر خازر المجالي,قاسم محمد الدروع, ص388-391، مطابع القوات المسلحة الأردنية 1995.
  • [2] التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية , بكر خازر المجالي,قاسم محمد الدروع, ص384-387

مطابع القوات المسلحة الأردنية 1995 .

كذبة لورنس – الجزء الثالث (التحليل النفسي لشخصية لورنس)

فواز-الزعبي
الشيخ فواز البركات الزعبي

لقد قاتل ابائكم واجدادكم وجاهدوا مابوسعهم للقتال وضحوا تضحيات حقيقية في سبيل بلادهم  
وعليكم ياشباب وفرسان حوران ان تواصلوا القتال , فنحن لا ننشد إلا الحرية … وطريقنا طريق الحرية والثوار

الشيخ البطل فواز البركات الزعبي

نشأته

ولد الشيخ فواز في مدينة الرمثا منتصف القرن التاسع عشر الميلادي وهو ابن بركات بن موسى بن مصطفى بن الشريدة بن ابراهيم بن مصطفى عماد الدين علي الزعبي. وتعد الزعبية من أكثر العشائر الممتدة في سهول حوارن مرورا بالسلط وقراها والى أم القصر في مادبا .
يعد والده الشيخ بركات من أصحاب المكانة المرموقة على الصعيد الرسمي إبان الاحتلال التركي وعلى الصعيد الشعبي مما أهل ابنه فواز على اكتساب سلوك المشايخ والتعلم من والده في حل المنازعات العشائرية والقضاء العشائري .
تعلم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب في الكتاتيب في بلدته الرمثا حيث كانت تمول هذه الكتاتيب من الأهالي في ظل غياب المنظومة التعليمية كاملة، وقد كان تلميذاً مجتهداً ومحبوباً وذا شخصية قيادية من نعومة أظفاره وامتازت شخصيته أيضا بالثقة بالنفس والعصامية والشجاعة والجرأة والحكمة وقال عنه الزعيم أحمد مريود ” كان فواز البركات
مصدر خير ونبع مودة وموئل رجولة، وعنوان وفاء، كتوما .. صادقا و سيد الحكمة والرأي الحسن ..”

Rumtha1900
صورة لمدينة الرمثا في عام 1900 و تظهر بيوت المدينة حيث ولد الشيخ فوازالزعبي

 وبرزت شخصيته وتوليه المسؤولية بعد وفاة والده وبروز شخصيته كقائد عشائري ذو مكانة اجتماعية وشعبية وزعيم وطني يهتم للصالح العام ومنتمي لمجتمعه وأرضه وكان يجسد ذلك بأعماله وسلوكه باهتمامه بفض المنازعات العشائرية وتنظيم أمور بلدته وعشيرته اثر المعاناة من الاحتلال العثماني والتي أهملت الشؤون الإدارية والتنظيمية في منطقة اربد والرمثا و في الأردن عموماً.
كان من الشخصيات التي تم الاهتمام بها على صعيد مرحلة الاستقطاب والبحث عن رجالات وطنية ومخلصة لفكرة القومية العربية، الذي تمت تسميته للإنضمام للجمعيات العربية السرية ليكون إحدى القيادات الوطنية لدعم الثوره العربية الكبرى بقيادة الشريف الحسين بن علي .

 بروز شخصية فواز البركات على الصعيد الوطني وخارجه

قام الشيخ فواز بزيارة على رأس وفد إلى الشريف حسين بن علي والتباحث معه في القضايا وهموم الأردنيين في منطقته وحوران عموما في ظل ازدياد ضغوط الاحتلال العثماني على أهل المنطقة. وهو أول من بشّر في حوران بالثورة العربيه الكبرى، فقد رفضوا التعسف التركي العثماني من جباية ضرائب كانت تبتدأ ب25% كضريبة دخل بلا أي مردود، وفرض اللغة التركية كبديل للغة العربية من خلال سياسات التتريك التي انتهجتها الدولة العثمانية ضد العرب والأردنيين، وعدم الاهتمام بالأرض الأردنية الا اذا ما كانت هنالك خدمة لمصالحهم الخاصة .

العمل السياسي

برز الوعي السياسي عند الشيخ فواز البركات لما تحمله من مسؤولية مبكرا ولصفاته المميزة لديه ودرجة ثقافته المغايرة لما هو مهندس له من تجهيل ممنهج للأردنيين،  والوعي السياسي واتصالاته مع المفكرين العرب والقيادات السياسية العربية. واكتملت ارادته التحررية عند مشاركته في لقاء والي دمشق محمود شوكت آنذاك ومناقشة الأوضاع في المناطق العربية وسوء السياسات العثمانية التي حلت الأحزاب العربية، وتهديدها الدائم بتعليق المشانق، فخرج بنتيجة مع الزعماء الوطنيين بأن العمل السّري هو الحل، ايذانا بضرورة إنهاء مرحلة صراع طويلة  مع الحكم العثماني .
وقد شارك الشيخ فواز باجتماعات عدة مع  الأمير فيصل وأقطاب الحركة الوطنية قبل إعلان الثورة العربية الكبرى الذي كان من أبرز قادتها المحليين والداعمين لها من سلاح وإدارة وتحشيد للفرسان وتخطيط للمعارك .

موقفه من التجنيد الاجباري 

ساءت الاحوال إلى حد لا يطاق في جميع المناطق العربية من فرض ضرائب وجباية وسوء معاملة تجاه العنصر العربي واتباع سياسه ابعاد الشباب العربي والأردني تحديدا في حروب السفربرلك  وتجنيدهم وارسالهم الى الحروب العثمانية واخماد الثورات في مناطق سيطرتها وإرسال الضباط العرب الى حرب الدردنيل .
وقف الشيخ فواز البركات في وجه الاحتلال العثماني ووضع خطة استطاع فيها تجنيب الشباب الحوراني والرماثنة وأهالي نواحي اربد من التطوع في صفوف العثمانيين وحلفائهم الألمان والنمساويين عن طريق رسله الذين كان يبعث بهم الى القرى للرحيل الى منطقة اللجاة المعروفة بقوتها التمويهية ووعورة سبلها الصخرية وباعلانه للعصيان المسلح عند الحاجة. وقد تعاون الشيخ فواز مع زعماء الجبل من أمثال ذوقان الأطرش ويحيى الأطرش لتنظيم وتأمين الحماية للشبان العرب وهنا يشير البطل محمد قسيم الزعبي من بلدة خرجا حول تعاون الشيخ فواز ورجالات الأردن عند اكتشاف نوايا العثماني بعد حملة سامي باشا الفاروقي على جبل الدروز والكرك سنه 1910 بمسألة سميت  ” بتحرير النفوس “، حيث كان الهدف منها إرسال الحوارنة الى الموت أو عدم العودة إلى قراهم، وكان الشيخ فواز البركات أول مشايخ الأردن ادراكا لهذه المسالة وإدراكا للخطر القادم الى شمال الأردن وشبابها فقد وزعهم على الأراضي للعمل فيها ومن ثم تهريبهم الى منطقه الأزرق التي كانت معسكرا للفرسان الذين بنتظرون وصول الأمير فيصل و قوات العشائر الأردنية وكانوا قوة فاعلة في معارك تحرير الشمال الاردني من الاحتلال العثماني .
ولم يكتف بذلك اذ شكّل وفدا من وجهاء حوران لمقابلة الشريف الحسين بن علي لشرح الأوضاع التي آلت اليها الامور، وعن المظالم التي وقعت على أهالي البلاد واستبداد الاحتلال العثماني وبشاعته بجمع المحاصيل وخاصة بعد هجوم الجراد على سهول حوران عام 1914، وتم مناقشه الخطط الأولية للقضاء على العثمانيين  وطردهم من البلاد.

الشيخ فواز ودوره في الثورة العربية الكبرى ومعاركها

شارك الشيخ فواز في معظم الاجتماعات واللقاءات السرية التي عقدها الأمير فيصل في دمشق وجوبر مع زعماء الحركة الوطنية وقيادات الجمعيات العربية، وكان الشيخ فواز يمثل مناطق سهل حوران الأردني في تلك الاجتماعات وكانت مهمته أيضا في استقطاب العشائر الأردنية الحورانية ووعشائر جبل العرب لصفوف الثورة .اذ كان دوره فعالا لكونه يحمل مكانة مرموقة وكلمة مسموعة في حوران والجبل والتقى مع زعماء الجبل ومنهم أسد الأطرش وزعيم جبل العرب  سلطان الأطرش  إضافة إلى علاقاته الوثيقة مع الزعامات الاردنية مثل البطل كايد المفلح العبيدات والشيخ عودة ابوتايه واحمد مريود ووجهاء قرى حوران .
ويذكر أن الشيخ فواز عمل على حل النزاعات والخلافات بين الدروز والبدو والتي كان يزرعها العثماني بينهم فيتم تحشيد قواهم ضد المحتل التركي والتنسيق لوصول الأمير فيصل على أسرع وجه فقام مع نسيب البكري وفايز الغصين وعقلة القطامي زعيم الطوائف المسيحية في مناطق حوران بالتنسيق للاجتماع بهم كنواة أولى للتعبئة وعن طريق الزعماء والوجهاء يتم تنسيب المتطوعين اذ شكلوا نواة جيش الثورة في المناطق الشمالية بتعداد 1500 فارس من العشائر الأردنية الذين شاركوا في معارك تحرير الشمال الاردني ومن ثم الجنوب السوري التي انطلقت من الأزرق .
ونتيجة لهذه الاجتماعات والتحضيرات في قريه المسيفرة  سمعت القوات العثمانية المحتلة الخبر عن الاجتماعات من خلال جواسيها فقامت على جناح السرعة بإرسال سامي باشا على رأس قوة عسكرية لمحاولة القبض على الشيخ فواز وقيادات حوران الأردنية ولكن لم تفلح بذلك  فقام بالتنكيل بأهل القرية بطرق بشعة لا تختلف عن أي نظام احتلال وربما تزيد عنه، فكانت هذه هي الشرارة الأولى للأهالي  للإسراع بالتجهيز والحشد الى مخيم الازرق في انتظار الأمير فيصل الذي وصل إليها في أوائل شهر أيلول 1918، وتعهد زعماء الشمال بالتحرير قبل دخول الجيش النظامي الشمالي الذي كان بقيادة جميل المدفعي وعلي جودت ونوري السعيد .

بدء عمليات التحرير في الشمال

اقترح الامير فيصل أن يكون الشيخ عودة ابوتايه قائداً عاما للثورة في مناطق الشمال إلا أنه اعتذر وقال : نحن كلنا جنود للثورة وسأكون الى جانب الشيخ فواز أعمل مع مشايخها وقادتها فهم أدرى وأعلم مني بما يناسبها .
في صباح يوم 14ايلول زحفت الحملة من الازرق  المكونة من فرسان العشائر الأردنية وبدأت عملياتها ضد الجيش العثماني وحلفائه الألمان والنمساويين ومراكزهم في درعا. وجرت إغارات على الحاميات العثمانية وقيادتها من الضباط الألمان. وبعد التنسيق مع أقاربهم الأردنيين في السلط وعمان تم نسف الجسور وتدمير سكة حديد القطار العسكري بالمنطقة الرابطة بين درعا وعمان مما ساعد على إعاقة الجيش التركي الرابع والتخفيف من حدة المعارك على السلط وعمان التين كانتا تعيشان أسوء أنواع الارهاب الجماعي عبر قصف جوي عشوائي ألماني وانجليزي ولأشهر بعد سنوات من مصادرة كافة المحاصيل الزراعية واستباحة البيوت ودور العبادة لتخزينها بهندسة عمليات وقيادة ألمانية ونمساوية.
ويذكر أن الجنرال اللنبي أرسل رسالة إلى الأمير فيصل يطلب فيها عدم توسيع عمليات فرسان العشائر الأردنية والجيش الشمالي من التقدم ولكن قيادات الجيش وحوران الأردنية رفضوا طلب الجنرال اللنبي واعتبروه تدخلا في شؤون عمليات التحرير لأرضهم وهم الأخبر بها وأن تحالفهم الآني مع الانجليز ليس بأي موقع يعطيهم الحق باعطاء الأوامر، فارتؤا عمل العكس تماماً بتوسيع العمليات وزيادة نشاطها والتعمق للوصول الى درعا ومحاولة الوصول الى دمشق وتحريرها قبل وصول القوات  البريطانية اليها . وقد تحقق ذلك في تشرين الأول 1918 وتحاول الآلة الاعلامية والأكاديمية المتفوقة الى الآن نسب تحرير دمشق لقوات الحلفاء عكس حقيقة تحريرها من قبل قوات الثورة العربية الكبرى بعمادها الأكبر من فرسان العشائر الأردنية.

فترة الحكم الفيصلي وحكومة الرمثا المحلية

fawwaz
كانت هذه الفترة من أصعب الفترات في عمر الشيخ فواز الذي وضع أمام خيارات صعبة لا يحتملها إلا الرجال أمثاله، فمن جهة كانت حالة الغليان الشعبي في شمال الأردن جراء الاتفاقات البريطانية والفرنسية السرية المتآمرة على الدول العربية والثورة من جهة ومن جهة أخرى موجه للأحداث التي رافقت ذلك في مناطق حوران ومحاولته وضع حل لها، حتى لا تغرق البلاد بحالة الفوضى وعدم الاستقرار.
وبعد انقلاب الفرنسيين على حكومة الملك فيصل واشتعال الثورة في جبل الدروز ومهاجمه قوات الجنرال غورو لمناطق حوارن بعد معركة ميسلون كانت الرمثا في حاله فراغ سياسي وإداري فأعلن الشيخ فواز عن استقلالها الذاتي جتى إنجلاء الأمور ولإبعاد الرمثا عن الاستعمار الفرنسي. وفي هذه الفترة استمر الشيخ فواز بدعمه للثورة السورية وتقديم السلاح والمال والرجال لدعم الثورة السورية وهذا ما توارثه الأردنيون أباً عن جد مع كافة جيرانهم.
واستمرت حكومة الرمثا حتى مجيء الأمير عبدالله سنة 1921 وإعلان امارة شرق الاردن حيث كان الراحل البطل الزعبي أول الداعين للوحدة مع باقي المناطق الأردنية رغم ضياع جزء من أراضيهم التاريخية التي نوه لها في مؤتمر أم قيس.

حياته السياسية وعمله الحزبي

كانت مواقف الشيخ فواز البطولية والقيادية على مدى حياته زاخرة ومليئة بالعمل الوطني والسياسي لما تشهده مواقفه وتصرفاته من الثورات الصغرى وأبرزها في منطقته ثورة حوران عام 1908 إلى الثورة العربية الكبرى وزعامته النضالية ومسيرته في العمل الوطني ورؤيته الوطنية لما فيها من بعد نظر وحنكة وقدرته على ادارة الامور فكان لاعبا أساسيا في تهدئة النزاع الذي حدث في ثورة كليب الشريدة على حكومة علي الركابي نظرا لسوء معاملته وادارته .
وكان الشيخ فواز عضوا في قياده حزب أنصار الحق الذي تأسس في 18 نيسان 1928 وكان نائب الهيئة التنفيذية ومن أبرز الشخصيات في الحزب الذي ضم أيضا كل من علي خلقي الشرايري وعبدالرحيم الخطيب وراشد الخزاعي وصالح بسيسو وشكري شعشاعة وعبدالله الحمود عربيات، طاهر الجقة، محمد الحمود الخصاونة وعادل العظمة وسليمان السودي الروسان وحسين الطراونة وغيرهم من الشخصيات الأردنية الوطنية. والذي كان لهم دور بارز في المؤتمر الوطني الاول وصياغة مقرراته في 25 تموز 1928 .

بقي الشيخ فواز مخلصا ومتفانيا في خدمة قضايا الوطن مناضلاً وسياسياً ورجلاً قادراً على مواجهة كل الأزمات على مر حياته وبحنكته وشجاعته وثقته المستمدة من المنظومة القيمية العشائرية ومسؤوليته والتزامه وممثلاً ومترجما لرؤى الشعب الأردني وهويته حتى وفاته سنة 1931 .

المصادر والمراجع

  1. صور مشرقة من نضال حوران ، أحمد محمد عطالله الزعبي، دمشق دار الشادي 1993.
  2. سلسلة مشاهير في التاريخ الاردني 13 – المجاهد فواز البركات الزعبي، محمود عبيدات ،مطبعة الرفيدي، 2012 .

الشيخ البطل فواز باشا البركات الزعبي

Scroll to top